فصل: من هداية الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (20- 21):

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}

.شرح الكلمات:

{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو}: أي ان الحياة أشبه بالأمور الخيالية قليلة النفع سريعة الزوال.
{وزينة}: أي ما يتزين به المرء من أنواع الزينة والزينة سريعة التغير والزوال.
{وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد}: أي أنها لا تخرج عن كونها لهواً ولعباً وزينة وتفاخر اً وتكاثراً في الأموال والأولاد.
{كمثل غيث أعجب الكفار نباته}: أي مثلها في سرعة زوالها وحرمان صاحبها من الدار الآخرة ونعيمها كمثل مطر أعجب الكفار أي الزراع أجبهم نباته أي ما نبت به من الزرع.
{ثم يهيج فتاره مصفراً}: أي يبس فتراه مصفراً آن أوان حصاده.
{ثم يكون حطاما}: ثم يتحول بسرعة إلى حطام يابس يتفتت.
{الا متاع الغرور}: أي وما الحياة الدنيا في التمتع بها إذ الحياة نفسها غرور لا حقيقة لها.
{سابقون إلى مغفرة من ربكم}: أي سارعوا بالتوبة مسابقين غيركم لتغفر لكم ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم.
{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}: أي الموعود به من المغفرة والجنة.
{والله ذو الفضل العظيم}: أي فلا يبعد تفضله بذلك الموعود به وإن كان عظيماً.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم ي توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يزيد في كمالهم وسعادتهم في الحياتين فخاطبهم قائلا: اعلموا أيها المؤمنون الذي استبطانا قلوبهم أي خشوعهم إذ الإِقبال على الدنيا هو سبب الغفلة عن الآخرة ومتطلباتها من الذكر والعمل الصالح {أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} هذه حقيقتها وهي أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال. فلا تغتروا بها ولا تقبلوا بكلكم عليها أنصح لكم بذلك. فاللهو كاللعب لا يُخلِفان منفعة تعود على اللاهي اللاعب، والزينة سرعان ما تتحول وتتغير وتزول والتفاخر بين المتفاخرين مجرد كلام ما وراءه طائل أبداً والتكاثر لا ينتهي إلى حد ولا يجمع الا بالشقاء والنصب والتعب ثم يذهب أو يُذهب عنه فلا بقاء له ولا دوام وله تبعات لا ينجو منها صاحبها إلا برحمة من الله وإليكم مثل الحياة الدنيا إنها {كمثل غيث} أي مطر {أعجب الكفار} أي الفلاحين الذين كفروا بذرة بالتربة {نباته} الذي نبت به أي المطر {ثم يهيج فتراه} بعد أيام {مصفرا} ثم يهيج أي ييبس {ثم يكون حطاماً} يتفتت هذه هي الدنيا من بدايتها إلى نهايتها المؤلمة أما الآخرة ففيها عذاب شديد لأهل الشرك والمعاصي لابد لهم منه يفارقونه، ومغفرة من الله ورضوان لأهل التوحيد وصالح الأعمال وما الحياة الدنيا وقد عرَضنا عليكم مثالها فما هي إلا متاع الغرور أي إنها لا حقيقة لها وكل ما فيها من المتع التي يتمتع بها إلا غرور باطل. وعليه فأنصح لكم سابقوا إلى مغفرة من ربكم أي سارعوا بالتوبة مسابقين بعضكم بعضا لتغفر ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم التي عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسوله أي هُيئت وأحضرت فهي مُعدة مهيأة.
ذلك فضل الله أي المغفرة ودخول الجنة يؤتيه من يشاء ومن سارع إلى التوبة فآمن وعمل صالحاً وتخلى عن الشرك والآثام فهو ممن شاء له فضله ولذلك وفقه للإِيمان وصالح الأعمال. والله ذو الفضل العظيم فلا يستبعد منه ذلك المطلوب المرغوب من النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.

.من هداية الآيات:

1- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا.
2- الدعوة إلى المسابقة في طلب مغفرة الذنب ودخول الجنة.
3- بيان الجنة ما يُكسبها وهو الإِيمان بالله ورسله ومستلزماته من التوحيد والعمل الصالح.

.تفسير الآيات (22- 25):

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}

.شرح الكلمات:

{ما أصاب من مصيبة في الأرض}: أي بالجدب وذهاب المال.
{ولا في أنفسكم}: أي بالمرض وفقد الولد.
{إلا في كتاب من قبل من نبرأها}: أي في اللوح المحفوظ قبل أن نخلقها.
{إن ذلك على الله يسير}: أي سهل ليس بالصعب.
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم}: أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي مما تحبون من الخير.
{ولا تفرحوا بما آتاكم}: أي بما أعطاكم فرح البطر أما فرح الشكر فهو مشروع.
{والله لا يحب كل مختال فخور}: أي مختال بتكبره بما أعطى، فخور أي به على الناس.
{الذين يبخلون}: أي بما وجب عليهم أن يبذلوه.
{ويأمرون الناس بالبخل}: أي بمنع ما وجب عليهم عطاؤه.
{ومن يتول}: أي عن الإِيمان والطاعة وقبول مواعظ ربهم.
{فإن الله غني}: أي غني عن سائر خلقه لأن غناه ذاتى له لا يستمده من غيره.
{حميد}: أي محمود بجلاله وجمالة وآلائه ونعمه على عباده.
{بالبينات}: أي بالحجج والبراهين القاطعة على صدق دعوتهم.
{وأنزلنا معهم الكتاب}: أي وأنزل عليهم الكتب الحاوية للشرائع والأحكام.
{والميزان}: أي العدل الذي نزلت الكتب بالأمر به وتقريره.
{ليقوم الناس بالقسط}: أي لتقوم حياتهم فيما بينهم على أساس العدل.
{فيه بأس شديد}: أي في الحديد بأس شديد والمراد آلات القتال من سيف وغيره.
{ومنافع للناس}: أي ينتفع به الناس إذ ما من صنعة الا والحديد آلتها.
{وليعلم الله من ينصره ورسله}: أي وأنزلنا الحديد وجعلنا فيه بأساً شديداً ليعلم الله من ينصره في دنيه وأوليائه وينصر رسله المبلغين عنه.
{بالغيب}: أي وهم لا يشاهدونه بأبصارهم في الدنيا.
{إن الله قوى عزيز}: أي لا حاجة إلى نصرة أحد وإنما طَلَبهَا يَتَعَبَّدُ بها عباده.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في إرشاد المؤمنين وتوجيههم إلى ما يكملهم ويسعدهم فقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة} أي ما أصابكم أيها المؤمنون من مصيبة في الأرض بالجدب والقحط أو الطوفان أو الجوائح تصيب الزرع {ولا في أنفسكم} بالمرض وفقد الولد إلاَّ وهي في كتاب أي في كتاب المقادير، اللوح المحفوظ مكتوبة بكميتها وكيفيتها وزمانها ومكانها {من قبل أن نبرأها} أي وذلك قبل خلق الله تعالى لها وإيجادها. وقوله: {إن ذلك على الله يسير} أي علمه بها وكتابته لها قبل خلقها وإيجادها في وقتها سهل على الله يسير.
وقوله: {لكيلا تأسوا} أي أعلمناكم بذلك بعد قضائنا وحكمنا به أزلاً من أزل ألا تحزنوا على ما فاتكم مما تحبون في دنياكم من الخير، ولا تفرحوا بما آتاكم فرح الأشر والبطر فإنه مضر أما فرح الشكر فلا بأس به فقد ينعم الله على العبد ليشكره.
وقوله: {والله لا يحب كل مختال فخور} يحذر أولياءه من خصلتين ذميمتين لا تنبغيان للمؤمن وهما الاختيال أي التكبر والفخر على الناس بما أعطاه الله وَحَرَمَهَم.
وقوله: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} هذا بيان لمن لا يحبهم الله وهم أهل الكبر والفخر بذكر صفتين قبيحتين لهم وهما البخل الذي هو منع الواجب والأمر بالبخل والدعوة إليه فهم لم يكتفوا ببخلهم فأمروا غيرهم بالبخل الذي هو منع الواجب وعدم بذله والعياذ بالله من هذه القبائح الأربع. وقوله: {ومن يتول} أي عن الإِيمان والطاعة وعدم قبول وعظ الله وإرشاده {فإن الله هوالغني} عن سائر خلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره {الحميد} أي محمود بجلاله وجماله وإنعامه على سائر عباده.
وقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} أي بالحجج القواطع وأنزلنا معهم الكتاب الحاوي للشرائع والأحكام التي يكمل عليها الناس ويسعدون وأنزلنا الميزان وذلك ليقوم الناس بالعدل أي لتقوم حياتهم على أساس العدالة والحق.
وقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} أي وكما أنزلنا الكتاب للدين والعدل للدنيا أنزلنا الحديد لهما معاً للدين والدنيا فيما فيه من البأس الشديد في الحروب فهو لإقامة الدين بالجهاد {ومنافع للناس} إذْ سائر الصناعات متوقفة عليه فهو للدنيا.
وقوله تعالى: {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} أي من الحكمة في إنزال الحديد أن يعلم الله من ينصره أي ينصر دينه ورسله بالجهاد معهم والوقوف إلى جانبهم وهم يبلغون دعوة ربهم بالغيب أي وهم لا يشاهدون الله تعالى بأعينهم وإن عرفوه بقلوبهم.
وقوله تعالى: {إن الله قوي عزيز} إعلام بأنه لا حاجة به إلى نصرة أحد من خلقه وذلك لقوته الذاتية وعزته التي لا ترام، وإنما كلف عباده بنصرة دينه ورسله وأوليائه تشريفاً لهم وتكريماً وليرفعهم بذلك إلى مقام الشهداء.

.من هداية الآيات:

1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- بيان الحكمة في معرفة القضاء والقدر والإِيمان بهما.
3- حرمة الاختيال والفخر والبخل والأمر بالبخل.
4- بيان إفضال الله وإنعامه على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان وإنزال الحديد بما فيه من منافع للناس وبأس شديد.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}

.شرح الكلمات:

{ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم}: أي وتالله لقد أرسلنا نوحاً هو الأب الثاني للبشر وإبراهيم هو أبو الأنبياء.
{والكتاب}: أي التوراة والزبور والإِنجيل والفرقان.
{فمنهم مهتد}: أي من أولئك الذرية أي سالك سبيل الحق والرشاد.
{وكثير منهم فاسقون}: أي عن طاعة الله ورسله ضال في طريقه.
{ثم قفينا على آثارهم برسلنا}: أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهينا إلى عيسى.
{وقفينا بعيسى بن مريم}: أي أتبعانهم بعيسى بن مريم لتأخره عنهم في الزمان.
{وجعلنا في قلوب الذي اتبعوه}: أي على دنيه وهم الحواريون وأتباعهم.
{رأفة ورحمة}: أي ليناً وشفقة.
{ورهبانية ابتدعوها}: أي وابتدعوا رهبانية لم يكتبها الله عليهم. وهي اعتزال النساء والانقطاع في الأديرة والصوامع للتعبد.
{إلا ابتغاء رضوان الله}: أي إلا طلبا لرضوان الله عز وجل.
{فما رعوها حق رعايتها}: أي لم يلتزموا بما نذروه على أنفسهم من الطاعات.
{فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم}: أي فأعطينا الذي ثبتوا على إيمانهم وتقواهم أجرهم.
{وكثر منهم فاسقون}: لا أجر لهم ولا ثواب إلا العقاب.

.معنى الآيات:

يخبر تعالى أنه كما أرسل رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان ارسل كذلك نوحاً وإبراهيم فنوح هو أبو البشر الثاني وإبراهيم هو أبو الأنبياء من بعده ذكرهما لمزيد شرفهما، ولما لهما من آثار طيبة فقال: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة} أي في أولادهما النبوة والكتاب فهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط من ذرية نوح وإسماعيل وإسحاق وباقي الأنبياء من ذرية إبراهيم وقوله: {فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} أي فمن أولئك الذرية المهدى وأكثرهم فاسقون وقوله: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} أي رسولا بعد رسول إلى عيسى بن مريم، وقفينا بعيسى بن مريم أي أتبعاتهم بعيسى بن مريم كل ذلك لهداية العباد إلى ما يكملهم ويسعدهم وقوله: {وآتيناه الإِنجيل} أي آتينا عيسى بن مريم الإِنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة والرأفة اللين وأشد الرحمة. وقوله: {ورهبانية ابتدعوها} أي ابتدعها الذين اتبعوا عيسى {ما كتبناها عليهم} أي لم يكتبها الله تعالى عليهم لما فيها من التشديد ولكن ما ابتدعوها الا طلباً لرضوان الله ومرضاته فما رعوها حق رعايتها حيث لم يوفوا بما التزموا به من ترك النيا والإِقبال على الآخرة حيث تركوا لانساء ولبسوا الخشن من الثياب وأكلوا الخشن من الطعام ونزلوا الصوامع والأديرة.
ولهذه الرهبانية سبب مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما نذكره باختصار للفظه ومعناه قال كان بعد عيسى ملوك بدلوا التوراة وحرفوا الإِنجيل وألزموا العامة بذلك، وكان بينهم جماعة رفضُوا ذلك التحريف للدين ولم يقبلوه ففروا بدينهم، والتحقوا بالجبال وانقطعوا عن الناس مخافة قتلهم أو تعذيبهم لمخالفتهم دين ملوكهم المحدث الجديد فهذا الانقطاع بداية الرهبانية، وعاش أولئك المؤمنون وماتوا وجاء جيل من أبناء الدين المحرف فذكروا سيرة الصالحين الأولين فأرادوا أن يفعلوا فعلهم فانقطعوا إلى الصوامع والأديرة، ولكنهم جهال وعلى دين محرف مبدّل فاسد فما انتفعوا بالرهبانية المبتدعة وفسق أكثرهم عن طاعة الله ورسوله.
وهو ما دل عليه قول الله تعالى: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} وهم الأولون المؤمنون الذي فروا من الكفر والتعذيب وعبدوا الله تعالى بما شرع، وقوله: {وكثير منهم فاسقون} وهم الذين أتوا من بعدهم إلى يومنا هذا إذ هم يعبدون الله بدين محرف باطل ولم يلتزموا بالرهبنة الصادقة بالزهد في الدنيا والإِقبال على الآخرة.

.من هداية الآيتين:

1- بيان منة الهل على عباده بإرسال الرسل.
2- بيان سنة الله في الناس وهي أنه إذا أرسل لهداية الناس يهتدى بعض ويضل بعض فيفسق.
3- ثناء الله على عيسى بن مريم واتباعه بحق من الحواريين وغيرهم إلى أن غيرت الملوك دين المسيح وضل الناس وأصبحوا فاسقين عن دين الله تعالى.
4- تحريم البدع والابتداع ولا رهبانية في الإِسلام ولكن يعبد الله بما شرع.

.تفسير الآية رقم (29):

{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}

.شرح الكلمات:

{يا أيها الذين آمنوا}: أي بعيسى بن مريم وموسى من قبله.
{اتقوا الله وآمنوا برسوله}: أي خافوا عقاب الله وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه.
{يؤتكم كفلين}: يعطكم الله نصيبين من الأجر مقابل إيمانكم بينيكم وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
{ويجعل لكم نوراً تمشون فيه}: أي في الدنيا إذ تعيشون على هداية الله وفي الآخرة تمشون به على الصراط.
{لئلا يعلم أهل الكتاب}: أي لكى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله. واللام في فئلا مزيدة لتقوية الكلام.

.معنى الآيتين:

هذا نداء الله لأهل الكتاب بعد أن ذكر نبذة عن رسلهم وأتباعهم نادى الموجودين منهم بعنوان الإِيمان أي ما من آمنتم بالرسل السابقين حسب ادعائكم اتقوا الله فلا تفرقوا بين رسل الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم أي عطكم كفلين أي حظين ونصيبين من رحمته ومثوبته ويجعل لكم نوراً تمشون به في الدنيا وهو الهداية الإِسلامية إذ الإِسلام صراط مستقيم صاحبه لا يضل ولا يشقى وتمشون به في الآخرة على الصراط إلى دار السلام الجنة، ويغفر لم ذنوبكم الماضية الحاضرة والله غفور رحيم. وذلك ليعلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين رفضوا الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإِسلام أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله أي لا يقدرون على الحصول على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

.من هداية الآيتين:

1- أعظم نصيحة تقدم لأهل الكتاب لو أخذوا بها تضمنها نداء الله لهم وما وعدهم به في هذه الآية الكريمة.
2- فضل الإيمان والتقوى إذ هما سبيل الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة.
3- إبطال مزاعم أهل الكتاب في احتكار الجنة لهم، وإعلامهم بأنهم محرمون منها ما لم يؤمنوا برسول الله ويتقوا الله فعل أوامره واجتناب نواهيه.

.سورة المجادلة:

.تفسير الآيات (1- 4):

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}

.شرح الكلمات:

{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها}: أي تراجعك أيها النبي في شأن زوجها أوس بن الصامت.
{وتشتكى إلى الله}: أي وحدتها وفاقتها وصبية صغاراً إن ضمتهم إليه ضاعوا وإن ضمهم إليها جاعوا.
{والله يسم تحاوركما}: أي تراجعكما أنت أيها الرسول والمحاورة لك وهي خولة بنت ثعلبة.
{إن الله سميع بصير}: أي لأقوالكما بصير بأحوالكما.
{الذين يظاهرون منكم من نسائهم}: أي يحرمون نساءهم بقول أنت عليَّ كظهر أمي.
{من هن أمهاتهم}: أي ليس هن بأمهاتهم.
{إن أمهاتهم إلا اللئي ولدنهم}: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، أو أرضعنهم.
{وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}: أي وإنهم بالظهار ليقولون منكراً من القول وزوراً أي كذباً.
{وإن الله لغفو غفور}: أي بأن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي أو أختي ونحوها من المحارم.
{ثم يعودون لما قالوا}: أي يعزمون على العودة للتي ظاهروا منها، إذ كان الظهار في الجاهلية طلاقاً.
{فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}: أي فالواجب عليه تحرير رقبة مؤمنة قبل أن يجامعها.
{ذلكم توعظون به}: أي تؤمرون به فافعلوه على سبيل الوجوب.
{فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين}: أي فمن لم يجد الرقبة لانعدامها أو غلاء ثمنها فالواجب صيام شهرين متتابعين.
{من قبل أن يتماسا}: أي من قبل الوطء لها.
{فمن لم يستطع}: أي الصيام لمرض أو كبر سن.
{فإطعام ستين مسكيناً}: أي فعليه قبل الوطء، أن يطعم ستين مسكيناً يعطى لكل مسكين مداً من بر أو مدين من غير البر كالتمر والشعير ونحوهما من غالب قوت أهل البلد.
{ذلك}: أي ما تقدم من بيان حكم الظهار الذي شرع لكم.
{لتؤمنوا بالله ورسوله}: أي لأن الطاعة إيمان والمعصية من الكفران.
{وتلك حدود الله}: أي أحكام شرعه.
{وللكافرين عذاب أليم}: أي وللكافرين بها الجاحدين لها عذاب أليم أي ذو ألمٍ.

.معنى الآيات:

قوله تعالى: {قد سمع الله} هذه الآية الكريمة نزلت في خولة بنت ثعلبة الأنصارية وفي زوجها أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين كان قد ظاهر منها زوجها أوس، فقال لها في غضب غير مغلق أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظهار يومئذٍ طلاقاً، وكانت المرأة ذات أطفال صغر وتقدم بها وبزوجها السن فجاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشكوا إليه ما قال زوجها فذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم ضعفها وضعف زوجها وضعف أطفالها الصغار، وما زالت تراجع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحاوره في شأنها وشأن زوجها حتى نزلت هذه الآيات الأربع من فاتحة سورة المجادلة التي سميت بها السورة فقيل سورة المجادِلة بكسر الدال، ويصح فتحها فقال تعالى مُخاطباً رسوله {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} أي قد سمع الله قول المرأة التي تجادلك أي تراجعك في شأن زوجها الذي ظاهر منها، تشتكى إلى الله بعد أن قلت لها: والله ما أمرت في شأنك بشيء، تشكو إلى الله ضعف حالها.
{والله يمسع تحاوركما} أي مراجعتكما لبعضكما بعضاً الحديث وأجابكما {إن الله سميع بصير} أي سميع لأقوال عباده عليم بأحوالهم وهذا حكم الظار فافهموه واعملوا به.
أولاً: أن الظهار الذي هو قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي لا يجعل المظاهر منها أمّاً له إذ أمه هي التي ولدته وخرج من بطنها، والزوجة لا تكون أمّاً بحال من الأحوال.
ثانياً: هذا القول كذب وزور ومنكر من القول وقائله آثم فليتب إلى الله ويستغفره.
ثالثاً: لولا عفو الله وصفحه على عباده والمؤمنين ومغفرته للتائبين لعاقبهم على هذا القول الكذب الباطل.
رابعاً: على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي يعزمون على وطئها بعد الظهار منها فالواجب عليهم قبل الوطء لها تحرير رقبة ذكراً كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة لكن مؤمنة لا كافرة، فمن لم يجد الرقبة لانعدامها، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع لعلة قامت به فالواجب إطعام ستين مسكيناً يعطي كل مسكين مدّاً من برّ أو نصف صاع من غير البر كالشعير والتمر ونحوهما كل ذلك من قبل أن يتماسَّا من باب حمل المطلق على المقيد إذ قيد الأول بقبل المسيس فيحمل هذا الأخير عليه.
وقوله: {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي ذلك الذي تقدم من بيان حكم الظهار شرعه لكم لتؤمنوا بالله ورسوله إذ الإِيمان اعتقاد وقول وعمل، فطاعة الله ورسوله إيمان ومعصيتهما من الكفران. وقوله تعالى: {وتلك حدود الله} أي لا تعتدوها بل قفوا عندها وللكافرين بها المتعدين لها عذاب أليم أي ذو ألم موجع جزاء تعديهم حدود الله.

.من هداية الآيات:

1- إجابة الله لأوليائه بتفريج كروبهم وقضاء حوائجهم فله الحمد وله الشكر.
2- حرمة الظهار باعتباره منكراً وكذباً وزوراً فيجب التوبة منه.
3- بيان حكم المظاهر وهو أن عليه عتق رقبة قبل أن يجامع امرأته المظاهر منها. فإن لم يجد الرقبة المؤمنة صام شهرين متتابعين من الهلال إلى الهلال وإذا انقطع التتابع لمرض بنى على ما صامه. فإِن لم يستطع لمرض ونحوه أطعم ستين مسكيناً فأعطى لكل مسكين على حدة مدّاً من بر أو مدين من غير البر كالشعير والتمر.
4- لو جامع المظاهر قبل إخراج الكفارة أثم فلستغفر ربّه وليخرج كفارته. ولا شيء عليه لحديث الترميذي الصحيح.
5- طاعة الله ورسوله إيمان، ومعصية الله ورسوله من الكفران.