فصل: معنى الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآية رقم (48):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}

.شرح الكلمات:

{لا يغفر}: لا يمحو ولا يترك المؤاخذة.
{أن يشرك به}: أي يعبد معه غيره تأليهاً له بحبه وتعظيمه وتقديم القرابين له، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له.
{ويغفر ما دون ذلك}: أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركاً ولا كفراً.
{لمن يشاء}: أي لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر.
{افترى إثماً عظيماً}: افترى: اختلق وكذب كذباً بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى، والإِثم: الذنب العظيم الكبير.

.معنى الآية الكريمة:

يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} قام رجل فقال والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها، وإن شاء آخذه بها وعذبه، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأله من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل، ومن هنا كان ذنبه عظيماً.

.من هداية الآية:

1- عظم ذنب الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما.
2- الشر كذنب لا يغفر لمن مات بدون توبة منه.
3- سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف.
4- الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعلٌ به.

.تفسير الآيات (49- 50):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)}

.شرح الكلمات:

{تزكية النفس}: تبرئتها من الذنوب والآثام.
{يزكي من يشاء}: يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس، وإعانته عليه.
{الفتيل}: الخيط الأبيض يكون في وسط النواة، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها.
{الكذب}: عدم مطابقة الخبر للواقع.

.معنى الآيتين:

عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا يزكي نفسه حتى يزكيه غيره فاليهود والنصارى قالوا {نحن أبناء الله وأبحاؤه} وقالوا: {لن يدخل الجنة إلى من كان هوداً أو نصارى وقالت اليهود لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} إلى غير ذلك من الدعاوي ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإِيمان والدخول في الإِسلام وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده وذلك بتوفيقه إلى الإِيمان وصالح الأعمال التي تزكو عليها النفس البشرية فقال تعالى: {بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً} أي أقل قليل فلا يزاد في ذنوب العبد ولا ينقص من حسناته. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى وهم يكذبون على الله تعالى، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفاً. وكفى بالكذب إثماً مبيناً. يغمس صاحبه في النار.

.من هداية الآيتين:

1- حرم تزكية المرء نفسه بلسانه والتفاخر بذلك إما طلباً للرئاسة، وإما تخلياً عن العبادة والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته ورضي الله تعالى عنه.
2- الله يزكي عبد ه بالثناء عليه في الملأ الأعلى، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية لنفس البشرية وتطهيرها.
3- عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى: {ولا يظلمون فتيلاً}.

.تفسير الآيات (51- 55):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}

.شرح الكلمات:

{الجبت والطاغوت}: الجبت: اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغوت سواء كانا صنمين أو رجلين.
{أهدى سبيلاً}: أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما.
{نقيراً}: النقير: نُقْرَةٌ في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها.
{الحسد}: تمنى زوال النعمة عن الغير والحرص على ذلك.
{الحكمة}: السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإِلهي.

.معنى الآيات:

روى أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلوا مكة قالت قريش: نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله: {عظيماً}. وهذا شرحها: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} الم ينته إلى علمك أيها الرسول أن الذين أوتوا حظا من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى {ويقولون للذين كفروا} وهم مشركوا قريش: دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقا في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب والتعجب لأَهل العِلْمِ والمعرفة بالدين الحق إذ يُقِرُّون الباطل ويصدقون به؟ {أولئك الذين لعنهم الله} أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة البعيدون في أغوار الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى، {ومن يلعن الله فلن تجد له} يا رسولنا {نصيرا} ينصره من الخذلان من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد.
ثم قال تعالى في الآية (53): {أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً}.
إليهم، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحداً أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نقرة نواة وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم الجهل وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد.
وقوله تعالى: {أم يحسدون الناس على آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} أم بمعنى بل كسابقتها بل للاضراب- الانتقالي من حال سيئة إلى أخرى، والهمزة للإِنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة والدولة، وهو المراد من الناس وقوله تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب} كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والانجيل {والحكمة} التي هي السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى وكلها علم نافع وحكم صائب سديد الملك العظيم هو ما كان لدواد وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون من كان لهم ويحسدون محمداً والمسلمين والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم.
وقوله تعالى في الآية (55): {منهم من آمن به ومنهم من صد عنه} يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم مَنْ آمن بالنبي محمد ورسالته، وهم القليل، {ومنهم من صد عنه} أي انصرف وصرف الناس عنه وهم الأكثرون {وكفى بجهنم سعيراً} لمن كفر حسداً وصد عن سبيل الله بخلا ومكراً، أي حسبه جهنم ذات السعير جزاءً له على الكفر والحسد والبخل. والعياذ بالله تعالى.

.من هداية الآيات:

1- وجوب الكفر بالجبت والطاغوت.
2- بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل.
3- ذم الحسد والبخل.
4- إيمان بعض اليهود بالإِسلام، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإِسلام ووجوب الإِيمان به والدخول فيه.

.تفسير الآيات (56- 57):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}

.شرح الكلمات:

{نصليهم ناراً}: ندخلهم ناراً يحترقون بها.
{نضجت جلودهم}: اشتوت فتهرت وتساقطت.
{ليذوقوا العذاب}: ليستمر لهم العذاب مؤلماً.
{عزيزا حكيما}: غالبا، يعذب من يستحق العذاب.
{تجري من تحتها الأنهار}: تجري من خلال اشجارها وقصورها الأنهار.
{مطهرة}: من الأذى والقذى مطلقا.
{ظلا ظليلا}: الظل الظليل، الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد فيه.

.معنى الآيتين:

على ذكر الإِيمان والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد والوعيد لأهل الكفر والوعد لأهل الإِيمان فقال تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً} يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها {كلمة نضجت جلودها} تهرت وسقطت بدلهم الله تعالى فوراً جلوداً غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به، وقوله تعالى: {إن الله كان عزيزاً حكيما} تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم، لأن العزيز الغالب لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته هذا ما تضمنته الآية الأولى (56) من وعيد لأهل الكفر.
وأما الآية الثانية (57) فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإِيمان وصالح الأعمال، مع اجتناب الشرك والمعاصي فقال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي بعد تركهم الشرك والمعاصي {سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة} يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائط ودم الحيض. وقوله تعالى: {وندخلهم ظلا ظليلا} وارفا كنيناً يقيهم الحر والبرد وحدث يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال: «في الجنة شجرة تسمى شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها».

.من هداية الآيتين:

1- الكفر والمعاصي موجبات للعذاب الأخروي.
2- بيان الحكمة في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب.
3- الإِيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروى.
4- الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها.

.تفسير الآيات (58- 59):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}

.شرح الكلمات:

{أن تؤدوا الأمانات}: أداء الأمانة: تسليمها إلى المؤتمن، والأمانات جمع أمانة وهي ما يؤتمن عليه المرء من قول أو عمل أو متاع.
{العدل}: ضد الجور والانحراف بنقص أو زيادة.
{نعما يعظكم}: نعم شيء يعظكم أي يأمركم به أداء الأمانات والحكم بالعدل.
{وأولي الأمر منكم}: أولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء من المسلمين.
{تنازعتم في شيء}: اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشيء من يد الفريق الآخر.
{ردوه إلى الله والرسول}: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وأحسن تأويلا}: أحسن عاقبة، لأن تأول الشيء ما يؤول إليه في آخر الأمر.

.معنى الآيتين:

روي أن الآية الأولى: {إن الله يأمركم أن تؤديوا الأمانات} نزلت في شأن عثمان بن طلحة الحجبي حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادناً فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه صبيحة يوم الفتح فصلى في البيت ركعتين وخرج فقال العباس رضي الله عنه اعطينيه يا رسول الله ليجمع بين السقاية والسدانة فنزل الله تعالى هذه الآية والتى بعدها والتي بعدها فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصوص السبب ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شيء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه إلى صاحبه والآية تتناول حكام المسلمين أولا بقرينة {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} الذي هو القسط وضد الجور ومعناه إيصال الحقوق إلى مستحقيها من أفراد الرعايا. وقوله تعالى: {إن الله نعما يعظكم به} يريد أن أمره تعالى أمة الإِسلام حكاما ومحكومين بأداء الأمانات والحكم بالعدل هو شيء حسن، وهو كذلك إذا قوام الحياة الكريمة هو النهوض بأداء الأمانات والحكم بالعدل وقوله تعالى: {إن الله كان سميعا بصيرا} فيه الحث على المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة الله تعالى في النفس، فإن من ذكر أن الله تعالى يسمع أقواله ويبصر أعماله استقام في قوله فل يكذب وفي عمله فلم يفرط. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (58).
أما الثانية (59)، فإن الله تعالى لما أمر ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانات التي هي حقوق الرعية، وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولاً ثم بطاعة ولاة الأمور ثانيا فقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}، والطاعة لأولى الأمر مُقَيد بما كان معروفاً للشرع أما في غير المعروف فلا طاعة في الاختيار لحديث: «إنما الطاعة في المعروف»، و«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول} فهو خطاب عام للولاة، والرعية فمتى حصل خلاف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد لك إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِبمَا حكما فيه وجب قبوله حلواً كان أو مراً، وقوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} فيه أن الإِيمان يستلزم الإِذعان لقضاء الله ورسوله، وهو يفيد أن رد الأمور المتنازع فيها إلى غير قادح في إيمان المؤمن وقوله: {ذلك خير وأحسن تأويلا}، يريد ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها إلى الكتاب والنسة هو خير حالاً ومآلا، لما فيه من قطع النزاع والسير بالأمة متحدة متحابة متعاونة.

.من هداية الآيتين:

1- وجوب رد الأمانات بعد المحافظة عليها.
2- وجوب العدل في الحكم وحرمة الحيف والجور فيه.
3- وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وولاة المسلمين من حكام وعلماء فقهاء، لأن طاعة الرسول من طاعة الله، وطاعة الوالي من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقط أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أمري فقد عصاني».
- وجوب رد المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا بقضائهما.
5- العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإِسلام ما تتنازع فيه إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (60- 63):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)}

.شرح الكلمات:

{يزعمون}: يقولون كاذبين.
{بما أنزل إليك}: القرآن، وما أنزل من قبلك: التوراة.
{الطاغوت}: كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة والمراد به هنا كعب بن الأشرف اليهودي أو كاهن من كهان العرب.
{المنافقين}: جمع منافق: وهو من يبطن الكفر ويظهر الإِيمان خوفا من المسلمين.
{يصدون}: يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك.
{مصيبة}: عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم.
{إن يريدون}: أي ما يريدون.
{إلا احسانا}: أي صلحاً بين المتخاصمين.
{وتوفيقا}: جمعا وتأليفا بين المختلفين.
{فأعرض عنهم}: أي اصفح عنهم فلا تؤاخذهم.
{وعظهم}: مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم.
{قولا بليغا}: كلاما قويا يبلغ شغاف قلوبهم لبلاغته وفصاحته.

.معنى الآيات:

روي أن منافقاً ويهوديا اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فتاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فنزلت فيهما هذه الآية: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك} والمراد بهذا المنافق، {وما أنزل من قبلك} والمراد به اليهودي والاستفهام للتعجب ألأم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} كعب بن الأشرف، أو الكاهن الجهني، وقد أمرهم الله أن يكفروا به {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} حيث زين له التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي، {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون عنك اعراضا هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك {فيكيف إذا أصابتهم مصيبة} وحلت بهم قارعة بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ {ثم جاءوك يحلفون بالله} قائلين، ما أردنا إلا الإِحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث، وأما الرابعة وهي قوله تعالى: {أوئلك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط فيقول {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} أي من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب، {فأعرض عنهم} فلا تؤاخذهم، {وعظهم} آمراً إياهم بتقوى الله والإِسلام له ظاهراً وباطناً مخوفا إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولا بليغاً ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.

.من هداية الآيات:

1- حرمة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا وُجد عالم بهما.
2- وجوب الكفر بالطاغوت أيا كان نوعه.
3- وجوب الدعوة إلى التحاكم إلأى الكتاب والسنة ووجوب قبولها.
4- استحباب الإِعراض عن ذوي الجهالات، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها.

.تفسير الآيات (64- 65):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}

.شرح الكلمات:

{بإذن الله}: إذن الله: إعلامه بالشيء وأمره به.
{ظلموا أنفسهم}: بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{استغفروا الله}: طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا، أو استغفروا الله.
{يحكموك}: يجعلونك حكما بينهم ويفوضون الأمر إليك.
{فيما شجر بينهم}: أي أختلفوا فيه لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل. {حرجا}: ضيقاً وتحرُّجاً.
{مما قضيت}: حكمت فيه.
{ويسلموا}: أي يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليماً تاماً.

.معنى الآيتين:

بعد تقرير خطأ وضلال من أرادا أن يتحكما إلى الطاغوت كعب بن الأشرف اليهودي وهما اليهودي والمنافق في الأيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسلَ رسولاً مِن رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لَوْ جاءوك متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول أي سألت الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم فوجدوه عز وجل {توابا رحيماً}. هذا معنى الآية: (64): {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}
وأما الآية الثانية (65): {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} فإن الله تعالى يقول {فلا} أي ليس الأمر كما يزعمون، ثم يقسم تعالى فيقول {وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} أيها الرسول أي يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدروهم أدنى شك في صحة حكمه وعدالته، وفي التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج.

.من هداية الآيتين:

1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه.
2- بطلان من يزعم أن في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية نزلت في الرجلين اللّذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صل الله عليه وسلم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارهما الله تعالى، واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما، وإلا فلا توبة لهما أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إيتانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.
3- كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلماً للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته بحال من الأحوال.
4- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما.
5- وجوب الرضا بحكم الله ورسوله والتسليم به.