فصل: تفسير الآيات (19- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (13- 18):

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)}

.شرح الكلمات:

{فإن أعرضوا}: أي كفار قريش عن الإِيمان والتوحيد بعد ذلك البيان المفصل.
{فقل أنذرتكم صاعقة}: أي خوّفتكم صاعقة تنزل بكم فتهلككم إن أصررتم على هذا الكفر.
{من بين أيديهم ومن خلفهم}: أي أتتهم رسلهم تعرض عليهم دعوة الحق من أمامهم ومن ورائهم.
{لو شاء ربنا لأنزل ملائكة}: أي بدلاً عنكم أيها الرسل من البشر.
{بغير الحق}: أي بغير أن يأذن الله لهم بذلك العلو والاستكبار والتَّجبُّر.
{ريحاً صرصراً}: أي ذات صوت يسمع له صرصرة مع البرودة الشديدة.
{في ايام نحسات}: أي مشئومات عليهم لم يفلحوا بعدها.
{ولعذاب الآخرة أخزى}: أي أشد خزياً من عذاب الدنيا.
{فاستحبوا العمى على الهدى}: أي استحبوا الكفر على الإِيمان إذ الكفر ظلام والإِيمان نور.
{الذين آمنوا وكانوا يتقون}: أي الشرك والمعاصي.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في طلب هداية قريش فقال تعالى: {فإن أعرضوا} بعد ذلك البيان الذي تقدم لهم في الآيات السابقة المبين لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجب للإِيمان ولقائه وتوحيده فقل لهم أنذرتكم أي خوفتكم صاعقة تنزل بكم إن أصررتم على إعراضكم مثل صاعقة عادٍ وثمود أي عذاباً مهلكاً كالذي أهلك الله به عاداً وثموداً.
وقوله: {إذ جاءتهم الرسل} وهم هود وصالح من بين أيديهم ومن خلفهم كناية أن الرسول بلغهم دعوة الله لهم إلى الإِيمان والتوحيد بعناية فائقة يأتيهم من أمامهم ومن خلفهم يدعوهم، قائلاً لهم: لا تعبدوا إلا الله فإنه الإِله الحق وما عداه فباطل فكان جوابهم لهم لا نؤمن لكم ولا نقبل منكم لو شاء الله ما تقولون لنا لأزنل به ملائكة يدعوننا إليه لا أن يرسل مثلكم من البشر وأخيراً قالوا لهم فإننا بما ارسلتم به كافرون فأياسوا الرسل من إجابتهم. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (12) والثانية (13) وفي الآية الثالثة (14) بين تعالى حال القوم كلا على حدة فقال فأما عاد أي قوم هود فاستكبروا في الأرض بغير الحق فحملهم الكبر الناجم عن القوة المادية على رفض دعوة هود عليه السلام وقالوا فيه وفي دعوته الكثير وقد مر في سورة هود ويأتي في سورة الأحقاف مفصلا ما أجمل هنا، وقوله بغير الحق أي أن استكبارهم لاحق لهم فيه أولا لضعفهم أمام قوة الله عز وجل، وثانيا لم يأذن الله تعالى لهم بالاستكبار فهو بغير حق غذاً. وقوله: {وقالوا من أشد منا قوة} وهذا منهم تحد صريح وعلو وعتو واضحان، ولذا تحداهم الله تعالى بالقوة فقال عز وجل أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة أي أعَموا ولم يروا أن الله الذي خلقهم قطعا هو أشد منهم قوة: إذ كل قوة لهم مصدرها الله هو خالقهم وواهب القوة لهم، فقوتهم ليست ذاتية ولكنها موهوبة إذ يُخلق أحدهم وهو لا يقدر على دفع أدنى شيء عن نفسه وقوله: {وكانوا بآياتنا يجحدون} هذا تسجيل عيهم أكبر ذنب وهو جحودهم بآيات الله التي جاء بها رسول الله هود عليه السلام كما جحدت قريش آيات الله، وقوله تعالى: {فأرسلنا} أي بمجرد أن تأكد كفرهم بجحودهم بآيات الله أرسل الله تعالى عليهم ريحا صرصراً أي باردة ذات صوت مزعج دامت سبع ليال وثمانية أيام فلم تبق منهم أحداً وهي ايام نحسات عيهم مشؤمات قال تعالى: {لنذيقهم} أي أرسلناها عليهم لنذيقهم {عذاب الخزي في الحياة الدنيا}.
{ولعذاب الآخرة أخزى} أي اشد خزيا وإهانة لهم وذلة، وهم لا ينصرون أي لا ناصر لهم من الله عز وجل. هذا بيان حال عاد. وأما ثمود فقد قال تعالى وأما ثمود قوم صالح فاستحبوا الضلال على الهدى والكفر على الإِيمان وقتلوا الناقة وهَمُّوا بقتل صالح فأخذتهم صاعقة العذاب الهون وذلك صباح السبت فأخذتهم صيحة انخلعت لها قلوبهم فرجفت الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم، وذلك بما كانوا يكسبون من الشرك والظلم والكفر والعناد. ونجَّى الله تعالى صالحاً ومن معه من المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون الشرك والمعاصي وكانوا أربعة آلاف مؤمن ومؤمنة وهو معنى قوله تعالى في ختام الحديث: ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون.

.من هداية الآيات:

1- التحذير من الإِعراض عن إجابة دعوة الحق، والاستمرار في التمرد والعصيان.
2- تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله.
3- دعوة الرسل واحدة وهي الأمر بالكفر بالطاغوت، والإِيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات.
4- التنديد بالاستكبار وأنه سبب الكفر والعصيان.
5- لا مصيبة إلا بذنب {بما كانوا يكسبون} أي من الذنوب.
6- الإِيمان والتقوى هما سبيل النجاة من العذاب في الدنيا والآخرة وهما ركنا الولاية ولاية الله تعالى لقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.

.تفسير الآيات (19- 24):

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}

.شرح الكلمات:

{فهم يوزعون}: أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم ليساقوا إلى النار مجتمعين.
{حتى إذا ما جاءوها}: أي حتى إذا جاءوها أي النار.
{بما كانوا يعملون}: أي من الذنوب والمعاصي.
{وهو خلقكم أول مرة}: أي بدأ خلقكم في الدنيا فخلقكم ثم أماتكم ثم أحياكم.
{وما كنتم تسترون}: أي عند ارتكابكم الفواحش والذنوب أي تستخفون من أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم فتتركوا الفواحش والذنوب.
{ولكن ظننتم أن الله لا يعلم}: أي ولكن عند ارتكابكم الفواحش ظننتم أن الله لا يعلم ذلك منكم.
{أرداكم}: أي أهلككم.
{فإن يصبروا فالنار مثوى لهم}: أي فإن صبروا على العذاب فالنار مثوى أي مأوى لهم.
{وإن يستعتبوا}: أي يطلبوا العتبى وهي الرضا فلا يعتبون أي لا يرضى عنهم هذه حالهم أبداً.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وفي هذا السياق عرض لمشهد من مشاهد القيامة وهو مشهد حَيْ رائع بعرض أمامهم.
إذ يقول تعالى: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار أي اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله أي الذين كفروا به فلم يؤمنوا ولم يتقوا؛ غلى النار فهم يوزعون يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيساقون مع بعضهم بعضا. حتى إذا ما جاءوها أي انتهوا غليها، وادعوا أ، هم مظلومون وأخذوا يتنصَّلون من ذنوبهم، وقالوا إنهم لا يقبلون شاهداً من غير أنفسهم فيأمر الله تعالى أمساعهم وابصارهم وجلودهم فتشهد عليهم بما كانوا يعملون، وهو قوله تعالى: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} وهنا رجعوا غلى جلودهم يلومون عليهم ويعتبون وهو ما أخبر تعالى به في قوله: {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا} فأجابتهم جلودهم بما أخبر تعالى عنهم في هذا السياق {قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة} أي النشأة الأولى في الدنيا ثم أماتكم ثم أحياكم {وإليه ترجعون} وها أنتم قد رجعتم فالقادر على هذا كله قادر على أن ينطقنا وعلى كل شيء اراد إنطاقه، وقوله: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} أي وما كنتم تستخفون فتتركوا محارم الله بل كنتم تجاهرون بذلك لعدم غيمانكم بالبعث والجزاء {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم} وهو ظن شيء {أرداكم} أي أهلككم {فأصبحتم من الخاسرين} الذي خسروا أنفسهم وأهيهم يوم القيامة وهذا هو الخسران المبين وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق (23): {فإن يصبروا} أي أعداء الله الذين شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم {فالنار مثوى} أي مأوى لهم لا يخرجون منها أبداً، {وإن يستعتبوا} أي يطلبوا العتبى أي الرضا فيرضى عنهم فيدخلوا الجنة {فما هم من المعتبين} أي فما هو بحاصل لهم أبداً فهم إذاً بشرِّ التقديرين والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.

.من هداية الآيات:

1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها.
2- التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب فإن جوارح المرء تشهد عليه.
3- التحذير من سوء الظن بالله تعالى ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه.
أولا يعلم ما يرتكبه، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه.
4- وجوب حسن الظن بالله تعالى وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات ولاسيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف كالكبر ونحوه فيغلب جانب الرجاء على جانب الخوف.

.تفسير الآيات (25- 29):

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}

.شرح الكلمات:

{وقيضنا لهم قرناء}: أي وبعثنا لكفار مكة المعرضين قرناء من الشياطين.
{فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}: أي حسنوا لهم الكفر والشرك، وإنكار البعث والجزاء.
{وحق عليهم القول في أمم قد خلت}: أي وجب لهم العذاب في أمم مضت قبلهم من الجن والإِنس.
{والغوا فيه لعلكم تغلبون}: أي الغطوا فيه بالباطل إذا سمعتم من يقرأه.
{ولنجزينهم اسوأ الذي كانوا يعملون}: أي بأقبح جزاء أعمالهم التي كانوا يعملون.
{أعداء الله}: أي من كفروا به ولم يتقوه.
{أرنا اللذين أضلانا من الجن والإِنس}: أي إبليس من الجن، وقابيل بن آدم.
{نجعلهما تحت أقدامنا}: أي في أسفل النار ليكونا من الأسفلين.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في دعوة المعرضين من كفار قريش، فقال تعالى: {وقيضنا لهم} أي بعثنا لهم قرناء من الشياطين، وذلك بعد أن أصروا على الباطل والشر فخبثوا خبثا سَهَّلَ لأخباث الجن الاقتران بهم فزينوا لهم الكفر والمعاصي القبيحة في الدنيا فها هم منغمسون فيها، كما زينوا لهم الكفر بالبعث والجزاء وإنكار الجنة والنار حتى لا يقصروا في الشر ولا يفعلوا الخير أبداً، وهو معنى قوله تعالى: {فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}.
وقوله تعالى: {فحق عليهم القول} أي بالعذاب {في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإِنس إنهم كانوا خاسرين} في حكم الله وقضائه بمقتضى سنة الله في الخسران.
هذا ما دلت عليه الأولى (25) وهي قوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإِنس إنهم كانوا خاسرين}.
وقوله تعالى في الآية الثانية (26): {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} يخبر تعالى عن أولئك المعرضين عن كفار قريش وأنهم قالوا لبعضهم لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا تتأثروا به، والغوا فيه أي الغطوا وصيحوا بكلام لهو وصفقوا وصفروا حتى لا يتأثر به من يسمعه من الناس لعلكم تغلبون أي رجاء أن تغلبوا محمداً على دينه فتبطلوه ويبقى دينكم. وهذا منتهى الكيد والمكر من أولئك المعرضين عن دعوة الإِسلام.
وكان رد الله تعالى على هذا المكر في الآية التالية (27) فلنذيقنَّ الذين كفروا عذابا شديداً يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأنه سيذيق الذين كفروا عذاباً شديداً وذلك يوم القيامة وليجزينَّهم أسوأ أي أقبح الذي كانوا يعملون أي يجزيهم بحسب اقبح سيئاتهم التي كانوا يعملون. ثم قال تعالى: ذلك الجزاء المتوعَّد به الذين كفروا هو جزاء أعداء الله الذين حاربوا رسوله ودعوته وحتى كتابه أيضا. وذلك الجزاء هو النار لهم فيها دار الخلد أي الإِقامة الدائمة جزاء بما كانوا بأياتنا يجحدون فلم يؤمنوا بها ولم يعملوا بما فيها وقوله تعالى في الآية (29) وقال الذين كفروا الآية يخبر تعالى عن الكافرين وهم في النار إذ يقولون ربَّنا أي يا ربنا أرنا اللَّذين أضلانا من الجن والإِنس أي اللذين كانا سببا في إضلالنا بتزيينهم لنا الباطل وتقبيحهم لنا الحق ارناهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار ليكونا من الأسفلين أي في الدرك الأسفل من النار إذا النار دركات واحدة تحت الأخرى.

.من هداية الآيات:

1- بيان سنة الله تعالى في العبد إذا أعرض عن الحق الذي هو الإسلام فخبث من جراء كسبه. الشر والباطل وتوغله في الظلم والفساد يبعث الله تعالى عليه شيطاناً يكون قريناً له فزين له كل قبيح، ويقبح له كل حسن.
2- بيان ما كان المشركون يكيدون به الإِسلام ويحاربونه به حتى باللغو عند قراءة القرآن حتى لا يسمع ولا يهتدي به.
3- تقرير البعث والجزاء.
4- بيان نقمة أهل النار على من كان سببا في إضلالهم وإغوائهم، ومن سن لهم سنة شر يعملون بها كإبليس، وقابيل بن آدم عليه السلام. إذ الأول سن كل شر والثاني سن سنة القتل ظلما وعدوانا.

.تفسير الآيات (30- 32):

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}

.شرح الكلمات:

{قالوا ربنا الله}: قالوا ذلك معلنين عن إِيمانهم بأن الله هو ربهم الذي لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه.
{ثم استقاموا}: أي ثبتوا على ذلك فلم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتركوا عبادة الله بفعل الأوامر وترك النواهي.
{تتنزل عليهم الملائكة}: أي عند الموت وعند الخروج من القبر بحيث تتلقاهم هناك.
{أن لا تخافوا ولا تحزنوا}: أي بأن لا تخافوا مما أنتم مقبلون عليه فإنه رضوان الله ورحمته ولا تحزنوا عما خلفتم وأراءكم.
{نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة}: أي فبحكم ولايتنا لكم في الدنيا والآخرة فلا تخافوا ولا تحزنوا.
{ولكم فيها ما تدعون}: أي ويلكم فيها ما تطلبون من سائر المشتهيات لكم.
{نزلا من غفور رحيم}: أي رزقا مهياً لكم من فضل رب غفور رحيم.

.معنى الآيات:

لما بين تعالى حال الكافرين في الدار الآخرة وهو أسوأ حال بين حال المؤمنين في الآخرة وهي أحسن حال وأطيب مآل فقد إن الذين قالوا ربنا الله أي لا ربَّ لنا غيره ولا إله لنا سواه، ثم استقاموا فلم يشركوا به في عبادته أحداً فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي وماتوا على ذلك هؤلاء تتنزل عليهم الملائكة أي تهبط عليهم وذلك عند الموت بأن تقول لهم لا تخافوا على ما أنتم مقدمون عليه من البرزخ والدار الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم وابشروا بالجنة دار السلام التي كنتم توعدونها في الكتاب وعلى لسان الرسول. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا إذا كنا نسددكم ونحفظكم من الوقوع في المعاصي، وفي الآخرة نستقبلكم عند الخروج من قبوركم حتى تدخلوا جنة ربكم. ولكم فيها أي في الجنة ما تشتهي أنفسكم من الملاذ ولكم فيها ما تدعون أي تطلبون مما ترغبون فيه وتشتهون. نزلا أي قرًى وضيافة من لدن رب غفور لكم رحيم بكم لا إله إلا هو ولا رب سواه.

.من هداية الآيات:

1- فضل الإِيمان والاستقامة عليه بأداء الفرائض واجتناب النواهي.
2- بشرى أهل الإِيمان والاستقامة عند الموت بالجنة وهؤلاء هم أولياء الله المؤمنون المتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وهي هذه وفي الآخرة عند خروجهم من قبورهم.
3- في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين، ولأحدهم كل ما يطلبه ويدعيه وفوق ذلك النظر إلى وجه الله الكريم وتلقي التحية منه والتسليم.

.تفسير الآيات (33- 36):

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}

.شرح الكلمات:

{ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله}: أي لا أحد أحسن قولا منه أي ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته.
{وعمل صالحاً وقال إنني من وعمل صالحاً وهي شرط أيضاً وقال إنني من المسلمين} المسلمين شرط ثالث.
{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}: أي لا تكون الحسنة كالسيئة ولا السيئة كالحسنة.
{ادفع بالتي هي أحسن}: أي ادفع أيها المؤمن السيئة بالخصلة التي هي أحسن كالغضب بالرضى، والقطيعة بالصلة.
{كأنه ولي حميم}: أي كأنه صديق قريب من محبته لك إذا فعلت ذلك.
{وما يلقاها إلا الذين صبروا}: أي وما يعطي هذه الخصلة التي هي أحسن.
{إلا ذو حظ عظيم}: أي ثواب عظيم وأجر جزيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالخلق الحسن والكمال.
{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ}: أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك خير أو فعل شر.
{فاستعذ بالله}: أي فاستجر بالله قالئلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{إنه هو السميع العليم}: أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بما يصيبهم وينزل بهم.

.معنى الآيات:

لما ذكر تعالى بشرى أهل الإِيمان وصالح الأعمال ذكر هنا بشرى ثانية لهم أيضا فقال: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} هذه ثلاثة شروط الأول دعوته إلى الله تعالى بأن يعبد فيطاع ولا يعص ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر والثاني وعمل صالحاً فأدى الفرائض واجتنب المحارم، والثالث وفاخر بالإِسلام معتزاً به وقال إنني من المسلمين، فلا أحد أحسن قولا من هذا الذي ذكرت شروط كما له، ويدخل في هذا أولا الرسل، وثانيا العلماء، وثالثا المجاهدون ورابعا المؤذنون وخامسا الدعاة الهداة المهديون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (23). وقوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} هذا تقرير إلهي يجب أن يعلم وهو أن الحسنة لا تستوي مع السيئة لا تستوي مع الحسنة فالإِيمان لا يساوى بالكفر، والتقوى لا تساوي بالفجور، والعدل لا يساوى بالظلم.
كما أن جنس الحسنات لا يتساوى، وجنس السيئات لا يتساوى بل يتفاضل فصيام رمضان لا يساوي صيام رجب أو محرم تطوعاً، وسيئة قتل المؤمن لا تستوي مع شتمه أو ضربه وقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} أي بعد أن عرفت يا رسولنا عدم تساوي الحسنة مع السيئة إذا فادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن من غيرها فإذا الذي بينك وبينه عداوة قد انقلب في بره بك واحترامه لك واحتفائه بك كأنه ابن عم لك يحبك ويحترمك ولما كانت هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن لا تتأتى إلا لذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكاملة الشريفة قال تعالى: {وما يلقاها} أي وما يعطي هذه الخصلة {إلا الذين صبروا} فكان الصبر خلقاً من أخلاقهم {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} في الأخلاق والكمال النفسي، في الدنيا، والأجر العظيم وهو الجنة في الآخرة.
وقوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} يرشد الرب تعالى عبده ورسوله وكل فرد من أفراد أمته إن نزغه من الشيطان نزغ بأن وسوس له بفعل شر أو ترك خير، أو خطر له خاطر سوء أن يفزع غلى الله تعالى يستجير به فإن الله تعالى هو السميع العليم فالاستجارة به من الشيطان تَحْمِي العبد وتقيه من وسواس الشيطان وما يلقيه في النفس من خواطر سيئة، ولله الحمد والمنة على هذه الارشاد الرباني الذي لا يستغنى عنه أحد من عباده.

.من هداية الآيات:

1- بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف الدعاة العاملين.
2- فضل الإِسلام والاعتزاز به والتفاخر الصادق به.
3- تقرير أن الحسنة لا تتساوى مع السيئة. كما أن الحسنات تتفاوت والسيئات تتفاوت.
4- وجوب دفع السيئة من الأخ المسلم بالحسنة من القول والفعل.
5- فضل العبد الذي يكمل في نفسه وخلقه فيصبح يدفع السيئة بالحسنة.
6- وجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إذا وسوس أو ألقى بخاطر سوء إذ لا يقي منه ولا يحفظ إلا الله السميع العليم.