فصل: معنى الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (10- 14):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}

.شرح الكلمات:

{ولقد آتينا داود منا فضلاً}: أي نبوة وملكاً.
{يا جبال أوِّبى معه}: أي وقلنا يا جبال أوِّبى معه أي رجعى معه بالتسبيح.
{والطير}: أي والطير تسبح أيضا معه.
{وألنَّا له الحديد}: أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء.
{أن اعمل سابغات}: أي دروعاً طويلة تستر المقاتل وتقيه ضرب السيف.
{وقدر في السرد}: أي اجعل المسمار مناسبا للحلقة، فلا يكن غليظاً ولا دقيقاً، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدرع وعدم الانتفاع بها.
{ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر}: أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها من منتصف النهار إلى الليل شهر كذلك أي مسافة شهر.
{وأسلنا له عين القطر}: أي وأسلنا له عين النحاس.
{ومن يزغ منهم}: أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير.
{من محاريب}: جمع محراب المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها.
{وجفان كالجواب}: أي وقصاع في الكبر كالحياض التي حول الابار يجبى إليها الماء.
{وقدور راسيات}: أي وقدور كبار ثابتات على الأثافى لكبرها لا تحول.
{إلا دابة الأرض}: أي الأرضة.
{تأكل منسأتة}: أي عصاه بلغة الحبشة.
{فلما خر}: أي سقط على الأرض ميتاً.
{تبينت الجن}: أي انكشف لها فعرفت.
{في العذاب المهين}: وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة.

.معنى الآيات:

يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيباً في طاعته وترهيباً من معصيته فيقول: {ولقد آتينا داود منا فضلاً} وهو النبوة والزبور كتاب والملك. وقلنا للجبال: {أوِّبى مع سليمان} أي ارجعي صوت تسبيحه والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير. وهذا تسخيرٌ لا يقدر عليه إلا الله. وقوله: {وألنَّا له الحديد} وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء، وقلنا له اعمل درعا طويلة سابغاتٍ تشتتر بها في الحرب، {وقدر في السرد} وقوله: {واعملوا صالحاً} أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الاثم والمحرمات. وقوله: {إني بما تعملون بصير} فيه وعدٌ ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة.
وقوله تعالى: {ولسليمان الريح} أي سخرنا لسليمان بن داود الريح {غُدُّوها شهر ورواحها شهر} أي تقطع مسافة شهر في الصباح، وأخرى في المساء أي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد، وذلك أنه كان لسليمان مركب من خشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفع جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول إلى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماماً.
وقوله تعالى: {وأسلنا له عين القطر} وهو النحاس فكما ألان لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس.
وقوله تعالى: {ومن الجن} أي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا. وذلك بإذن ربِّه تعالى القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء. وقوله: {ومن يزغ منهم} أي ومن يعدل من الجن {عن أمرنا} أي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به {نذقه من عذاب السعير} وذلك يوم القيامة. وقوله: {يعملون له ما يشاء} بيان لما في قوله: {من يعمل بين يديه} من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها، وتماثيل أي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة، كالجواب أي في الكبر والجابية حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات أي ويعملون له قدوراً ضخمة لا تتحول بل تبقى دائماً موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي.
وقوله تعالى: {اعملوا} أي قلنا لهم اعملوا {آل داود شكراً} أي اعملوا الصالحات شكراً لله تعالى على هذا الإِفضال والإِنعام أي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكراً لله على نعمه. روى أنه لما أمروا بهذا المر قال داود عليه السلام لآلِهِ ايكم يكفيني النهار فإنى أكفيكم الليل فصلوا لله شكراً فما شئت أن ترى في مسجدكم راكعاً أو ساجداً في اية ساعة من ليل أو نهار إلا رايت. ويكفى شاهداً أن سليمان مات وهو قائم يصلى في المحراب. وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لإِستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى.
وقوله تعالى في الآية (14): {فلما قضينا عليه الموت} أي توفيناه: ما دلهم على موته الا دابة في الأرض أي الأرضة المعروفة تاكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض، وذلك أنه سأل ربّه أن يعمى خبر موته عن الجن، حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون، فمات وهو متكئ على عصاه يصلى في محرابه، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أ، هم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل اشلاق وهم لا يدرون. هذا معنى قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب}- كما كان يدعى بعضهم- {وما لبثوا في العذاب المهين} أي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة.

.من هداية الآيات:

1- بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات.
2- فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله.
3- مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين.
4- شرع من قبلنا شرعٌ لنا إلا ما خصّه الدليل كتحريم الصور والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم.
5- وجوب الشكر على النعم، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإِكثار منها.
6- تقرير أن علم الغيب لله وحده.

.تفسير الآيات (15- 19):

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}

.شرح الكلمات:

{لقد كان لسبأ في مسكنهم}: أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.
{آية}: أي علامة على قدرة الله وهى جنتان عن يمين وشمال.
{بلدة طيبة ورب غفور}: أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها، والله رب غفور.
{فأعرضوا}: أي عن شكر الله وعبادته.
{سبيل العرم}: أي سد السيل العرم.
{ذواتى أُكل خمط وأثلٍ}: أي صاحبتي أُكل مُر بشعٍ وشجر الثل.
{ذلك}: أي التبديل جزيناهم بكفرهم.
{القرى التي باركنا فيها}: هي قرى الشام مبارك فيها.
{قرًى ظاهرة}: أي متواصلة من اليمن إلى الشام.
{وقدرنا فيها السير}: أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.
{فجعلناهم أحاديث}: أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.
{ومزقناهم كل ممزق}: أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.
{إن في ذلك لآيات}: أي إن في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبراً.
{لكل صبار شكور}: أي صبار على الطاعات وعن المعاصي شكور على النعم.

.معنى الآيات:

لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال} أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى: {في مسكنهم} أي في مساكنهم {آية} أي علامة على قدرة الله وإفضاله على عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادى أي جنتان عن يمين الوادى وأخرى عن مشاله كلها فواكه وخضر، تسقى بماء سد مأرب. كلوا من رزق ربكم أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي هذا الإِنعام بالإِيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله.
وقوله: {بلدة طيبة} أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها، {ورب غفور} يغفر ذنوبكم متى أذنبتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أَبْطَرْتُهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروا كما قال تعالى: {فأعرضوا} بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإِعراضهم وعدم شكرهم كما هي سنته في عباده. قال تعالى: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} وذلك بأن خرب السد، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمْحَلَتْ الأرض، وتبدلت قال تعالى: {وبدلناهم بجنتهم جنتين ذواتى أُكل خمط} أي مُرٍ بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء، وشيء من سدر قليل.
هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى: {ذلك} أي الجزاء {جزيناهم بما كفروا} بسبب كفرهم وقوله: {وهل نجازى الا الكفور} أي وهل نجازى بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة إلى نقمة غير الكفور.
وقوله تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} وهي مدن الشام {قرى ظاهرة} أي مدناً ظاهرة على المرتفعات من الأرض، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة، وقوله: {وقدرنا فيها السير} أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بحيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل إلا في مدينة ويخرج بعد القيلولة فلا ينام إلا في مدينة أخرى حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقوله تعالى: {وسيروا فيها ليالي وأياما آمنين} أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم الا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم أو قالهم أن يباعد بين مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب وهذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل. قال تعالى: {وظلموا أنفسهم} إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعُرِّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وقوله تعالى: {فجعلناهم أحاديث} أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى: {ومزقناهم كل ممزق} أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عودُ اتصال أبداً فذهب الأوس والخزرج إلى يثرب (المدينة النبوية) وهم الأنصار، وذهب غسان إلى الشام، والأزد إلى عُمان، وخزاعة إلى تهامة وأصبحوا مضرب المثل يقال: ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات} أي إن في إنعام الله على أبناء سبأ ثم في نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبراً يعتبر بها كل صبور على الطاعات فِعلاً وعن المعاصي تركاً، {شكور} أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.

.من هداية الآيات:

1- التحذير من الإِعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأُمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم.
وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأُمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.
2- التحذير من كفر النعم بالإسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عز وجل.
3- خطر الحسد وانه داء لا دواء له، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
4- فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.

.تفسير الآيات (20- 23):

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}

.شرح الكلمات:

{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه}: أي صدَقَ ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.
{فاتبعوه}: في الكفر والضلال والإِضلال.
{إلا فريقا منهم}: أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة.
{وما كان له عليهم من سلطان}: أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإِغراء بالشهوات.
{إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة}: أي لكن أذنَّا له في إغوائهم- إن استطاع- بالتزيين والإِغواء {ممن هو منها في شك} لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحاً ممن يكفر ويعمل سوءاً.
{وربك على كل شيء حفيظ}: أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزى الناس بما كسبوا.
{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله}: أي أنهم شركاء لله في ألوهيته.
{لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض}: أي ملكاً استقلالياً لا يشاركهم الله فيه.
{وما لهم فيها من شرك}: أي وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض.
{وما له منهم من ظهير}: أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء.
{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}: أي ولا تنفع الشفاعة أحداً عنده حتى يأذن هو له بها.
{حتى إذا فزع عن قلوبهم}: أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى.
{قالوا ماذا قال ربكم}: أي قال بعضهم لبعض استبشاراً ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق أي في الشفاعة.
{وهو العليُّ الكبير}: العلي فوق كل شيء علوّ ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه.

.معنى الآيات:

لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال: {لقد صدق عليهم إبليس ظنَّه} أي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم {فاتبعوه} فيما دعاهم إليه من الشرك والإِسراف والمعاصي {إلا فريقاً من المؤمنين} وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإِغوائهم فإنهم لم يتبعوه. هذا ما دلت عليه الآية (20) وقوله تعالى: {وما كان له} أي للشيطان {عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك} أي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإِذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة، والذين لا يؤمنون بالآخرة لاينهضون بواجب ولا يتجنبون حراماً فيخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.
وقوله تعالى: {وربك على كل شيء حفيظ} فهو يحصى أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها.
وقوله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافي الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعُون ويصرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها- وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون- هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة أي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالا ولا ميلكونها شركة مع الله المالك الحق، وهو معنى قوله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} {وما لهم فيهما} أي في السموات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدْنى نسبة. وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده، وشيء آخر هو أن اشلفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضى الله تعالى بالشفاعة لمن أريد الشفاعة له، وبعد أن يأذن أيضا لمن اراد أن يشفع. فلم يبق إذاً أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذاً فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة. وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عندما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد {حتى إذا فزع عن قلوبهم} أي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم البعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا: الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العليّ الكبير أي العلى فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيءٌ سبحانه لا إله إلا هو ولا ربّ سواه.

.من هداية الآيات:

1- بيان أن إبليس صدق ظنه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم.
2- تقرير التوحيد وأنه لا غله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه.
3- بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة، وليس لله تعالى من ظهير أي ولا معينين يمكن التوسل بهم، وأخيراً والشفاعة لا تتم إلا بإِذنه ولمن رضى له بها. ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو وليَّ أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهى الدعاء، والعياذ بالله تعالى.

.تفسير الآيات (24- 30):

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}

.شرح الكلمات:

{قل من يرزقكم من السموات والأرض}: من السموات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع.
{قل الله}: أي إن لم يجيبوا فأجب أنت فقل الله، إذ لا جواب عندهم سواه.
{وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}: وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقطعا فالموحدون هم الذين على هدى والمشركون هم في الضلال المبين، وإنما شككهم تلطفاً بهم لعلهم يفكرون فيهتدون.
{قل لا تسألون عما أجرمنا}: أي أنكم لا تسألون عن ذنوبنا.
{ولا نُسال عما تعملون}: أي ولا نُسأل نحن عما تعملون. وهذا تلطفاً بهم أيضا ليراجعوا أمرهم، ولا يحملهم الكلام على العناد.
{قل يجمع ربُّنا ثم يفتح بيننا بالحق}: أي قل لهم سيجمع بيننا ربُّنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضا تلطق بهم وهو الحق.
{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء}: أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناماً لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم. وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟!.
{كلا بل هو الله العزيز الحكيم}: كلا: لن تكون الصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم.
{كافة للناس}: أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم.
{بشيراً ونذيراً}: بشيراً للمؤمنين بالجنة، ونذيراً للكافرين بعذاب النار.
{قل لكم ميعاد يوم}: هو يوم القيامة.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم سل قومك مبكتا لهم: {قل من يرزقكم من السموات والأرض} بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلاً الله. إذ ليس من جواب عندهم سواه.
وقوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين} هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر في الأمر الذي يجادل فيه، وإلاّ فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدًى، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع. وقوله تعهالى {قل لا تُسالون عما أجرمنا ولا نُسال عما تعملون} وهذا أيضاً من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه. فقوله: {لا تُسألون عما أجرمنا} هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطق في الخطاب، وأما المشركون فإن لهم أعمالاً من لاشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعاً لا يُسالون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا.
وقوله: {قل يجمع بيننا ربُّنا} أي يوم القيامة {ثم يفتح بيننا} أي يحكم ويفصل بيننا {بالحق وهو الفتاح} أي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهراً وباطناً. وفي هذا جذب لهم بلطف ودون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة. وقوله: {قل أروني الذين ألحقتم به شركاء} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين أروني آلهتكم التي اشركوتموها بالله والحقتموها به وقلتم في تلبيتكم: لبيك لبيك لا شريك لك. الا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون ينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإِتيان بهم غير اصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال: {كلا بل هو الله العزيز الحكيم} أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وغله الولين والآخرين {العزيز} أي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده.
وقوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو اليه.
وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} فيه تعزية للرسول أيضا إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفاً مما لديه.
وقوله: {ويقولون} أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء {متى هذا الوعد} أي العذاب الذي تهددنا وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به. وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله: {قل لكم ميعاد} يوم معين عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم مُحكمٌ لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير.

.من هداية الآيات:

1- مشروعية التلطف مع الخصم فسحاً له في مجال التفكير لعله يثوب إلى رشده.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوى في ذلك.
3- تقرير عقيدة النبوة المحمدية، وعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
4- يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال.