فصل: تفسير الآيات (116- 117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (110- 112):

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}

.شرح الكلمات:

{كنتم خير أمة}: وُجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الأرض.
{أخرجت للناس}: أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم.
{أذى}: الأذى الضرر اليسير.
{يولوكم الأدبار}: ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم أي ظهورهم.
{ضربت عليهم الذلة}: أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى لا تفارقهم.
{وباءوا بغضب}: رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب الله.
{ذلك بأنهم...} إلخ: ذلك: إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة وما عادوا به من غضب الله تعالى وما تبعه من عذاب. (فالباء) في بأنهم سببيه أي بسبب فلعهم كذا وكذا والمسكنة هي ذلة الفاقة والفقر.
{يعتدون}: الاعتداء مجاوزة الحد في الظلم والشر والفساد.

.معنى الآيات:

لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإِسلام ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنتم خير الناس للناس..» ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال تأمرون بالمعروف وهو الإِسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيّه صلى الله عليه وسلم وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الإِثم والفواحش، وتؤمنون بالله. وبما يتضمنه الإِيمان بالله من الإِيمان بكل ما أمر تعالى بالإِيمان به من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر. ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإِيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عز وجل، ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من الإِسلام لكان خيراً لهم من دعوى الإِيمان الكاذبة التي يدعونها. وأخبر تعالى عنه بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم كعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه، وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك أمر الله تعالى بالإِيمان بالنبي الأميّ واتباعه على ما يجيء به من الإسلام ثم أخبر المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذًى يسيراً كإسماعهم الباطل وقولهم الكذب. وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارّين من القتال ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين.
كما أخبر تعالى في الآية (112) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أيّ البلاد وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو حبل الله، أو معاهد وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل الناس. كما أخبر تعالى عنهم أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب من الله، وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم كما ذكر تعالى علة عقوبتهم وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم المستمر واعتداؤهم الذي لا ينقطع فقال تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.

.من هداية الآيات:

1- إثبات خيرية أمة الإِسلام وفي الحديث: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله».
2- بيان علة خيرية أمة الإِسلام وهي الإِيمان بالله والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- وعد الله تعالى لأمة الإِسلام- ما تمسكت به- بالنصر على اليهود في أي قتال يقع بينهم.
4- صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا.
5- بيان جرائم اليهود التي كانت سبباً في ذلتهم ومسكنتهم وهي الكفر المستمر، وقتل الأنبياء بغير حق والعصيان والاعتداء على حدود الشرع.

.تفسير الآيات (113- 115):

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}

.شرح الكلمات:

{ليسوا سواء}: غير متساوين.
{أمة قائمة}: جماعة قائمة ثابتة على الإِيمان العمل الصالح.
{يتلون آيات الله}: يقرأون القرآن.
{آناء الليل}: ساعات الليل جمع إني وَإِني.
{وهم يسجدون}: يصلون.
{يسارعون في الخيرات}: يبتدرونها خشية الفوات.
{فلن يكفروه}: فلن يجحدوه بل يعترف له به ويجزون به وافياً.

.معنى اللآيات:

بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب وأنه فريقان مؤمن صالح، وكافر فاسد، ذكر هنا في هذه الآيات الثلاث: (113- 114- 115) أن أهل الكتاب ليسوا سواء أي غير متساوين في الحال، وأثنى على أهل الصلاح منهم فقال جل ذكره {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة} أي على الإِيمان الحق الدين الصحيح وهم الذين أسلموا: يتلون آيات الله يقرأونها في صلاتهم آناء الليل أي ساعات الليل في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون وهذا ثناء عليهم بالسجود إذ هو أعظم مظاهر الخضوع لله تعالى كما أثنى تعالى عليهم بالإِيمان الصادق والأمر بالمعروف وهو الدعو إلى عبادة الله تعالى بعد الإِيمان به، والإِسلام الظاهر الباطن له. وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى والكفر به وبرسوله فقال عز وجل: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات} أي يبادرون إليها قبل فواتها والخيرات هي كل قول وعمل صالح من سائر القربات. وشهد تعالى لهم بالصلاح فقال: {وأولئك من الصالحين}.
وأخيراً في الآية الأخيرة (115) أن ما يفعلونه من الصالحات وما يأتونه من الخيرات لن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون عليه أتم الجزاء، لأنهم متقون والله عليم بالمتقين فلن يضيع أجرهم.

.من هداية الآيات:

1- فل الثبات على الحق والقيام على الطاعات.
2- فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل.
3- فضل الإِيمان والدعوة إلى الإِسلام.
4- فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.
5- فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران» الحديث.

.تفسير الآيات (116- 117):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}

.شرح الكلمات:

{كفروا}: كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه.
{لن تغني عنهم}: لن تجزى عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، إذ لا مال يومئذ ينفع، ولا بنون.
{مثل}: أي صفة وحال ما ينفقونه لإِبطال دعوة الإِسلام، أو للتصدق به.
{الصرّ}: الريح الباردة الشديدة البر التي تقتل الزرع وتفسده.
{الحرث}: ما تحرث له الأرض وهو الزرع.
{ظلموا أنفسهم}: حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار.

.معنى الآيتين:

لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية فقال: إن الذين كفروا أي كذبوا الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحّدوا لن تغني عنه أموالهم ولا أولادهم أي في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإِغناء، لأن الله تعالى غالب على أمره عزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. فيه بيان حكم الله تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: سليم من الشك والشرك والكبر العجب والنفاق.
هذا ما تضمنته الآية: (116) أما الآية (117) فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة وقضت عليه نهائياً فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مثل ما ينفقون- أي أولئك الكفار في هذه الحياة الدنيا أي مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر. كمثل ريح فيها صرّ أي برد شديد أصابت- أي تلك الريح الباردة حرث قوم أي زرعهم النابت فأهلتكه أي أفسدته. فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وما ظلمهم حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والساد فجزاهم الله بالحرمان وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسم. قال تعالى: {وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}.

.من هداية الآيتين:

1- لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.
2- أهل الكفر هم أهل النار وخلودهم فيها محكوم به مقدّر عليهم لا نجاة منه.
3- بطلان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر.
4- استحسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني إلى الأذهان.

.تفسير الآيات (118- 120):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}

.شرح الكلمات:

{بطانة}: بطانة الرجل الذي يطلعهم على باطن أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة.
{من دونكم}: من غيركم أي من غير المسلمين كالكفار وأهل الكتاب.
{لا يألونكم}: لا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.
{خبالاً}: فساداً في أمور دينكم وديناكم.
{ودوا ما عنتم}: أحبّوا عنتكم أي مشقتكم.
{بدت البغضاء}: ظهرت شدة بغضهم لكم.
{أولاء}: هؤلاء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها.
{بالكتاب كله}: أي بالكتب الإِلهية كلها.
{عضوا عليكم الانامل من الغيظ}: من شدة الغيظ عليكم، لأن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ بعض أصبعه على عادة البشر، والغيظ: شدة الغضب.
{حسنة}: ما يحسن من أنواع الخير كالنصر والتأييد والقوة والخير.
{سيئة}: ما يسوءكم كالهزيمة أو الموت أو المجاعة.
{كيدهم}: مكرهم بكم وتبييت الشر لكم.
{بما يعملون محيط}: علماً وقدرة عليه، إذ هم واقعون تحت قهره وعظيم سلطانه.

.معنى الآيات:

لما أخبر تعالى عن مصير الكافرين في الآخرة، وأنذلك المصير المظلم كان نتيجة كفرهم وظلمهم حذر المؤمنين من موالاته دون المؤمنين وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم الغيظ والبغضاء للمسلمين الذي لا يقصرون في العمل على إفساد أحوال المسلمين والذين يسوءهم أن يروا المسلمين متآلفين متحابين أقوياء ظاهرينمنصورين على أهل الشرك والكفر، ويسرهم أيضا أن يروا المسلمين مختلفين أو ضعفاء منكسرين مغلوبين. فقال تعالى- وقوله تعالى- {يا أيها الذين آمنوا} أي بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً.
{لا تتخذوا بطانة} أي أفراداً من دونكم أي من غير أهل دينكم، كاليهود والنصارى والمنافقين والمشركين تستشيرونهم وتطلعونهم على أسراركم وبواطن أموركم. ووصفهم تعالى تعريفاً. بهم فقال: {لا يألونكم خبالاً} يعني لا يقصرون في إفساد أموركم الدينية والدنيوية.
{ودوا ما عنتم} أي أحبوا عنتكم ومشقتكم، فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما يفسد عليكم أموركم ويسبب لكم الكوارث ولامصائب في حياتكم وقوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} وصف آخر مشخص لهؤلاء الأعداء المحرم اتخاذهم بطانة، ألا وهو ظهور البغضاء من أفواههم بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإِسلام وأهله، وما يخفونه من ذلك في صدورهم وهو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم. ويؤكد عز وجل تحذيره للمؤمنين فيقول: {قد بينّا لكم الآيات} المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا {إن كنتم تعقلون} أي الخطاب وما يتلى عليكم ويقال لكم. ثم يقول تعالى معلماً محذراً أنتم أيها المسلمون تحبونهم ولا يحبونكم. قد علم الله أن من بين المؤمنين من يحب بعض الكافرين لعلاقة الإِحسان الظاهرة بينهم فأخبر تعالى عن هؤلاء كما أن رحمة المؤمن وشفقته قد تتعدى حتى لأعدائه لفذا ذكر تعالى هذا وأخبر به وهو الحق، وقال: {تؤمنون بالكتاب كله} أي وهم لا يؤمنون بكتابكم فانظروا إلى الفرق بينكم وبينهم فكيف إذاً تتخذونهم بطانة تفضون إليهم بأسراركم.
وأخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين قالوا إنا مؤمنون وإذا انفردوا عنهم وخلوا بأنفسهم ذكروهم وتغيظوا عليهم حتى يعضوا أطراف أصابعهم من شدة الغيظ. فقال تعالى: {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} وهنا أمر رسوله أن يدعوا عليهم بالهلاك فقال له: قل يا رسولنا لهم {موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} فلذا أخبر عنهم كاشفاً الغطاء عما تكنه نفوسهم ويخفونه في صدورهم.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (118) والثانية (119) وأما الثالثة (120) فقد تضمنت أيضا بيان صفة نفسيّة للكافرين المنهى عن اتخاذهم بطانة وهو استياؤهم وتألمهم لما يرونه من حسن حال المسلمين كإتلافهم واجتماع كلمتهم ونصرهم وعزتهم وقوتهم وسعة رزقهم، كما هو أيضاً فرحهم وسرورهم بما قد يشاهدونه من خلاف بين المسلمين أو وقوع هزيمة لجيش من جيوشهم، أو تغير حال عليهم بما يضر ولا يسر وهذه نهاية العداوة شدة البغضاء فهل مثل هؤلاء يتخذون أولياء؟ اللهم لا. فقال تعالى: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا به}. ولما وصف تعالى هؤلاء الكفرة بصفات مهيلة مخيفة قال لعبادة المؤمنين مبعداً الخوف عنهم: وإن تصبروا على ما يصيبكم وتتقوا الله تعالى في أمره ونهيه وفي سننه في خلقه لا يضركم كيدهم شيئاً، لأن الله تعالى وليّكم مطلع على تحركاتهم وسائر تصرفاتهم وَسَيُحْبِطُها كلها، دل على هذا المعنى قوله في الجملة التذيلية {إن الله بما يعملون محيط}.

.من هداية الآيات:

1- حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامّة وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإِسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير.
2- بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين.
3- بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر الفساد للمسلمين.
4- الوقاية من كيد الكفار ومكرهم تكمن في الصبر والتجلد وعدم إظهار الخوف للكافرين ثم تقوى الله تعالى بإقامة دينه ولِزوم شرعه والتوكل عليه، والأخذ بسننه في القوة والنصر.

.تفسير الآيات (121- 123):

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}

.شرح الكلمات:

{وإذ غدوت}: أي واذكر إذ غدوت، والغدوّ: الذهاب أول النهار.
{من أهلك}: أهل الرجل زوجه وأولاده. ومن لابتدء الغاية إذ خرج صلى الله عليه وسلم صباح السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء.
{تبوّئ المؤمنين}: تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة.
{هَمَّتُ}: حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجّهت إرادتها إلى ذلك.
{طائفتان}: هما بنو سلمة، وبنو حارثة من الأنصار.
{تفشلا}: تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم.
{والله وليهما}: متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة.
{ببدر}: بدر اسم رجل وسمي المكان به لأنه كان له فيه ماء وهو الآن قرية تبعد عن المدينة النبويّة بنحو من مائة وخمسين ميلاً... كيلو متر.
{وأنتم أذلة}: لقلة عَدَدكم وعُدَدِكُمْ وتفوّق العدو عليكم.

.معنى الآيات:

لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ذكرهم بموقفين أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة وهو غزوة أحد، والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم وهو غزوة بدر، فقال تعالى: {وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال} أي اذكر يا رسولنا لهم غدوّك صباحاً من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد، تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال أي تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، والله سميع لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو، أو عدمه وقتاله داخل المدينة عليم بنياتكم وأعمالكم ومن ذلك هَمَّ بني سلمة وبين حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلم فعصمهما من الرجوع لأنه وليهما. هذا معنى قوله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} أي تجبْنا وتُحْجمَا عن ملاقاة العدو، والله وليهما فعصمهما من ذنب الرجوع وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض المعركة بدون جناحيها وهما بنو حارثة وبنوا سلمة {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} فتوكلت الطائفتان على الله وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمهما الله من ذر ذنب وأقبحه. والحمد الله.
هذا موقف والمقصود منه التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة واستشهد من الأنصار سبعون ومن المهاجرين أربعة وشج رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته واستشهد عمه حمزة رضي الله عنه.
والموقف الثاني هو غزوة بدر حيث صبر فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين وغنموا غنائم طائلة قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم إذلة} فاتقوا الله بالعمل بطاعته، ومن ذلك ترك اتخاذ بطانة من اعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نعم الله عليكم فيزيدكم، فذكر تعالى في هذا الموقف النصر لأنه خير، فقال: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} ولم يقل في الموقف الأول ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة، لأنه تعالى حَيِي كريم فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط وهم يذكرون هزيمتهم فيها ويعملون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر.

.من هداية الآيات:

1- فضيلة الصبر والتقوى وأنهما عدة الجهاد في الحية.
2- استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ.
3- ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار.
4- تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد.