فصل: تفسير الآيات (44- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (44- 47):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}

.شرح الكلمات:

{التوراة}: كتاب موسى عليه السلام.
{هدى ونور}: الهدى: ما يوصل إلى المقصود والنور: ما يهدي السائر إلى غرضه.
{هادوا}: اليهود.
{الربانيون}: جمع رباني: العالم المربي الحكيم.
{الأحبار}: جمع حبر: العالم من أهل الكتاب.
{وكتبنا}: فرضنا عليهم وأوجبنا.
{قصاص}: مساواة.
{وقفينا}: أتبعناهم بعيسى بن مريم.
{الفاسقون}: الخارجون عن طاعة الله ورسله.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في الحديث على بني إسرائيل إذ قال تعالى مخبراً عما آتى بني إسرائيل {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} هدى من كل ضلالة ونور مبين للأحكام مُخرج من ظلمات الجهل {يحكم بها النبيون} من بني إسرائيل {النبيون الذين أسلموا} لله قلوبهم ووجوهم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً، {للذين هادوا}، ويحكم بها الربانيون من أهل العلم فلا يبدلونه ولا يغيرون فيها، {وكانوا عليه شهداء} بأحقيته وسلامته من النقص والزيادة بخلافكم أيها اليهود فقد حرفتم الكلم عن مواضعه وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإِيمان به، ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة ولا تخشوا الناس في ذلك واخضوا الله تعالى فهو أحق أن يخشى، ولا تشتروا بآيات الله التي هي أحكامه فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين الله وكتابه. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فكيف ترضون بالكفر بدل الأَيمان.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (44) أما الآية الثانية (45): {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس..} فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود في النفس والقصاص في الحراحات فالنفس تقتل بالنفس، العين تفقأ بالعين والأنف يجدع بالأنف، والأذن تقطع بالأذن والسن تكسر إن كسرت بالسن، وتقلع به إن قلع، والجروع بمثلها قصاص ومساواة وأخبر تعالى أن من تصدق على الجاني بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه، وإن لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائباً أي نادماً على فعله مستغفراً ربه. وقوله تعالى في ختام الآية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أوفقأ بالعين عينين كما كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (46) وهي قوله تعالى: {وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم} فقد أخبر تعالى أنه أتبع أوئلك الأنبياء السابقين من بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أي أرسله بعدهم مباشرة {مصدقاً لما بين يديه من التوراة} لم ينكرها أو يتجاهلها، {وآتيناه الإِنجيل}، أي وأعطيناه الإِنجيل وحياً أوحيناه إليه وهو كتاب مقدس أنزله الله تعالى عليه فيه أي في الإِنجيل هدى من الضلال ونور لبيان الأحكام من الحلال والحرام، {ومصدقاً} أي الإِنجيل لما قبله من التوراة أي مقرراً أحكامها مثبتاً لا إلا ما نسخه الله تعالى منها بالإِنجيل، {وهدى وموعظة للمتقين} أي يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير في طريقهم إلى الله تعالى والمواعظة التامة للاتعاظ بها في الحياة.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية (47) وهى قوله تعالى: {وليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه} أي وقلنا ليحكم أهل الإِنجيل يريد وأمرنا أهل الإِنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام، وأخبرناهم أن من {لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلماً وكفراً.

.من هداية الآيات:

1- وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم.
2- كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض.
3- وجوب القود في النفس والقصاص في الجراحات لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة.
4- من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل بالواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين الواحدة عينان مثلا وهو كفر الاستحلال وظلم في نفس الوقت.
5- مشروعية القصاص في الإِنجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الأحكام وهم مؤمنون بها.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}

.شرح الكلمات:

{الكتاب}: القرآن الكريم.
{من الكتاب}: اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله كالتوراة والإِنجيل.
{مهيمناً عليه}: حاكما عليه أي محققاً للحق الذي فيه، مبطلاً للباطل الذي الْتَصق به.
{شرعة ومنهاجاً}: شريعة تعملون بها وسبيلاً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى.
{أمة واحدة}: لا اختلاف بينكم في عقيدة ولا في عبادة ولا قضاء.
{فاستبقوا}: أي بادروا فعل الخيرات ليفوز السابقون.
{أن يفتنوك}: يضلوك عن الحق.
{فإن تولوا}: أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به.
{حكم الجاهلية}: هو ما عليه أهل من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.

.معنى الآيات:

لما ذكر تعالى إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر الإِنجي وأنه أيضاً فيه الهدى والنور ناسب ذكر القرآن الكريم فقال: {وأنزلنا إليك الكتاب} أي القرآن {بالحق} متلبساً به لا يفاقره الحق والصدق لخلوه من الزيادة والنقصان حال كونه {كونه مصدقاً لما بين يديه} من الكتب السابقة، ومهيمناً حفيظاً حاكما فالحق ما أحقه منا والباطل ما أبطله منها.
وعليه {فاحكم} يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك {بما أنزل الله} إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود {ولا تتبع أهواءهم} في ذلك وَتَرُكَ ما جاءك من الحق، واعلم أنا جعلنا لكل أمة شرعة ومنهاجاً أي شرعاً وسبيلاً خاصاً يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم، {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من المعاصي والمهتدي من الضال، وعليه فَهَلُمَّ {فاستبقوا الخيرات} أي بادروا الأعمال الصالحة وليجتهد كل واحد أن يكون سابقاً، فإن مرجعكم إليه تعالى {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (49) فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه وأمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال: {ولا تتبع أهواءهم} وحذره من أن يتبع بعض آرائهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا يعمل به وعيمل بما اقترحوه عليه فقال: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} وأعلمه أن اليهود إن تولوا أي أعرضوا عن قبول حكمه وهو الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب وما ارتكبوا من الخايا فقال: {فإن تولوا فاعلم أنَّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم}. وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون أي عصاة خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله فقال: {وإن كثيراً من الناس لفاسقون}.
فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده من ألم تمرد اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (50) فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم أهل الجاهلية حيث لا وحي ولا تشريع إلهي وإنما العادات والأهواء والشهوات معرضين عن حكم الكتاب والسنة حيث العدل والرحمة فقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون}. ثم أخبر تعالى نافياً أن يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من حكم الله تعالى للمؤمنين به الموقنين بعدله تعالى ورحمته فقال: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}؟.

.من هداية الآيات:

1- وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة.
2- لا يجوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإِلهي الكتاب والسنة.
3- التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإِضلال عن الحق.
4- بيان الحكمة من اختلاف الشرائع وهو الابتلاء.
5- أكثر المصائب في الدنيا ناتجة بعض الذنوب.
6- حكم الشرعية الإِسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة.

.تفسير الآيات (51- 53):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}

.شرح الكلمات:

{آمنوا}: صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
{أولياء}: لكم توالونهم بالنصرة والمحبة.
{بعضهم أولياء بعض}: أي اليهود ولي أخيه اليهودي، والنصراني ولي أخيه النصراني.
{الظالمين}: الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله ورسوله والمؤمنين.
{مرض}: نفاق وشك وشرك.
{يسارعون فيهم}: أي في البقاء على موالاتهم أي موالاة اليهود والنصارى.
{دائرة}: تدور علينا من جدب، أو انتهاء أمر الإِسلام.
{بالفتح}: نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك كفتح مكة.
{جهد أيمانهم}: أقصاها وأبلغها.
{حبطت أعمالهم}: بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء لأنها ما كانت لله تعالى.

.معنى الآيات:

ورد في سبب نزول هذه الآية أن عبادة بن الصامت الأنصاري، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة، ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الاصمت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبى ابن أبي ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} أي لكم من دون المؤمنين وقوله تعالى: {بعضهم أولياء بعض} تعليل لتحريم موالاتهم، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصارني ولي للنصراني عل المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى: {ومن يتولهم منكم} أي أيها المؤمنين {فإنه منهم}، لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين وبذلك يصبح منهم قطعاً وقوله: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} جمل تعليلة تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، والظلم وضع الشيء في غير محله وهذا الموالي لليهود والنصارى قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى لله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (52) فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبرراً به موقفه المخزي وهو الإِبقاء على موالاته لليهود إذ قال تعالى: {يسارعون فيهم} أي في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعود إليها بل هم في داخلها يسارعون، يقولون كالمعتذرين {نخشى أن تصيبنا دائرة} من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم. وقوله تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} وعسى من الله تفيد تحقيق الوقوع فهي بشرى لرسول الله والمؤمنين يقرب النصرب والفتح {أو أمر من عنده فيصبحوا} أي أولئك الموالون لليهود {على ما أسروا في أنفسهم} من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين {نادمين} حيث لا ينفعهم ندم.
هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (53) وهي قوله تعالى: {ويقول الذين آمنوا} عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين، ويصبح المنافقون نادمين يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله} أغلظ الأَيمان {إنهم لمعكم حبطت أعمالهم} لأنها لم تكن لله {فأصبحوا خاسرين}.

.من هداية الآيات:

1- حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين.
2- موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإِسلام.
3- موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإِيمان فلذا تؤدي إلى الكفر.
4- عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة.

.تفسير الآيات (54- 56):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}

.شرح الكلمات:

{من يرتد}: أي يرجع إلى الكفر بعد إيمانه.
{إذلة على المؤمنين}: أرقاء عليهم رحماء بهم.
{أعزة عل الكافرين}: أشداء غلاظ عليهم.
{لومة لائم}: عذل عاذل.
{حزب الله}: أنصار الله تعالى.

.معنى الآيات:

هذه الآية الكريمة (54): {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} تضمنت خبراً من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقاً وأن المنزل على رسوله صدقا فقد أخبر تعالى أن من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتد فئات من أجلاف الأعراب ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر الصديق مع الصاحبة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإِسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، وقد روي بل وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلى الله عليه وسلم وأبو موسى الأشعري أمامة فأشار إليه وقال قوم هذا، وفعلاً بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم، وقوله تعالى: {ذلك فضل الله} الإِشارة إلى ما أولى أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة على المؤمنين والشدة على الكافرين، والجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى: {والله واسع عليم} أي واسع الفضل عليم بمن يستحقه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (55) فقد تضمنت طمائنة الرب تعالى لعباده بن صامت وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} أي خاشعون متطامنون وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله ويكفه من يهمه، لأنه أصبح من حزب الله، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.

.من هداية الآيات:

1- إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله.
2- فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.
3- فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.
4- فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.
5- ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقيت توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.

.تفسير الآيات (57- 60):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}

.شرح الكلمات:

{هزواً ولعباً}: الهزء: ما يُهزأ به ويسخر منه. واللعب: ما يلعب به.
{أوتوا الكتاب}: هم اليهود في هذا السياق.
{الكفار}: المشركون.
{إذا ناديتم إلى الصلاة}: أذنتم لها.
{هل تنقمون منا}: أي ما تنقمون منا، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.
{مثوبة}: جزاء.
{فاسقون}: خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي.
{القردة}: جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة.
{والخنازير}: جمع خنزير حيوان معروف محرم الأكل.
{شر مكاناً}: أي منزلة يوم القيامة في نار جهنم.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في تحذير المؤمنين من موالاة وأعداء الله ورسوله فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإِسلام ديناً {لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم} الإِسلامي {هزواً} شيئاً يهزءون به، ولعباً أي شيئاً يلعبون به {من الذين أوتوا الكتاب} يعني اليهود، والكفار وهم المنافقون والمشركون (أولياء) أنصاراً وأحباء وأحلافاً واتقوا الله في ذلك أي في اتخاذهم أولياء إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعدائه الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (57) أما الآية الثانية (58) فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزواً ولعباً وهم أولئك الذين إذا سمعوا الأذان ينادى للصلاة اتخذوه هزواً فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول هذا نهيق حمار قبح الله قولهم وأقمأهم. فقال تعالى عنهم: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}. حقاً انهم لا يعقلون فلو كانوا يعقلون لكان النداء إلى الصلاة من أطيب منا يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: {لا يعقلون} شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (59) فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإِنجيل، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا، ولكنكم قوم لا تعقلون هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون} أما الآية الرابعة في هذا السياق (60) فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم: لا نعلم ديناً شراً من دينكم، وذلك أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: بمن تؤمن؟ فقال أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى فلما قال هذا، قالوا: لا نعلم ديناً شراً من دينكم بغضاً لعيسى عليه السلام وكرهاً له، فأنزل الله تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة} أي ثواباً وجزاء {عند الله} أنه {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} إذ مسخ طائفة منهم قردة، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام، وقوله: {وعبد الطاغوت} أي وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان وذلك بطاعته الانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد، إنه أنتم يا معشر يهود، إنكم لشر مكاناً يوم القيامة وأضل سبيلاً اليوم في هذه الحياة الدنيا.

.من هداية الآيات:

1- حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لاسيما أهل الظلم منهم.
2- سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم.
3- شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.
4- تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير.
5- اليهود شر الناس مكانا يوم القيامة، وأضل الناس في هذه الدنيا.