فصل: معنى الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (127- 129):

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}

.شرح الكلمات:

{وإذ}: ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره أذكر وقت كذا وكذا.
{القواعد}: جمع قاعدة ما يبنى عَلَيْه الجدار من أساس ونحوه.
{البيت}: الكعبة حماها الله وطهرها.
{إنك أنت السميع العليم}: هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهما.
{مسلمين}: منقادين لك خاضعين لأمرك ونهيك راضين بحكمك عابدين لك.
{أرنا مناسكنا}: علمنا كيف نحج بيتك، تنسكاً وتعبداً لك.
{تب علينا}: وفقنا للتوبة إذا زََللَنْا واقْبَلْها منا.
{وابعث فيهم رسولاً}: هذا الدعاء استجابةُ الله تعالى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو ما طلباه.
{الكتاب}: القرآن.
{الحكمة}: السنة وأسرار الشرع والإِصابة في الأمور كلها.
{يزكيهم}: يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.
{العزيز الحكيم}: العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليه السلام المنبئة عن مكانته السامية في كمال الإِيمان والطاعة، وعظيم الرغبة في الخير والرحمة فقد تضمنت الآيات الثلاث ذكر إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان الله تعالى بأن يتقبل منهما عملهما متوسلين إليه بأسمائه وصفاته {إنك أنت السميع العليم}.
كما يسألانه عز وجل أن يجعلهما مسلمين له وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة له مؤمنة به موحدة له ومنقادة لأمره ونهيه مطيعة، وأن يعلمهما مناسك حج بيته العتيق ليحجاه على علم ويتوب عليهما، كما سألاه عز وجل أن يبعث في ذريتهما رسولاً منهم يتلو عليهم آيات الله ويعلم الكتاب والحكمة ويزكيهم بالإِيمان وصالح الأعمال، وجميل الخلاب وطيب الخصال.
وقد استجاب الله تعالى دعاءهما فبعث في ذريتهما من أولاد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر المجحلين نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى...». عليهم جميعاً السلام.

.من هداية الآيات:

1- فضل الإسهام بالنفس في بناء المساجد.
2- المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف أن لا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته أن يتقبله منه.
3- مشروعية سؤال الله للنفس واللذرية الثبات على الإِسلام حتى الموت عليه.
4- وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر.
5- وجوب طلب تزكية النفس بالإِيمان والعمل الصالح، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة.
6- مشورعية التوسل إلى الله تعالى في قبول الدعاء وذلك بأسمائه تعالى وصفاته لا بحق فلان وجاه فلان كما هو شأن المبتدعة والضلال في هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل بالجمل التالية:
1- {إنك أنت السميع العليم}.
2- {إنك أنت التواب الرحيم}.
3- {إنك أنت العزيز الحكيم}.

.تفسير الآيات (130- 134):

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}

.شرح الكلمات:

{ومن يرغب عن ملة إبراهيم}: الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده بما شرع لعباده.
{إلا من سفه نفسه}: لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإِسلام إلا عبد جهل قدر نفسه فأذلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها وهي الإِسلام.
{اصطفيناه}: اخترناه لرسالتنا والبلاغ عنا، ومن ثم رفعنا شأنه وأعلينا مقامه.
{أسلم}: انقد لأمرنا ونهينا فاعبُدْنا وحدنا ولا تلتفتْ إلى غيرنا.
{اصطفى لكم الدين}: اختار لكم الدين الإِسلامي ورضيه لكم فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون.
{يعقوب}: هو إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم وبنوه هم يوسف وإخوته.
{أمة خلت}: جماعة أمرها واحد. خلت: مضت إلى الدار الآخرة.
{لها ما كسبت}: أجر ما كسبته من الخير.
{ولكم ما كسبتم}: من خير أو غيره.

.معنى الآيات:

لما ذكر تعالى في الآيات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلاصاً وعملاً صالحاً وصدقاً ووفاءً فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} تلك الملة الحنيفة الواضحة السهلة. اللهم لا أحد يرغب عنها إلا عبد جهل قدر نفسه، ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والإِكمال والإِسعاد وضمن هذا الخبر ذكر تعالى إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من الإِصطفاء في الدنيتا والإِسعاد في الآخرة في جملة الصالحين.
وفي الآية الثانية (131) يذكر تعالى أن ذاك إلا اصطفاء تم لإِبراهيم عند استجابته لأمر ربه بالإِسلام حيث أسلم ولم يتردد. وفي الآية الثالثة (132) يذكر تعالى إقامة الحجة على المشركين وأهل الكتاب معاً إذ ملة الإِسلام القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه، كما وصى بها يعقوب بنيه وقال لهم: لا تموتن إلا على الإِسلام فأين الوثنية العربي واليهودية والنصرانية من ملة إبراهيم، ألا فليثب العقلاء إلى رشدهم.
وفي الآي الرابعة (133) يوبخ تعالى اليهود القائلين كذباً وزوراً للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب وضى بَنيه باليهودية فقال تعالى: {أم كنتم شهداء} أي أكنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهماً إياهم: ما تعبدون من بعدي؟ فأجابوه بلسان واحد: {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمونَ} فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وثبت أنه وصاهم بالإِسلام لا باليهودية.
وفي الآية الأخيرة (134) ينهي تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم: {تلك أمة قد خلت}- يعني إبراهيم وأولاده- لها ما كسبت من الإِيمان وصالح الأعمال، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم وتجزون بها، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في آخرتكم وهو الإِيمان الصحيح والعمل الصالح، ولا يتم لكم هذا إلا بالإِسلام فأسلموا.

.من هداية الآيات:

1- لا يرغب عن الإِسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.
2- الإِسلام دين البشرية جمعاء، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.
3- استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإِسلام حتى الموت عليه.
4- كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال: اليهود قوم بهت.
5- يحسن بالمرء ترك الإِعتزاز بشرف وصلاح الماضيين، والإِقبال على نفسه بتزكيتها وتطهيرها.
6- سنة الله في الخلق أن المرء يجزى بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره.
7- يطلق لفظ الأب على العم تغليباً وتعظيماً.

.تفسير الآيات (135- 138):

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}

.شرح الكلمات:

{تهتدوا}: تصيبوا طريق الحق.
{ملة إبراهيم}: دين إبراهيم الذي كان عليه.
{حنفياً}: مستقيماً على دين الله موحداً فيه لا يشرك بالله شيئاً.
{ما أوتي موسى}: التوراة.
{وما أوتي عيسى}: الإِنجيل.
{في شقاق}: خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.
{صبغة الله}: دينه الذي طهرنا به ظاهراً وباطناً فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإِسلام فقد قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. كونوا يهوداً تهتدوا إلى الحق، وقالت النصارى من وفد نجران كذلك كونوا نصارى تهتدوا فحكى الله تعالى قولهم، وعلم رسوله أن يقول لهم لا نتبع يهوية ولا نصرانية بل نتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال.
وفي الآية الثانية (136) أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة وهي الإِيمان بالله وما أنزل من القرآن، وما أنزل على الأنبياء كافة، وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإِنجيل خاصة، مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والإسلام الظاهر والباطن لله رب العالمين.
وفي الآية الثالثة (137) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيماناً صحيحاً كإيمانكم فقد اهتدوا، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدو شقاقاً وحرباً لله ورسوله، والله تعالى سيكفيكهم بما يشاء وهو السميع لأقوالهم الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة، وقد أنجز تعالى وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز مع ما جللهم به من الخزي والعار.
وفي الآية الرابعة (138) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين رداً على اليهود والنصارى قولوا لهم: نتبع صبغة الله التي صبغنا بها وفطرته التي فطرنا عليها وهي الإِسلام. ونحن له تعالى عابدون.

.من هداية الآيات:

1- لا هداية إلا في الإِسلام ولا سعادة ولا كمل إلا بالإِسلام.
2- الكفر برسول، كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم فأصبحوا بذلك كافرين، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصحبوا بذلك مؤمنين.
3- لا يزال اليهود والنصارى في عداء للإِسلام وحرب على المسلمين، والمسلمون يكفيهم الله تعالى شرهم إذا هم استقاموا على الإِسلام عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وحكماً.
4- الواجب على من دخل في الإِسْلام أن يغتسل غسلاً كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة الله تعالى، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي وإدعاء انه طهر بذلك ولا يحتاج إلى الختان.

.تفسير الآيات (139- 141):

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}

.شرح الكلمات:

{أتحاجوننا في الله}: أتجادلوننا في دينه والإِيمان به وبرسوله، والإِستفهام للإِنكار.
{له مخلصون}: مخلصون العبادة له، لا نشرك غيره فيها، وأنتم مشركون.
{شهادة عنده من الله}: المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإِيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
{الغافل}: من لا يتفطن للأمور لعدم مبالاته بها.

.معنى الآيات:

يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول والمؤمنين وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، فعلّم الله رسوله كيف ير عليهم منكراً عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده كانوا هوداً أو نصارى، إذ قال له قل لهم: {أأنتم أعلم أم الله} فإن قالوا نحن أعلم، كفروا وإن قالوا الله أعلم انقطعوا لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبداً يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا مسلمين، ثم هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم نعوت الرسول والأمر بالأيمان به عند ظهوره فقال ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، وما الله بغافل عما تعملون.
ثم أعاد لهم ما أدبهم به في الآيات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلاحهم لو كانوا أهلاً لذلك فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنصب الفارغة إلى الأولين غير مجد لهم لوا نافع فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإِيمان والإِسلام والإِحسان، أما من مضوا فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به، وأنتم لكم ما كسبتم وستجزون به، ولا تجزون بعمل غيركم ولا تسألون عنه.

.من هداية الآيات:

1- فضيلة الإِخلاص وهو عدم الإِلتفات إلى غير الله تعالى عند القيام بالعبادات.
2- كل امرئ يجزئ بعمله، وغير مسئول عن عمل غيره، إلا إذا كان سبباً فيه.
3- اليهودية والنصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.
4- تفاوت الظلم بحسب الآثار المترتبه عليه.
5- حرمة كتمان الشهادة لاسيما شهادة من الله تعالى.
6- عدم الاتكال على حَسَبِ الآباء والأجداد، ووجوب الإِقبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها بالإِيمان الصحيح والعمل الصالح.

.تفسير الآيات (142- 143):

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}

.شرح الكلمات:

{السفهاء}: جمع سفيه وهو ببه ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خُلُقٍ وسوء سلوك.
{ماولاَّهم}: ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة.
{القبلة}: الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.
{أمةً وسطاً}: وسط كل شيء خياره، والمراد منه أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم وأعدلها.
{ينقلب على عقبيه}: يرجع إلى الكفر بعد الإِيمان.
{لكبيرةً}: شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهد كبير وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.
{إيمانكم}: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة.
{رؤوف رحيم}: يدفع الضرر عنكم ويفيض الإِحسان عليكم.

.معنى الآيتين:

يخبر الله تعالى بأمر يعلمه قبل وقوعه، وحكمة الإِخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس المؤمنين إذ يفقد نقدهُم المرير عنصر المفاجأة فيه فلا تضطرب له نفوس المؤمن.
فقاله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهَّم عن قبلتهم التي كانوا عليها} وحصل هذا لم حوّل الله تعالى رسول والمؤمنين من استقبال بيت المقدس في الصلاة إلى الكعبة تحقيقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ولعلة الاختبار التي تضمنتها الآية التالية فأخبر تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود والمنافقين والمشركين وعلَّم المؤمنين كيف يردون على السفهاء، فقال: قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فلا اعتراض عليه يوجه عباده حيث يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي الآية الثانية (143) يقول تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} خياراً عدولاً أي كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام جعلناكم خيراً أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتم رسالات ربهم، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم وفي هذا من التكريم والإِنعام ما الله به عليم، ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول} فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتطضرب نفسه ويجاري السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة عل النفس إلا على الذين هداهم الله إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة إلى قبلة، مادام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.
وأخيراً طمأنهم تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهراً بأنه لا يُضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حَييَ حَتَّى صلى إلى الكعبة وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.

.من هداية الآيتين:

1- جواز النسخ في الإِسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة المكرمة.
2- الأراجيف وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلميم طوال الحياة فعلى المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزعوا حتى يَظْهَر الباطلُ وَيَنْكَشِفَ الزيفُ وتنتهَي الفتنة.
3- أفضلية أمة الإِسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسيط شعارها.
4- جَوَازُ امْتِحَانِ المؤمن وجريانه عليه.
5- صحة صلاة من صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه اعادتها ولو صلى شهوراً إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد ي معرفة القبلة ثم ثلى إلى حيث أدّاه اجتهاده.

.تفسير الآيات (144- 147):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}

.شرح الكلمات:

{تقلب وجهك في السماء}: تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي.
{فلنولينك قبلة ترضاها}: فنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.
{فول وجهك شطر المسجد}: حوّل وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.
{الحرام}: بمعنى المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.
{الشطر}: هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام، لأن الشطر لغة: النصف أو الجزاء مطلقاً.
{أنه الحق من ربهم}: أي تحول القِبلة جاء منصوصاً عليه في الكتب السابقة.
{آية}: حجة وبرهان.
{يعرفونه}: الضمير عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يعلمون نه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.
{من الممترين}: الشاكين والامتراء: الشك وعدم التصديق.

.معنى الآيات:

يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلَّب وجهه في السماء انتظاراً لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك {فولِ وجهك شطر المسجد الحرام}، وبهذا الأمر الإِلهي تحولت القبلة وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، وكيلا تكونَ القبلةُ خاصة بمن كان بالمدينة قال تعالى: {وحيث ما كنتم} أي في نواحي البلاد وأقطار الأرض {فولوا وجوهكم شطره} أي شطر المسجد الحرام كما أخبر تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغافل عما يعملونه.
وفي الآية الثانية (145) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أتى اليهود والنصارى إلى قبلته كما أن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لم يكونوا أبداً ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم. وأخيراً يحذر الله رسوله أن يبتع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من الحق، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ولو فعل لكان من الظالمين.
وفي الآية الثالثة (146) يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما جاء به هو الحق معرفةً تامةً كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن فريقاً كبيراً منهم يكتمون الحق وهم يعلمون أنه الحق، وفي الآية الرابعة (147) يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين بحال من الأحوال.

.من هداية الآيات:

1- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه إلى جهة مكة.
2- كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم ايثاراً للدنيا على الآخرة.
3- حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.
4- علماء أهل الكتاب المعاصِرُونَ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم واعرضوا عن الايمان به وعن متابعته إيثاراً للدنيا على الآخرة.