فصل: من هداية الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (54- 59):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}

.شرح الكلمات:

{صرفنا}: أي بينّا وكررنا البيان.
{من كل مثل}: المثل الصفة المستغربة العجيبة.
{جدلاً}: أي مخاصمة بالقول.
{سنة الأولين}: أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.
{قبلاً}: عياناً ومشاهدة.
{ليدحضوا به الحق}: أي يبطلوا به الحق.
{هزواً}: أي مهزوءاً به.
{أكنة}: أغطية.
{وفي آذانهم وقراً}: أي ثقلاً فهم لا يسمعون.
{موئلاً}: أي مكاناً يلجأون إليه.
{لمهلكهم موعداً}: أي وقتاً معيناً لإهلاكهم.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل} أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبينا فيه الحجج العديدة، {وصرفنا فيه} من الوعد والوعيد ترغيباً وترهيباً، وقابلوا كل ذلك بالجحود والمكابرة، {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} فأكثر هم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن للحق ويسلم به ويؤديه ان كان عليه. هذا ما دلت عليته الآية الأولى: (54) أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها ان الناس ما منعهم {أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} وهو بيان طريق السعادة والنجاة بالايمان وصالح الاعمال بعد التخلي عن الكفر والشرك وسوء الأعمال {ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين} بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة، {أو يأتيهم} عذاب يوم القيامة معاينة وهو معنى قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قبلاً} وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين} أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحاً بالجنة وينذرون من كفر، وعمل سوءاً بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين، لكن الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون {الباطل ليدحضوا به الحق}. {واتخذوا} أيات الله وحججه {وما أنذر} به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءاً يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظم الناس. وهو ما قررته الآية (57) إذ قال تعالى فيها: {ومن اظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه} أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد اظلم من هذا الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه كناناً يحيط به فيصبح لا يفقه شيئاً. ويجعل في أذنيه فلا يسمع الهدى. ولذا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً} أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر {أبداً}.
وقوله تعالى: {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا} أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين {لعجل لهم العذاب}، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلا لعجل لهم العذاب فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون.
ولكن {لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً} يئلون اليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون يكون ذلك يوم بدر لأن السياق في الظلمة العاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل ابن أبي معيط والأخنس بن شريق، هذا أولاً. وثانياً قوله تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلملوا} يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقم لوط. {وجعلنا لمهلكهم موعداً} أي لهلاكهم موعداً محدداً فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، وقد اهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.

.من هداية الآيات:

1- لقد أعذر الله تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.
2- بيان غزيزة الجدل في الإنسان والمخاصمة.
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.
4- بيان عظم ظلم من يذكر بالقرآن فيعوض ويواصل جرائمه ناسياً ما قدمت يداه.
5- بيان سنة الله في أن العبد إذا واصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية ابداً حتى يهلك كافراً ظالماً فيخلد في العذاب المهين.

.تفسير الآيات (60- 69):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)}

.شرح الكلمات:

{وإذ قال موسى لفتاه}: أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليه السلام.
{مجمع البحرين}: أي حيث ألتقى البحران بحر فارص وبحر الروم.
{حقباً}: الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.
{سبيله في البحر سرياً}: أي طريقه في البحر سرباً أي طريقاً كالنفق.
{فلما جاوزا}: أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في البحر سرياً.
{في البحر عجباً}: أي عجباً لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت وإتخاذه في البحر طريقاً كالنفق في الجبل.
{قصصاً}: أي يتتبعان آثار أقدامهما.
{عبداً من عبادنا}: هو الخضر عليه السلام.
{مما عملت رشداً}: أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.
{ما لم تحط به خراً}: أي علماً.
{ولا أعصي لك أمراً}: أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقاً هواي.

.معنى الآيات:

هذه قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وهي تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأنى لأحد أن يقصه مالم يتلقه وحياً من الله عز وجل. قال تعالى: {وإذ قال موسى} أي أذكر يا رسولنا تدليلاً على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ قال موسى بن عمران نبينا إلى نبي إسرائيل لفتاه يوشع بن نون {لا أبرح} أي سائراً {حتى أبلغ مجمع البحرين} حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبد هناك من عباده هو أكثر مني علماً حتى اتعلم منه علماً ازيده على علمي، {أو أمضي حقباً} أي أواصل سيري زمناً طويلاً حتى أظفر بهذا العبد الصالح لأتعلم عنه. قوله تعالى: {فلما بلغا مجمع بينهما} أي بين البحرين وهما بحر فارس عند باب المندب حيث التقى البحر الأحمر والبحر الهندي. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله أعلم بأيها أراد. وقوله: {نسياً حوتمها} أي نسي الفتى الحوت، إذ هو الذي كان يحمله، ولكن نسب النسيان إليهما جرياً على المتعارف من لغة العرب، وهذا الحوت قد جلعه الله تعالى علامة لموسى على وجود الخضر حيث يفقد الحوت، إذ القصة كما في البخاري تبتدئ بأن موسى خطب يوماً في بني إسرائيل فأجاد وأفاد فاعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له: هل يوجد من هو اعلم منك موسى؟ فقال: لا. فأوحى إليه ربه فوراً بلى عبدنا خضر، فتاقت نفسه للقياه للتعلم عنه، فسأل ربه ذلك، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين، وجعل له الحوت علامة فأمره ان ياخذ طعامه حوتاً وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبدالله خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل (وعاء) ويشق طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية موسى.
ويغلب النوم على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين قال موسى للفتى {آتنا غذاءنا} وعلل ذلك بقوله: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} أي تعباً. هنا قال الفتى لموسى ما قص الله تعالى: قال مجيباً لموسى {أرأيت} أي أتذكر {إذ أوينا إلى الصخرة} التي استراحا عندها {فإني نسيت الحوت} وقال كالمعتذر، {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله} أي طريقه {في البحر عجباً} أي حيي بعد موت ومشى حتى انتهى إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه موسى بما قص تعالى: {قال ذلك ما كنا نبغ} وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان الخضر الذي يوجد فيه {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما قصصاً} أي يتتبعان آثار أقدامهما {فوجدا} خضراً كما قال تعالى: {فوجدا عبداً من عبادنا} وهو خضر {آتيناه رحمة من لدنا} أي نبوة {وعلمناه من لدنا علماً} وهو علم غيب خاص به {وقال له موسى} مستعطفاً له {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً} أي مما علمك الله رشداً أي رشاداً يدلني على الحق وتحصل لي به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى: {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} يريد أن يرى منه اموراً لا يقره عليها وخضر لابد يفعلها فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} أي علماً كاملاً. فأجابه موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم مهما كلفه الثمن فقال: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقاً لما أحب وأهوى.

.من هداية الآيات:

1- عتب الله تعالى على رسوله يا موسى عليه السلام سئل هل هناك من هو اعلم منك فقال لا وكان المفروض أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذللك فكلف هذه الرحلة الشاقة.
2- استحباب الرفقة في السفر، وخدمة التلميذ للشيخ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.
3- طروء النسيان على الإنسان مهما كان صالحاً.
4- مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ {فارتدا على آثارهما قصصا}؟
5- تجلى قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً. وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده هناك.
6- استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالماً وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار ذهباً لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه: قال رب أي عبادك احب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبيدك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب عبادك اعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه عسى ان يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، وللأثر بقية ذكراه ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.

.تفسير الآيات (70- 74):

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}

.شرح الكلمات:

{ذكراً}: أي بياناً وتفصيلاً لما خفي عليك.
{لقد جئت شيئاً إمراً}: أي فعلت شيئاً منكراً.
{لا ترهقني}: أي لا تغشيني بما يعسر علي ولا أطيق حمله علي صحبتي إياك.
{نفساً زكية}: أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.
{بغير نفس}: أي بغير قصاص.
{نكراً}: الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو المنكر الشديد النكارة.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في الحوار الذي بين موسى السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله تعالى: {قال} أي خضر {فإن اتبعني} مصاحباً لي لطلب العلم {فلا تسألني عن شيء} أفعله مما لا تعرف له وجهاً شرعياً {حتى أحدث لك منه ذكراً} أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله تعالى: {فانطلقا} أي بعد رضا موسى بطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض فوصلا ميناء من المواني البحرية، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة، وتوغلت في البحر أخذ خضر فأساً فخرق السفينة، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول: {أخرقتها لتغرق أهلها} على انهما حملانا بدون نول {لقد جئت شيئاً إمراً} أي أتيت يا عالم منكراً فظيعاً فأجابه خضر بما قص تعالى: {قال ألم أقل إنك لن تستطيع صبراً} فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه: {قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً} أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه من موسى نسياناً حقاً ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فاتضايق من صحبتي إياك.
قال تعالى: {فانطلقا} بعد نزولهما ومن البحر إلى البر فوجدا غلاماً جميلاً وسيماً يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانباً وأضجعه وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه: {أقتلت نفساً زكية بغير نفس} زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنباً تلوث به روحه ولم يقتل نفساً يستوجب بها القصاص {لقد جئت شيئاً نكراً} أي أتيت منكراً عظيماً بقتلك نفساً طاهرة ولم تذنب ولم تكن هذه نسياناً من موسى بل كان عمداً أنه لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجهاً ولا سبباً.

.من هداية الآيات:

1- جواز الأشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.
2- جواز ركوب السفن في البحر.
3- مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر.
4- مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس.

.تفسير الآيات (75- 78):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}

.شرح الكلمات:

{قال ألم أقل لك}: أي قال خصر لموسى عليهما السلام.
{بعدها}: أي بعد هذه المرة.
{فلا تصاحبني}: أي لا تتركني أتبعك.
{من لدني عذراً}: أي من قبلي جهتي عذراً في عدم مصاحبتي لك.
{أهل قرية}: مدنية أنطاكية.
{استطعما أهلها}: أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.
{يريد أن ينقض}: أي قارب السقوط لميلانه.
{فأقامه}: أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.
{أجراً}: أي جعلا على إقامته وإصلاحه.
{هذا فراق بيني وبينك}: أي قولك هذا {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.
{بتأويل}: أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في محاورة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد تقدم إنكار موسى على الخضر قتله الغلام بغير نفس، ولا جرم إرتكبه، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال: {لقد جئت شيئاً نكراً} فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله: {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} لما سألتني الصحبة للتعليم، فأجاب موسى بما أخبر تعالى له في قوله: {قال إن سألتك عن شيء بعدها} أي بعد هذه المرة {فلا تصاحبني} أي أترك صحبتي فإنك {قد بلغت من لدني} أي من جهتي وقبلي عذراً في تركك إياي.
قال تعالى: {فانطلقا} في سفرهما {حتى أتيا أهل قرية} أي مدينة قيل إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلباً منهم الضيف الواجب له {فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها} أي في القرية {جداراً يريد أن ينقض} أي يسقط فأقامة الخضر وأصلحه فقال موسى له: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي جعل مقابل إصلاحه، لاسيما أن اهل هذه القرية لم يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى: {هذا فراق بيني وبينك} لانك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شيء ان لا تطلب صحبتي وها انت قد سألتني، فهذا وقت فراقك إذاً {سأنبئك} أي أخبرك {بتأويل ما لم تستطيع عليه صبراً} من خرق السفينة الغلام وإقامة الجدار.

.من هداية الآيات:

1- وجوب الوفاء بما التزم به الإنسان لآخر.
2- وجوب الضيافة لمن استحقها.
3- جواز التبرع بأي خير أو عمل إبتغاء وجه الله تعالى.

.تفسير الآيات (79- 82):

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}

.شرح الكلمات:

{المساكين}: جمع مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب.
{يعلمون في البحر}: أي يؤجرون سفينتهم للركاب.
{أعيبها}: أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.
{غضباً}: أي قهراً.
{أن يرهقهما طغياناً وكفراً}: أي يغشاهما: ظلماً وجحوداً.
{وأقرب رحما}: أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.
{وما فعلته عن امري}: أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله وعظم سلطانه.

.معنى الآيات:

هذا آخر حديث موسى والخضر عليهما السلام، فقد واعد الخضر موسى عندما اعلن له عن فراقه أن يبين له تأويل مالم يستطع عليه صبراً، وهذا بيانه قال تعالى حكاية عن الخضر: {أما السفينة} التي خرقتها وأنكرت علي ذلك {فكانت لمساكين يعملون في البحر} يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت {فأردت أن أعيبها} لا لأغرق أهلها، {وكان رواءهم ملك} ظالم {يأخذ كل سفينة} صالحة {غصباً} أي قهراً وإنما أردتان أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا يأخذ إلا السفن الصالحة {وأما الغلام} الذي قتلت وأنكرت عليّ قتله {فكان أبواه مؤمنين فخشياً} إن كبر {أن يرهقهما} أي يغشيهما {طغياً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة} أي طهراً وصلاحاً {وأقرب رحماً} أي رحمة وبراً فلذا قتته، {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} أي سن الرشد {ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} أي كان ذلك رحمة {وما فعلته عن أمري} أي عن إرادتي وإختياري بل كان بأمر ربي وتعليمه. {ذلك} أي هذا {تأويل ما لم تسطع عليه صبراً}.

.من هداية الآيات:

1- بيان ضروب من خفي ألطاف الله تعال فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضاراً.
2- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.
3- مراعاة صلاح الأباء في إصلاح حال الأبناء.
4- كل ما أتاه الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جهال الناس ويسمونه بالعلم اللدني وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء، وقد يسمونه كشفاً، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخضر قال لموسى: أنا على علم علمني رب وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله الا كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر.