فصل: معنى الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}

.شرح الكلمات:

{إذا ضربتم}: خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين.
{فتبينوا}: فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلماً تحسبونه كافراً.
{السلم}: الإِستسلام والانقياد.
{تبتغون}: تطلبون.
{منّ الله عليكم}: بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين.

.معنى الآية الكريمة:

روي أنم نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا فلقوا رجلاً يسوق غنماً من بني سليم فلما رآهم سلم عليهم قائلاً السلام عليكم فقالوا له ما قلتها إلا تقيّة لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} يريد خرجتم مسافرين للغزو والجهاد {فتبّينوا} ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم أو كافرين فتقاتلوهم، {ولا تقولوا لمن ألقى إليك السلام} أعلن إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام {لست مؤمناً} فتكذبونه في دعواه الإِسلام لتنالوا منه: {تبتغون} بذلك {عرض الحياة الدنيا} أي متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله: {كذلك كنتم من قبل} أي مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفاً من قومكم {فمن الله عليكم} بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم. وعليه فتبينوا مستقبلاً، ولا تقتلوا أحداً حتى تتأكَّدوا من كفره وقوله: {إن الله كان بما تعملون خبيراً} تذييل يحمل الوعد والوعيد، الوعد لمن أطاع والوعيد لمن عصى إذ لازم كونه تعالى خبيراً بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها، وهو على كلِّ شيء قدير.

.من هداية الآية:

1- مشروعية السير في سبيل الله غزوا وجهاداً.
2- وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ.
3- ذم الرغبة في الدنيا لاسيما إذا كانت تتعارض مع التقوى.
4- الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة.

.تفسير الآيات (95- 96):

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}

.شرح الكلمات:

{أولوا الضرر}: هم العميان والعرج والمرضى.
{درجة}: منزلة عالية في الجنة.
{الحسنى}: الجنة.

.معنى الآيتين:

روي أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأمواله وأنفسهم...} الآية. أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله فما برح حتى نزلت {غير أولي الضرر} فأدخلت بين جملتي {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} ومعنى الآية: إن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزرة عنده تعالى من يجهاد بماله ونفسه ومن لا يجاهد بخلاً بماله. وضناً بنفسه، واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه فأن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا لحسن نياتهم، وعدم استطاعتهم فلذا قال: {وكلاً وعد الله الحسنى} التي هي الجنة، وقوله: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} أي فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لعذر درجة، وإن كان الجميع لهم الجنة وهي الحسنى، وقوله تعالى: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين} لغير عذر {أجراً عظيماً} وهو الدرجات العالية مع المغفرة والرحمة، وذلك لأن الله تعالى كان أزلاً وأبداً غفوراً رحيما، ولذا غفر لهم ورحمهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم.

.من هداية الآيتين:

1- بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون.
2- أصحاب الأعذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام بهم من أعذار وللمجاهدين فعلاً درجة تخصهم دون ذوي الأعذار.

.تفسير الآيات (97- 100):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}

.شرح الكلمات:

{توفاهم}: تقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
{ظالمي أنفسهم}: بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم.
{فيم كنتم}: في أي شيء كنتم من دينكم؟
{مصيراً}: مأوى ومسكناً.
{حيلة}: قدرة على التحول.
{مراغماً}: مكاناً وداراً لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره.
{وسعة}: في رزقه.
{وقع أجره على الله}: وجب أجره في هجرته على الله تعالى.

.معنى الآيات:

لما كانت الهجرة من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر تعالى في هذه الآيات الهجرة وأحكامها فقال تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهوان يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم. هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم {فيم كنتم}؟ تسألهم هذا السؤال لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك على الصالحات، فيقولون معتذرين: {كنا مستضعفين في الأرض} فلم نتمكن من تطهير أرواحنا بالإِيمان وصالح الأعمال، فترد عليهم الملائكة قولهم: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله تعالى عن الحكم فيهم بقوله، فأولئك البعداء {مأواهم جهنم} وساءت جهنم مصيراً يصيرون إليه ومأوى ينزلون فيه. ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في الآيات قبل هذه فقال عز من قائل: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان}، واستضعاف الرجال يكون بالعلل والنساء والولدان بالضعف الملازم لهم، هؤلاء الذين لا يستطيعون حيلة أي لا قدرة لهم على التحول والإِنتقال لضعفهم، {ولا يهتدون سبيلاً} إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك فطمعهم تعالى ورجاهم بقوله: {فأولئك} المذكورون {عسى الله أن يعفوا عنهم} فلا يؤاخذهم ويغفر لهم بعض ما قصروا فيه ويرحمهم لضعفهم وكان الله غفوراً رحيماً.
هذ ما دلت عليه الآيات الثلاث.
أما الآية الرابعة (100) فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى لا في سبيل دينا يصيبها أو امرأة يتزوجها يجد بإذن الله تعالى في الأرض مذهباً يذهب إليه وداراً ينزل بها ورزقاً واسعاً يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده، فقال تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة} ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجراً في سبيل الله أي لأجل عبادته ونصره دنيه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب أجره على الله تعالى وسيوفاه كاملاً غير منقوص، ويغفر الله تعالى له ما كان من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته. إذ قال تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً}.

.من هداية الآيات:

1- وجوب الهجرة عندما يحال بين المؤمنين وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إلا لها.
2- ترك الهجرة كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار.
3- أصحاب الأعذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة.
4- فضل الهجرة في سبيل الله تعالى.
5- من مات في طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملاً غير منقوص وهو الجنة.

.تفسير الآيات (101- 104):

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}

.شرح الكلمات:

{ضربتم في الأرض}: أي مسافرين مسافة قصر وهي أربعة برد أي ثمانين وأربعون ميلاً.
{إن تقصروا من الصلاة}: بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين، والعشاء ركعتين لطولها.
{إن خفتم أن يفتنكم}: هذا خرج مخرج الغالب، فليس الخوف بشرط في القصر وإنما الشرط السفر.
{حذرهم}: الحيطة والأهبة لما عسى أن يحدث من العدو.
{وأسلحتكم}: جمع سلاح ما يقاتل به من أنواع الأسلحة.
{لا جناح عليكم}: أي لا تضييق عليكم ولا حرج في وضع الأسلحة للضرورة.
{قضيتم الصلاة}: أديتموها وفرغتم منها.
{فإذا اطمأننتم}: أي ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالأمن.
{كتاباً موقوتا}: فرضاً ذات وقت معين تؤدى فيه لا تتقدمه ولا تتأخر عنه.
{ولا تهنوا}: أي لا تضعفوا.
{تألموا}: تتألمون.

.معنى الآيات:

بمناسبة الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} أي سرتم فيها مسافرين {فليس عليكم جناح} أي حرج وإثم في {أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالبي فقط، وقال تعالى: {إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً} تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين فلذا شرع لهم هذه الرخصة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (101) أما الآيتان بعدها فقد صلاة الخوف وصورتها: أن ينقسم الجيش قسمين يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة، ويقف الإِمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة، ويسلمون ويقفون وجاه العدو، ويأتي القسم الذين كان واقفاً العدو فيصلي بيهم الإِمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة هذا معنى قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه {ولتأتِ طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} وقوله تعالى: {ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} سيق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى والأمر بالأخذ بالحذر وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلام أن يضعوا أسلحتهم فقال عز وجل: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم} وقوله تعالى: {إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً} تذييل لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره فإن الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً، وإنما وضع الظاهر مكان المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر.
وقوله تعالى في آية (103): {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان لاسيما في وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال وقوله تعالى: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة، لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلى إيماءً وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم.
وقوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} تعليل للأمر بإقامة الصلاة فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين وأنها موقوته بأوقات لا تؤدى إلا فيها.
وقوله تعالى في آية (104): {ولا تهنوا في ابتغاء القوم} أي لا تضعفوا في طلب العدو لإِنزال الهزيمة به. ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله} من النصر والمثوبة العظيمة {ما لا يرجون} فأنتم أحق بالصبر والجلد والمطالبة بقاتلهم حتى النصر عليهم وقوله تعالى: {وكان الله عليماً حكيماً} فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد، لأن علمهم بأن الله تعالى عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهتم وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على أعدائهم.

.من هداية الآيات:

1- مشروعية صلاة القصر وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.
2- مشروعية صلاة الخوف وبيان كيفيتها.
3- تأكد صلاة الجماعة بحيث لا تترك حتى في ساعة الخوف والقتال.
4- استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع.
5- تقرير فرضية الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها.
6- حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو الاستعانة على قتاله بذكر الله ورجائه.

.تفسير الآيات (105- 109):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}

.شرح الكلمات:

{بما أراك الله}: أي بما علمكه بواسطة الوحي.
{خصيماً}: أي مخاصماً بالغاً في الخصومة مبلغاً عظيماً.
{تجادل}: تخاصم.
{يختانون أنفسهم}: يحاولون خيانة أنفسهم.
{يستخفون}: يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس.
{وهو معهم}: بعلمه تعالى وقدرته.
{يبيتون}: يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة.
{وكيلا}: الوكيل من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض.

.معنى الآيات:

روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته وكان قد سرق درعاً من دار جارٍ له يقال له قتادة وودعها عند يهودي يقال له يزيد بن السمين، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي وقالوا هو السارق، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا هو السارق، لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة، ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى لآيات قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب} أي القرآن، أيها الرسول {لتحكم بين الناس بما أراك الله} أي بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله: {ولا تكن للخائنين خصيماً} أي مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة. {واستغفر الله} من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، {إن الله كان غفوراً رحيماً} فيغفر لك ما هممت به ويرحمك {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً، {إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً} كطعمة بن أبيرق {يستخفون من الناس} حياء منهم، {ولا يستخفون من الله} ولا يستحيون منه، وهو تعالى معهم في يحلفون على براءة أخيهم وإتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى.. وقوله عز وجل: {وكان الله بما يعملون محيطا}، فسبحانه من إله عليم عظيم. وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء} أي يا هؤلاء اليهودي ثم اتهامهم اليهودي، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى {جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله: {ها أنتم هؤلاء جادلتهم عنهم}، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة {فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً} يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعاً شديداً حتى لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا.

.من هداية الآيات:

1- لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم.
3- وجوب الاستغفار من الذنب كبيراً كان أو صغيراً.
4- وجوب بغض الخوَّان الأثيم أيّاً كان.
5- استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة.

.تفسير الآيات (110- 113):

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}

.شرح الكلمات:

{سوءا}: السوء: ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير.
{أو يظلم نفسه}: ظلم النفس: بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا.
{إثماً}: الإِثم: ما كان ضاراً بالنفس فاسداً.
{بريئاً}: البريء: من لم يجن جناية قد اتهم بها.
{احتمل بهتاناً}: تحمل بهتاناً: وهو الكذب المحير لمن رمي به.
{الكتاب والحكمة}: الكتاب: القرآن والحكمة السنة.

.معنى الآيات:

هذا السياق معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق وهو يحمل الرحمة الإِلهية لأولئك الذين تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل سوءاً به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإِنابة إليه يتب الله تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الآية (110): {ومن يعمل سوءاً أيو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} يغفر له ويرحمه.
قوله تعالى: {من يكسب إثما} أي ذنباً من الذنوب صغيرها وكبيرها {فإنما يكسبه على نفسه} إذ هي التي تتدسَّى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها. ولا يؤاخذ به غيرها وكان الله عليماً أي بذنوب عباده حكيماً أي في مجازاتهم بذنوبهم فلا يؤاخذ نفساً بغير ما اكتسبت ويترك نفساً قد اكتسبت (112) يخبر تعالى أن من يرتكب خطيئة ضد أحد، أو يكسب إثماً ويرمي به أحداً {خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}.
وفي الآية (113) يواجه الله تعالى رسوله بالخطاب ممتناً عليه بما حباه به من الفضل والرحمة فيقول: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة} هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله: {وما يضلون إلا أنفسهم}، فهو كما قال عز وجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره ذلك وقوله تعالى: {وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه الحمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم، وما أوحي إليه من العلوم والمعارف التي كلها نور وهدى مبين، وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على رسوله عظيماً فلله الحمد والمنة.

.من هداية الآيات:

1- تقرير مبدأ التوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه.
2- عظم ذنب من يكذب على البرءاء، ويتهم الأمناء بالخيانة.
3- تأثير الكلام على النفوس حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاد يضلله بنو أبيرق فيبرئ الخائن ويدين البريء إلا أن الله عصمه.
4- عاقبة الظلم عائدة على الظالم.