فصل: تفسير الآيات (59- 63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (59- 63):

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}

.شرح الكلمات:

{المثل}: الصفة المستغربة البديعة.
{الحق من ربك}: أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى هو الحق الثابت من ربك.
{الممترين}: الشاكين، إذ الأمتراء: الشك.
{حاجك}: جادلك بالحجج.
{نبتهل}: نلتعن أي نلعن الكاذب منا.
{القصص الحق}: ما قصه الله تعالى هو القصص الحق الثابت الذي لا شك فيه.
{المفسدون}: الذين يعملون بمعاصي الله تعال في الأرض من الشرك وكبائر الذنوب.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في تقرير عبوديّة عيسى ورسالته دون ربوبيتّه وألوهيته، فقد روي أن وفد نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قالوا: كل آدمي له أبٌ فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن} فإذا هو كائن فأيّ داع لاتخاد عيسى إلهاً، ألكونه خلقه الله من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم، وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خُلق بكلمة الله التي هي كُنْ فكان، هذا هو الحق الثابت من الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشك. ولما أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذباً منهم يهلك على الفور فقال له ربّه تعالى: {فإن حاجوك فقل تعالوا...} هلموا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين وخرج في الغد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا فهربوا من الملاعنة، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل، ثم قال تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} بالذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام، وإنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا هو تعالى، وإن الله لهو العزيز الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده، الحيكم في خلقه وتدبيره ثم توعد نصارى نجران وغيرهم من أهل الفساد في الأرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم، وينزل لعنته عليهم وهو على كل شيء قدير.

.من هداية الآيات:

1- ولاية الله تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريقة التي أنهى بها جدال النصارى الذي آلمه وأتعبه.
2- مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم.
3- تقرير ألوهية الله تعالى دون سواه وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلام.
4- تهديد الله تعالى لأهل الفساد في الأرض وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي.

.تفسير الآيات (64- 68):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}

.شرح الكلمات:

{أهل الكتاب}: اليهود والنصارى لأن اليهود عندهم التوراة والنصارى عندهم الإنجيل.
{إلى كلمة سواء}: الكلمة السَّواء هي العادلة وهي أن نعبد الله وحده لا شريك له ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
{أرباباً}: الأرباب جمع ربّ وهو المألوه المطاع بغير طاعة الله تعالى.
{فإن تولوا}: أعرضوا عن التوحيد.
{اشهدوا}: اعلموا علم رؤية ومشاهدة بأنا مسلمون.
{تحاجّون}: تجادلون بحجج باطلة.
{يهودياً ولا نصرانياً}: لم يكن إبراهيم على ملة اليهود، ولا على ملة النصارى.
{كان حنيفاً مسلماً}: مائلاً عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي الإسلام.
{أولى الناس بإبراهيم}: أحق بالنسبة إلى إبراهيم وموالاته الذي اتبعوه على التوحيد.
{والله ولي المؤمنين}: متولي أمرهم وناصرهم.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في إبطال باطل أهل الكتابين إذ قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود ونصارى تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها إلى كلمة سواء كلمة عدل نصف بيننا وهي أن نعبد الله وحده لا نشرك به سواه وأن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فيفرض طاعته على غيره ويلزمه بالسجود تعظيماً وتقديساً فإن أبوا عليك ذلك وتولوا عنه فقولوا أيها المؤمنون: اشهدوا أيها المتولون عن الحق بأنا مسلمون. وفي هذا تعريض بل تصريح بأن غيرهم ليسوا مسلمين.
هذا معنى الآية: الأولى (64) أما الآية الثانية (65) فيأمر تعالى رسوله أيضاً أن يقول للمتولين عن الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدَّعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان على دينها مع أن اليهودية ما كانت إلا بعد نزول التوراة، والنصرانية ما كانت إلا بعد نزول الإِنجيل، وإبراهيم كان قبل نزول الكتابين بمئات السنين، ما لكم تقولون بما لا يقبل ولا يعقل أفلا تعقلون؟ ثم وبخهم بما هم أهله قائلا لم: اسمعوا يا هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم وكتابكم فلم تجادلوا فيما ليس لكم به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مَبْدءِ التوحيد وإخلاص العبادة الله وحد، والله يعلم بعد أن وبخهم فقال ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً وإنما كان حنيفاً موّحداً مطيعاً لربه مسلماً له ولم يكن من المشركين. وبعد أن وبخ تعالى المجادلين لرسوله وكذبهم في دعواهم أن إبراهيم على دينهم قرر حقيقة كبرى ينبغي أن يعلموها ويقرّوا بها وهي أن أحق الناس بالنسبة إلى إبراهيم والانتماء اليه هم الذين اتبعوه على ملة التوحيد وعبادة الله تعالى بما شرع وهذا النبي الكريم العظيم محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا معه واتبعوا الهدى الذي جاء به، والله تعالى وليّ المؤمنين، وعدو الكافرين المشركين.

.من هداية الآيات:

1- لا يَصْلُح حال البشرية ولا يستقيم أمره اإلا إذا أخذت بمبدأ: الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وأن لا يعلو بعضها على بعض تحت أيّ قانون أو شعار.
2- حجيّة التاريخ وبيان الحاجة إليه، إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم بأن التوراة والإِنجيل لم ينزلا الا بعد وفاته فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً.
3- ذم من يجادل فيما لا علم له به، ولا شأن له فيه.
4- اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير.
5- المؤمنون بعضهم أولياء بعض وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم والله وليّ المؤمنين.

.تفسير الآيات (69- 71):

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}

.شرح الكلمات:

{ودت طائفة}: أحبَّت فرقةٌ وهم الأحبار والرؤساء فيهم.
{لو يضلونكم}: أي تمنَّوا إيقاعكم في الضلال لتشقوا وتهلكوا مثلهم.
{وما يشعرون}: أي وما يدرُون ولا يعلمون بأنهم بمحاولة إضلال المؤمنين إنما هم يضلون أنفسهم حيث يتوغلون في الشر فيضاعف لهم العذاب.
{لبس الحق بالباطل}: خلطه به كأنما كسا الباطل ثوب الحق وكسا الحق ثوب الباطل حتى لا يُعرف فيؤخذ به، ويهتدى عليه.

.معنى الآيات:

يخبر تعالى عباده المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنّت لو توقعكم في الضلال لتهلكوا والغالب أن هذه الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود والنصارى يودون إضلال المسلمين حسداً لهم على الحق الذي هم عليه، وأخبر تعالى أنهم بتمنيهم هلاك المسلمين إنما يهلكون أنفسهم وما يدرون ذلك ولا يعلمون به وقال عز وجل: {وما يضلون الا أنفسهم وما يشعرون}
هذا معنى الآية: (69) أما الآية (70) فقد نادى الرب تعالى أهل الكتاب ليوبخهم وينعي عليهم ضلالهم فقال: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} أي لم تجحدون الآيات التي بها نعت الرسول وصفته لله في التوراة والإِنجيل والحال أنكم تشهدون أنها صفات الرسول ونعوته وأنها منطبقة عليه؟ أليس هذا قبحاً منكم وشراً تعود عاقبته عليكم؟ وفي الآية (71) وبخهم أيضاً على خلطهم الحق بالباطل حتى لا يعرف ويؤخذ به ويهتدى عليه فقال تعالى: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل} وشنع عليهم بكتمانهم الحق الذي هو نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبينّة في كتبه وعلى ألسنة رسلهم فقال: {وتكتمون الحق وأنتم تشهدون} أنه الحق من الله.

.من هداية الآيات:

1- بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.
2- عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر.
3- قبح من يكتم الحق وهو يعرفه.
4- حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء لاسيما في دين الله تعالى لابعاد الناس عنه.
5- حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها.

.تفسير الآيات (72- 74):

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}

.شرح الكلمات:

{وجه النهار وآخره}: أوله وهو الصباح وآخره وهو المساء.
{ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}: أي لا تصدقوا إلا من كان على ملتكم.
{الهدى هدى الله}: البيان الحق والتوفيق الكامل بيان الله وهداه لا ما يخلط اليهود ويلبسون تضليلاً للناس.
{أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم}: أن يعطى أحد نبوة ودينا وفضلا.
{أو يحاجوكم عند ربكم}: يخاصموكم يوم القيامة عند ربكم.
{قل إن الفضل بيد الله}: قل إن التوفيق للإِيمان والهداية للإِسلام بيد الله لا بيد غيره.
{والله واسع عليم}: ذو سعة بفضله، عليم بمن يستحق فضله فيمُن عليه.

.معنى الآيات:

يخبر تعالى عن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} وذلك أن كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف عليهما لعائن الله قالا لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلاة الصبح إلى الكعبة، وصلوا العصر إلى الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم لم عدلتم عن الكعبة بعد ما صليتم إليها؟ قولوا لهم قد تبينّ لنا أن الحق هو استقبال الصخرة لا الكعبة. هذا معنى قوله تعالى فيهم {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} يعني في شأن القبلة، {وجه النهار} أي صباحاً، {واكفروا آخره} أي واجحدوا به مساءً، {لعلهم يرجعون} أي إلى استقبال الصخرة بدلاً عن الكعبة، والغرض هو بلبلة أفكار المسلمين وإدخال الشك عليهم وقوله تعالى عنهم: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} يريد أنهم قالوا لبعضهم بعضاً لا تصدقوا أحداً إلا من تبع دينكم من أهل ملتكم وهذا صرف من رؤسائهم لليهود عن الإِسلام وقبوله، أي لا تصدقوا المسلمين فيما يقولون لكم، وهنا رد تعالى عليهم بقوله قل يا رسولنا إن الهدى هدى الله، لا ما يحتكره اليهود من الضلال ويزعمون أنه الحق والهدى وهو البدعة اليهودية وقوله تعالى: {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم}. هو قول اليهود معطوف على قولهم: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} أما لقوله تعالى: {قل إن الهدى...} فهو كلام معترض بين كلام اليهود الذي قُدِّم قبلكم بأن محمداً نبيّ حق وأن دينه حق فيتابعه اليهود والمشركون عليه فيسلمون، أو على الأقل يثبت المسلمون عليه، ونحن نريد زلزلتهم وتشكيكهم حتى يعودوا إلى دين آبائهم، أو يحاجوكم عند ربكم يوم القيامة وتكون لهم الحجة عليكم إن أنتم اعترفتم لهم اليوم بأن نبيهم حق ودينهم حق، فلذا واصلوا الإِصرار أنه لا دين حق إلا اليهودية وأن ما عداها باطل. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم مبكِّتاً لهم: {إن الفضل بيد الله}، لا بيد اليهود {يؤتيه} أي الفضل الذي هو النبوة والهدى والتوفيق وما يتبع ذلك من خير الدنيا والأخرة، {من يشاء} من عباده ويحرمه من يشاء، وهو الواسع الفضل العليم بمن يستأهله ويحق له {يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.

.من هداية الآيات:

1- تسجيل المرك والخداع على اليهود وأنه صفة من صفاتهم اللازمة لهم إلى يوم القيامة.
2- الكشف عن التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل، والإِعلام العالمي اليوم مظهر من مظاهر التضليل اليهودي.
3- سذاجة اليهود المتناهية في فهم مسائل الدين والاعتقاد توارثوها إلى اليوم، وإلا فأي مؤمن بالله واليوم الآخر يقول: لا تعترفوا للمسلمين بأنهم على حق حتى لا يحتجوا عليكم باعترافكم يوم القيامة؟.
إن الله تعالى يعلم أن اليهود يجحدون الإسلام وهو الحق ويكفرون به وهو الحق من ربهم وسيعذبهم في نار جهنم يخلدون فيها، فكونهم لا يصرحون للمسلمين بأنهم على حق وهم يعلمون أنهم على الحق في دنيهم ينجيهم هذا من عذاب الله على كفرهم بالإِسلام؟ اللهم لا. فما معنى قولهم لا تعترفوا بالإِسلام حتى لا يحتج عليكم المسلمون باعترافكم يوم القيامة؟؟ إنه الجهل والسذاجة في الفهم. وسبحان الله ماذا في الخلق من عجائب!!

.تفسير الآيات (75- 77):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}

.شرح الكلمات:

{إن تأمنه}: ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه.
{قنطار}: وزن معروف والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار.
{إلا ما دمت عليه قائماً}: أي ملازماً له تطالبه به ليل نهار.
{الأمّيين}: العرب المشركين.
{سبيل}: أي لا يؤاخذنا الله إن نحن أكلنا أموالهم لأنهم مشركون.
{بلى}: أي ليس الأمر كما يقول يهود من أنه ليس عليهم حرج ولا إثم في أكل أموال العرب المشركين بل عليهم الإِثم والمؤاخذة.
{لا خلاق لهم}: أي لاحظ ولا نصيب لهم في خيرات الآخرة ونعيم الجنان.
{لا يزكيهم}: لا يطهرهم من ذنوبهم ولا يكفرهم عنهم.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في هتك أستار أهل الكتاب وبيان نفسيّاتهم والمريضة وصفاتهم الذميمة ففي هذه الآية (75) يخبر تعالى أن في اليهود من إن منته على أكبر مال أداه إليك وافياً كاملاً، ومنهم من إذا أمنته على دينا فأقل خانك فيه وأنكره عليك فلا يؤديه إليك إلا بمقاضاتك له وملازمتك إياه.. فقال تعالى في خطاب رسوله: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدنيار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون {ليس علينا في الأميين السبيل} أي لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب لأنهم مشركون فلا نؤاخذ بأكل أموالهم وكذّبهم الله تعالى في هذه الدعوة الباطلة فقال تعالى: {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} أي أنه كذب على الله ولكن يكذبون ليسوِّغوا كذبهم وخيانتهم.
وفي الآية الثانية (76) يقول تعتالى: {بلى} أي ليس الأمر كما يدعون بل عليهم الإِثم والحرج والمؤاخذة، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على من أوفى بعهد الله تعالى فآمن برسوله وبما جاء به، واتقى الشرك والمعاصي فهذا الذي يحبه الله فلا يعذبه لأنه عز وجل يحب المتقين. وأما الآية الأخيرة (77) فيتوعد الرب تعالى بأشد أنواع العقوبات أولئك الذين يعاهدون ويخونون ويحلفون ويكذبون من أجل حطام الدنيا ومتاعها القليل فيقول {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} أي لا حظ ولا نصيب لهم في نعيم الدار الآخرة ولا يكلمهم تشريفاً لهم وإكراماً، ولا يزكيهم بالثناء عليهم ولا بتطهيرهم من ذنوبهم، ولهم عذاب مؤلم في دار الشقاء عذاب دائم مقيم.

.من هداية الآيات:

1- يجب أن لا يُغْتَّر بالهيود ولا يوثف فيهم لما عرفوا به من الخيانة.
2- من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس.
3- بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم؛ لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار.
4- عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذباً لأجل المال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان».

.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}

.شرح الكلمات:

{وإن منهم لفريقاً}: طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبويّة.
{يلوون ألسنتهم}: يحرفون ألسنتهم بالكلام كأنهم يقرأون الكتاب.
{وما هو من الكتاب}: وليس هو من الكتاب.
{ويقولون على الله الكذب}: أي يكذبون على الله لأغراض ماديّة.

.معنى الآية:

ما زال السياق في اليهود وبيان فضائحهم فأخبر تعالى أن طائفة منهم يلوون ألسنتم بمعنى يحرفون نطقهم بالكلام تمويهاً على السامعين كأنهم يقرأون التوراة وما أنزل الله فيها، وليس هو من الكتاب المنزل في شيء بل هو الكذب البَحْت، ويقولون لكم إنه من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب لأجل الحفاظ على الحطام الخسيس والرئاسة الكاذبة.

.من هداية الآية:

1- بيان مكر اليهود وتضليلهم للناس وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.
2- جرأة اليهود على الكذب على الناس وعلى الله مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشدّ وظلم أعظم.
3- التحذير للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على الله والرسول لأجل الأغراض الدنيويّة الفاسدة.

.تفسير الآيات (79- 80):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}

.شرح الكلمات:

{ما كان لبشر}: لم يكن من شأن الإِنسان الذي يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة.
{الكتاب والحكم والنبوة}: الكتاب: وحي الله المكتوب والحكم: بمعنى الحكمة وهي الفقه في أسرار الشرع، والنّبُوة: ما يشرّف الله تعالى به عبده من إنبائه بالغيب وتكليمه بالوحي.
{ربانيين}: جمع ربّانى: من ينسب إلى الربّ لكثرة عبادته وغزارة علمه، أو إلى الربان وهو الذي يربّ الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها.
{أرباباً}: جمع ربّ بمعنى السيد المعبود.
{أيأمركم بالكفر}: الإِستفهام للإِنكار، والكفر هنا الردة عن الإِسلام.

.معنى الآيتين:

ما زال السياق في الرد عل أهل الكتاب وفي هذه الآية (79) الرد على وفد نصارى نجران خاصة وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلام. قال تعالى: ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب أي نزل عليه كتاباً ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره ويشرفه بالنبوة فيوحى اليه، ويجعله في زمرة أنبيائه، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس كونوا عباداً لى من دون الله. إن هذا منا كان ولن يكون أبداً. ولا مما هو متصور الوقوع مثل هذا الكمال لا يقول للناس كونوا عباداً لى ولكن يقول لهم كونوا ربانيين تصلحون الناس وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته ويسعدوا عليها، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته.
هذا معنى الآية: (79) أما الآية (80) فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمر الناس بعبادة غير ربّه تعالى سواء كان ذلك الغير ملكاً مكرماً أو نبيّاً مرسلا، وينكر على من نسبوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} فهذ لا يصح منه ولا يصدر عنه بحال.

.من هداية الآيتين:

1- لم يكن من الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه فضلاً عن عبادة غيره.
2- سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم.
3- عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه.
4- السجود لغير الله تعالى كفر لما ورد أن الآية نزلت رداً على ما أرادوا أن يسجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}؟!