فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (16- 18):

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}

.شرح الكلمات:

{وإبراهيم}: أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإِبراهيم، وعلى قراءة الرفع: ومن المرسلين إبراهيم.
{اعبدوا الله واتقوه}: أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه.
{أوثاناً}: أصناماً وأحجاراً وصُوراً وتماثيل.
{وتخلقون إفكاً}: أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها.
{فابتغوا عند الله الرزق}: أي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس.
{واعبدوه}: أي بالإِيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته.
{وإن تكذبوا}: أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الايات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم.
{وما على الرسول}: أي محمد صلى الله عليه وسلم.
{إلا البلاغ المبين}: وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله.

.معنى الآيات:

هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإِيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى: {وإبراهيم} أي واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا {إذ قال لقومه} البابليين ومن بينهم والده آزَرْ يا قوم {اعبدوا الله} أي بتوحيده في عبادته {واتقواه} بترك الشرك والعصيان وإلا حلَّت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله: {ذلكم خير لكم} أي الإِيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان. إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر {إن كنتم تعلمون} الخير والشر وتفرقون بينهما وقوله عليه السلام {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً} يخبرهم معرفاً لهم بخطئهم فيقول {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً} أي أصناماً وتماثيل وعبادة الأصنام والأوثان عبادة باطلة لا تجلب لكم نفعاً ولا تدفع عنكم ضراً. إن الذي يجب أن يعبد الله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت السميع البصير. أما الأوثان فلا شيء في عبادتها إلا الضلال واتباع الهوى. وقوله لهم {وتخلقون إفكاً} أي وتصنعون كذباً تختلقونه اختلاقاً عندما تقولون في التماثيل والأصنام إنها آلهة. وقوله عليه السلام لقومه {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً} يخبرهم عليه السلام معرفاً لهم بحقيقة هم عنها غافلون وهي أن الذين يعبدونهم من دون الله لا يملكون لهم رزقاً لأنهم لا يقدرون على ذلك فما الفائدة إذاً من عبادتهم وما الحاجة الداعية إليها لولا الغفلة والجهل، ولما ابطل لهم عبادة الصنام أرشدهم غلى عبادة الله الواحد القهار فقال: {فابتغوا عند الله الرزق} إن كنتم عبدتم الأصنام لذلك فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فاطلبوا عنده الرزق فإنه مالكه والقادر على إعطائه {واعبدوه} بالإِيمان به وبرسوله وبتوحيده {واشكروا له} يرزقكم ويحفظ عليكم الرزق وقوله: {إليه ترجعون} ذكّرهم بعلة غفلتهم ومَصْدَر جهلهم وهي كفرهم بالبعث فأعلمهم أنهم إليه تعالى لا إلى غيره يرجعون.
إذاً فليتعرفوا إليه ويعبدوه طلباً لرضاه وإكرامهم يوم يلقونه.
وقوله تعالى: {وإن تكذبوا} أي يا أهل مكة رسولنا وتنكروا وحينا وتكفروا بلقائنا فلستم وحدكم في ذلك. {فقد كذب أمم من قبلكم} قوم نوح وعاد وفرعون وقوم غبراهيم واصحاب مدين وغيرهم {وما على الرسول} أي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين وقد بلغكم وأنتم الآن بين خيارين لا ثالث لهما:
الأول أن تتعظوا بما أسمعناكم وأريناكم من آياتنا فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا فتكملوا وتسعدوا وإما أن تبقوا على إصراركم على الشرك والكفر والعصيان فسوف يحل بكم ما حل بأمثالكم، إذ كفاركم ليسوا بخير من كفار أولئكم الذين انتقم الله منهم وأذاقهم سوء العذاب. هذا ما دلت عليه الآية (18) وهي معترضة بين الآيات التي اشتملت على قصص إبراهيم عليه السلام. وسر الاعتراض هو وجود فرصة في سياق الكلام قد تلفت أنظار القوم وتأخذ بقلوبهم إذ الايات كلها مسوقة لهدايتهم.

.من هداية الآيات:

1- وجوب عبادة الله وتقواه طلباً للنجاة من الخسران في الدارين.
2- بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادة الله عن طريق الأدلة العقلية.
3- ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداة لا يملك ذلك لهم.
4- وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده.
5- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيب المشركين من أهل مكة.

.تفسير الآيات (19- 23):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}

.شرح الكلمات:

{أولم يروا}: أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم.
{يبدئ الله الخلق}: أي كيف يخلق المخلوق ابتداء.
{ثم يعيده}: أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإِعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإِعادة.
{إن ذلك}: أي أن الخلق الأول والثاني هو الاعادة.
{على الله يسير}: أي سهل لا صعوبة فيه، فكيف إذاً ينكر المشركون البعث.
{قل سيروا في الأرض}: أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه، تستدلون بذلك على قدرته على البعث الآخر.
{ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}: أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون.
{وإليه تقلبون}: أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلاً.
{وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء}: أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم.
{وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}: ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى.
{يئسوا من رحمتي}: أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الايات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في الدار الآخرة. قال: {أولم يروا} أي أولئك المنكرون للبعث، أيكذبون؟، ولم ينظروا كيف يبدئ الله الخلق أي خلق الإِنسان، فإن ذلك دال على إعادته متى أراد الله الخالق ذلك، ثم هو تعالى يعيده متى شاء، {إن ذلك} أي الخلق والإِعادة بعد الفناء والبلى {على الله يسير} سهل لا يتعذر عليه أبداً.
وقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض} أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر {سيروا في الأرض} شرقاً وغرباً {فانظروا كيف بدأ} تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض، وسماء، وانهار، وأشجار، وحيوان، وإنسان، إنها كلها كانت عدماً فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} وذلك بأن يعيد حياة الإنسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيراً أو شراً، {إن الله على كل شيء قدير} إذاً فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون. وقوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإِيمان وصالح الأعمال فيدخلهم جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإِيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإِيمان والصالحات. وقوله: {وإليه تقلبون} أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله: {وما أنتم بمعجزين} أي الله تعالى {في الأرض ولا في السماء} بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم الهرب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال.
وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تُغلَبون ولا تُعذبون وقوله تعالى: {والذين كفروا بآيات الله} التي جاءت بها رسله {ولقائه} وهو البعث الآخر الموجب للوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء هذا إن كان للعبد ما يحاسب عليه من الخير، أما إن لم يكن له حسنات فإنه يُلقى في جهنم بلا حساب ولا وزن إذ ليس له من الصالحات ما يوزن له ويحاسب به، ولذا قال تعالى: {أولئك} أي المكذبون بآيات الله ولقائه {يئسوا من رحمتي} إذ تكذيبهم بالقرآن مانع من الإِيمان والعمل الصالح وتكذيبهم بيوم القيامة مانع لهم أن يتخلوا عن الشرك والمعاصي، أو يعملوا صالحاً من الصالحات لتكذيبهم بالجزاء، فهم يائسون من الجنة. {وأولئك لهم عذاب أليم} أي موجع وهو عذاب النار في جهنم والعياذ بالله تعالى.

.من هداية الآيات:

1- وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية.
3- تقرير عجز الإنسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم بالإِيمان والتقوى.
4- إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال، وسيعذبون في نار جهنم أشد العذاب.

.تفسير الآيات (24- 25):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}

.شرح الكلمات:

{فما كان جواب قومه}: أي قوم إبراهيم عليه السلام.
{إلا أن قالوا اقتلوه}: أي إلا قولهم اقتلوه أو احرقوه.
{إن في ذلك لآيات}: أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالماً.
{لقوم يؤمنون}: لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم.
{أوثاناً مودة بينكم}: أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك.
{في الحياة الدنيا}: أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا.
{يكفر بعضكم ببعض}: أي يكفر المتبوعون بأبتابعهم ويتبرأون منهم.
{يولعن بعضكم بعضاً}: يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في قصص إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لمَّا أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم: أي {فما كان جواب قومه} فما كان جوابهم أي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها، وقال الله جل جلاله للنار {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فكانت كما أُمرت وخرج إبراهيم سالماً لم تحرق النار سوى كتافه الذي شد به يداه ورجلاه. وهو ما دل عليه قوله تعالى: {فأنجاه الله من النار} وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح برداً وسلاماً على إبراهيم فلم تحرقه، (آيات) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون. أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإِيمان بمثابة الروح في البدن فإن وجد في القلب حيي الجسم وان فارقه فالجسم ميت فلا العين تبصر الأحداث ولا الأذن تسمع الايات. وقوله: {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا} هذا من جملة قول إبراهيم لقومه وهو يعظهم ويرشدهم فأخبرهم بحقيقة يتجاهلونها وهي أ، هم ما اتخذذوا تلك الأوثان آلهة يعبدونها إلا لأجل التعارف عليها والتوادد والتحاب من أجلها، فيقيمون الأعياد لها ويجتمعون حولها فيأكلون ويشربون لا أنهم حقيقة يعتقدون أنها آلهة وهي أحجار نحوتها بأيديهم ونصبوها تماثيل في سوح دورهم وأمام منازلهم {ويوم القيامة} أي في الآخرة فالعكس هو الذي سيحدث لهم حيث {يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} أي يكفر المتبوعون وهم الرؤساء بمن اتبعوهم وهم الأتباع من الدهماء وعوام الناس، {ويلعن بعضكم بعضاً} كل من الأتباع والمتبوعين يطلب بعد الآخر عنه، وعدم الاعتراف به وذلك عند معاينة العذاب ولم تبق تلك الروابط والصلات التي كانت لهم في هذه الحياة!! وقوله: {ومأواكم النار} أي ومقركم الذي يؤويكم جميعاً فتستقرون فيه هو النار {وما لكم من ناصرين} بعد أن أذلكم الله الذي أشركتم به أوثاناً، فجعلتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا.

.من هداية الآيات:

1- تقرير أن الظَّلمَة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة.
2- في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك، ومن هنا تكون الكرامات والمعجزات إذْ هي خوارق للعادات.
3- بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا}.

.تفسير الآيات (26- 27):

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}

.شرح الكلمات:

{فآمن له لوط}: أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه.
{مهاجر إلى ربي}: أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني.
{ووهبنا له إسحاق ويعقوب}: أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم إسحاق الابن ويعقوب الحفيد.
{في ذريته النبوة والكتاب}: فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته.
{وآتيناه أجره في الدنيا}: وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإِلهية.
{وإنه في الآخرة لمن الصالحين}: أي هو أحدهم، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده.

.معنى الآيات:

هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى: {فآمن له لط وقال} أي إبراهيم {إني مهاجر إلى ربي} فترك بلاد قومه من سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء هجرته إلى ربه عز وجل بما أخبر به في هذا السياق حيث قال: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} وهبه أي أعطاه ولده إسحاق بن سارة وولد إسحاق وهو يعقوب، وجعل كافة الأنبياء من ذريته وجعل الكتاب فيهم أيضاً فالتوراة أنزلت على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى وهم من ذرية إبراهيم، والقرآن الكريم أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وقول إبراهيم هو كما قال: {إني مهاجر إلى ربي} وصف به بالعزة والحكمة. فقال: {إنه هو العزيز الحكيم} أي الغالب القاهر {الحكيم} الذي وضع كل شيء في موضعه، ودلائل العزة ان أنجى إبراهيم من أيدي الظلمة الطغاة ومن مظاهر الحكمة أن نقله من أرض لا خير فيها إلى أرض كلها خير وأكرمه فيها بما ذكر في قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} وقوله تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا} حيث رزقه أطيب الأرزاق في دار هجرته ورزقه الثناء الحسن من كل أهل الأديان الإِلهية كاليهودية والنصرانية، والإِسلام وهو خاتم الأديان هذا في الدنيا أما في الآخرة فإنه من الصالحين ذوي الدرجات العلا والمنازل العالية في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

.من هداية الآيات:

1- بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه السلام وفي هذا تسلية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
2- بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره.
3- بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى.

.تفسير الآيات (28- 30):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)}

.شرح الكلمات:

{ولوطاً إذا قال لقومه}: أي واذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سَدُوم.
{أئنكم لتأتون الفاحشة}: أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم.
{ما سبقكم بها من أحدٍ}: أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم.
{وتقطعون السبيل}: أي باعتدائكم على المارة في سبيل فامتنع الناس من المرور خوفاً منكم.
{وتأتون في ناديكم المنكر}: أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإِزار والفاحشة أي اللواط.
{فما كان جواب قومه}: أي إلا قولهم أئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.

.معنى الآيات:

هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه أهل سَدُوم وعموريّة والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لايتم لأحد إلاَّ من طريق الوحي، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى: واذكر يا رسولنا لقومك لوطاً {إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة} وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحاً أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين، ثم واصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول: {ائنكم لتأتون الرجال} أي في أدبارهم {وتقطعون السبيل} وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسراً وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا السبيل بقطع سبيل الولادة، وزاد لوط في تأنيبهم والإِنكار عليهم والتوبيخ لها فقال: {وتأتون في ناديكم المنكر} والنادي محل اجتماعهم وتحدثهم وإتيان المنكر فيه كان بارتكاب الفاحشة مع بعضهم بعضاً، وبالتضارط فيه، وحل الإِزار، والقذف بالحصى وما غلى ذلك مما يؤثر عنهم من سوء وقبح. قال تعالى: {فما كان جواب قومه} بعد ان أنبهم ووبخهم ناهيا لهم عن مثل هذه الفواحش {إلا ان قالوا إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} أي ما كان جوابهم إلا المطالبة بعذاب الله، وهذه طريقة الغلاة المفسدين والظلمة المتكبرين، إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى القوة يستعملونها أو يطالبون بها. وقوله تعالى: {قال رب انصرني على القوم المفسدين} أي لما طالبوه بالعذاب، وقد أعياه أمرهم لجأ إلى ربه يطلب نصره على قومه الذين كانوا شر قوم وجدوا على وجه الأرض واستجاب الله تعالى له ونصره وسيأتى بيان ذلك في الآيات بعد.

.من هداية الآيات:

1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم من اجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب.
3- قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط.
4- وجوب إقامة الحد على اللوطيّ الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حداً للزنى فاللوطية تقاس عليه، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس.
5- التحذير من العبث والباطل قولاً أو عملاً وخاصة في الأندية والمجتمعات.

.تفسير الآيات (31- 35):

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}

.شرح الكلمات:

{بالبشرى}: أي إسحاق ويعقوب بعده.
{هذه القرية}: أي قرية لوط وهي سدوم.
{قالوا نحن أعلم بمن فيها}: أي قالت الرسل نحن اعلم بمن فيها.
{كانت من الغابرين}: أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب.
{سيء بهم}: أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.
{وضاق بهم ذرعاً}: أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء.
{رجزاً}: أي عذاباً من السماء.
{بما كانوا يفسقون}: أي بسب فسقهم وهو إتيان الفاحشة.
{ولقد تركنا منها آية}: أي تركنا من قرية سدوم التي دمرناها آية بينة وهي خرابها ودمارها وتحولها إلى بحر ميت لا حياة فيه.
{لقوم يعقلون}: أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في قصص لوط عليه السلام، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتنا بعذاب الله ‘ن كنت من الصادقين وأنه عليه السلام استنصر ربه تعالى عليهم، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته، قال تعالى: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم} الخليل عم لوط {بالبشرى} التي هي ولادة ولدٍ له هو إسحاق ومن بعده يعقوب ولد إسحاق عليه السلام كما قال تعالى: {وبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}. {قالوا} أي قالت الملائكة لإِبراهيم {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم {إن أهلها كانوا ظالمين} أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم: {إن فيها لوطاً} ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا: {نحن أعلم بمن فيها} منك يا إبراهيم. {لننجينه وأهله} من الهلاك {إلا امرأته كانت من الغابرين} وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها ومُمَالأَتها للظالمين.
وقوله تعالى: {ولما أن جاءت رسلنا لوطاً} أي ولما وصلت الملائكة لوطاً قادمين من عند إبراهيم من فلسطين {سيء بهم وضاق بهم ذرعاً} أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفاً من قومه أن يسيئوا إليهم، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة من طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله: {وقالوا لا تخف} أي علينا {ولا تحزن} على من سيهلك من اهلك مع قومك الظالمين. {إنا منجوك} من العذاب أنت وأهلك أي زوجتك المؤمنة وبنتيك، {إلا امرأتك} أي العجوز الظالمة فإنها {من الغابرين} الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين. وقوله تعالى في الآية (34): {إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} أي أخبرت الملائكة لوطاً بما هم فاعلون لقومه وهو قولهم {إنا منزلون على أهل هذه القرية} أي مدينة سدوم {رجزاً} أي عذاباً من السماء وهي الحجارة بسبب فسقهم بإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم غليها أحد من العالمين.
قال تعالى: {ولقد تركنا منها} أي من تلك القرية {آية بيّنة}، أي عظة وعبرة، وعلامة واضحة على قدرتنا على إهلاك الظالمين والفاسقين. وقوله تعالى: {لقوم يعقلون} إذ هم الذين يتدبرون في الأُمور ويستخلصون أسبابها وعواملها ونتائجها وآثارها أما غير العقلاء فلا حظ لهم في ذلك ولا نصيب فهم كالبهائم التي تنساق إلى النجزرة وهي لا تدري وفي هذا تعريض بمشركي مكة وما هم عليه من الحماقة والغفلة.

.من هداية الآيات:

1- حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله.
2- تقرير مبدا: من بطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها.
3- مشروعية الضيافة وتأكيدها في الإِسلام لحديث الصحيح: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
4- التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب.
5- فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر.