فصل: النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَخْفِيفِ الْهَمْزِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.قَاعِدَةٌ: (إِذَا تَغَيَّرَ سَبَبُ الْمَدِّ):

إِذَا تَغَيَّرَ سَبَبُ الْمَدِّ جَازَ الْمَدُّ مُرَاعَاةً لِلْأَصْلِ، وَالْقَصْرُ نَظَرًا لِلَّفْظِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ هَمْزًا أَوْ سُكُونًا، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْهَمْزُ بِبَيْنَ بَيْنَ، أَوْ بِإِبْدَالٍ أَوْ حَذْفٍ؛ وَالْمَدُّ أَوْلَى فِيمَا بَقِيَ لِتَغَيُّرِ أَثَرِهِ، نَحْوُ: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ} [الْبَقَرَة: 31]. فِي قِرَاءَةِ قَالُونَ وَالْبَزِّيِّ، وَالْقَصْرُ فِيمَا ذَهَبَ أَثَرُهُ نَحْوَهَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو.

.قَاعِدَةٌ: (اجْتَمَاعُ سَبَبَينِ):

مَتَى اجْتَمَعَ سَبَبَانِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ عُمِلَ بِالْقَوِيِّ، وَأُلْغِيَ الضَّعِيفُ إِجْمَاعًا أَيْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَدِّ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا فُرُوعٌ:
مِنْهَا: الْفَرْعُ السَّابِقُ فِي اجْتِمَاعِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ.
وَمِنْهَا نَحْوُ: {جَاءُوا أَبَاهُمْ} [يُوسُفَ: 16] وَ{رَأَى أَيْدِيَهُمْ} [هُودٍ: 70]. إِذَا قُرِئَ لِوَرْشٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَلَا التَّوَسُّطُ بَلِ الْإِشْبَاعُ، عَمَلًا بِأَقْوَى السَّبَبَيْنِ، وَهُوَ الْمَدُّ لِأَجْلِ الْهَمْزِ بَعْدَهُ فَإِنْ وَقَفَ عَلَى {جَاءُوا} أَوْ {رَأَى} جَازَتِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْهَمْزِ عَلَى حَرْفِ الْمَدِّ وَذَهَابِ سَبَبِيَّةِ الْهَمْزِ بَعْدَهُ.

.فَائِدَةٌ:

قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: مَدَّاتُ الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ.
مَدُّ الْحَجْز: فِي نَحْو: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [الْبَقَرَة: 6]، {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [الْمَائِدَة: 116]، {أَإِذَا مِتْنَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 82]، {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} [الْقَمَر: 25] لِأَنَّهُ أَدْخَلَ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ حَاجِزًا خَفَّفَهُمَا لِاسْتِثْقَالِ الْعَرَبِ جَمْعَهُمَا، وَقَدْرُهُ أَلِفٌ تَامَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَحُصُولُ الْحَجْزِ بِذَلِكَ.
وَمَدُّ الْعَدْل: فِي كُلِّ حَرْفٍ مُشَدَّدٍ وَقَبْلَهُ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ نَحْوُ: الضَّالِّينَ لِأَنَّهُ يَعْدِلُ حَرَكَةً؛ أَيْ: يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْحَجْزِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ.
وَمَدُّ التَّمْكِين: فِي نَحْو: أُولَئِكَ وَالْمَلَائِكَةُ وَسَائِرِ الْمِدَّاتِ الَّتِي تَلِيهَا هَمْزَةٌ لِأَنَّهُ جُلِبَ لِيُتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَحْقِيقِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ مَخْرَجِهَا.
وَمَدُّ الْبَسْط: وَيُسَمَّى أَيْضًا مَدُّ الْفَصْلِ فِي نَحْو: بِمَا أُنْزِلَ لِأَنَّهُ يُبْسَطُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ.
وَمَدُّ الرَّوْم: فِي نَحْو: {هَا أَنْتُمْ} لِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ الْهَمْزَةَ مِنْ (أَنْتُمْ) وَلَا يُحَقِّقُونَهَا وَلَا يَتْرُكُونَهَا أَصْلًا، وَلَكِنْ يُلَيِّنُونَهَا، وَيُشِيرُونَ إِلَيْهَا. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَهْمِزُ {هَا أَنْتُمْ} وَقَدْرُهُ أَلِفٌ وَنِصْفٌ.
وَمَدُّ الْفَرْق: فِي نَحْو: آلْآنَ لِأَنَّهُ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ وَقَدْرُهُ أَلِفٌ تَامَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَلِفِ الْمَدِّ حَرْفٌ مُشَدَّدٌ زِيدَ أَلِفٌ أُخْرَى لِيُتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، نَحْوُ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ}.
وَمَدُّ الْبِنْيَة: فِي نَحْو: مَاءً وَدُعَاءً وَنِدَاءً وَزَكَرِيَّاءَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ بُنِيَ عَلَى الْمَدِّ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُورِ.
وَمَدُّ الْمُبَالَغَة: فِي نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}.
وَمَدُّ الْبَدَلِ مِنَ الْهَمْزَة: فِي نَحْو: آدَمَ وَآخَرَ وَآمَنَ، وَقَدْرُهُ أَلِفٌ تَامَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَمَدُّ الْأَصْل: فِي الْأَفْعَالِ الْمَمْدُودَةِ، نَحْوُ: جَاءَ وَشَاءَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَدِّ الْبِنْيَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ بُنِيَتْ عَلَى الْمَدِّ، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقْصُورِ، وَهَذِهِ مَدَّاتٌ فِي أُصُولِ أَفْعَالٍ أُحْدِثَتْ لِمَعَانٍ. انْتَهَى.

.النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَخْفِيفِ الْهَمْزِ:

فِيهِ تَصَانِيفُ مُفْرَدَةٌ:
اعْلَمْ أَنَّ الْهَمْزَ لَمَّا كَانَ أَثْقَلَ الْحُرُوفِ نُطْقًا، وَأَبْعَدَهَا مَخْرَجًا، تَنَوَّعَ الْعَرَبُ فِي تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَكْثَرَهُمْ لَهُ تَخْفِيفًا، وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَرِدُ تَخْفِيفُهُ مِنْ طُرُقِهِمْ؛ كَابْنِ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ فُلَيْحٍ، وَكَنَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ، وَكَأَبِي عَمْرٍو؛ فَإِنَّ مَادَّةَ قِرَاءَتِهِ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا هَمَزَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا الْخُلَفَاءُ، وَإِنَّمَا الْهَمْزُ بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا مَنْ بَعْدَهُمْ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ طَرِيقِ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيءَ اللَّهِ. فَقَالَ: «لَسْتُ بِنَبِيءِ اللَّهِ وَلَكِنِّي نَبِيُّ اللَّهِ».
قَالَ الذَّهَبِيُّ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَحُمْرَانُ رَافِضِيٌّ لَيْسَ بِثِقَةٍ.
وَأَحْكَامُ الْهَمْزِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٌ لَا يُحْصِيهَا أَقَلُّ مِنْ مُجَلَّدٍ، وَالَّذِي نُورِدُهُ هُنَا: أَنَّ تَحْقِيقَهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: النَّقْلُ لِحَرَكَتِهِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهُ، فَيَسْقُطُ نَحْوُ: {قَدَ أَفْلَحَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ مِنْ طَرِيقِ وَرْشٍ، وَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ السَّاكِنُ صَحِيحًا آخِرًا وَالْهَمْزَةُ أَوَّلًا.
وَاسْتَثْنَى أَصْحَابُ يَعْقُوبَ عَنْ وَرْشٍ: {كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ} [الْحَاقَّة: 19- 20] فَسَكَّنُوا الْهَاءَ وَحَقَّقُوا الْهَمْزَةَ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَخَفَّفُوا وَسَكَّنُوا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَثَانِيهَا: الْإِبْدَالُ بِأَنْ تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ حَرْفَ مَدٍّ مِنْ جِنْسِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا. فَتُبْدَلُ أَلْفًا بَعْدَ الْفَتْحِ، نَحْوَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132]. وَاوًا بَعْدَ الضَّمِّ نَحْوَ: {يُومِنُونَ} وَيَاءً بَعْدَ الْكَسْرِ، نَحْوَ: {جِيتَ} وَبِهِ يَقْرَأُ أَبُو عَمْرٍو. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْهَمْزَةُ فَاءً أَمْ عَيْنًا أَمْ لَامًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُكُونُهَا جَزْمًا، نَحْوَ: {ننْسَأْهَا} [الْبَقَرَة: 106] أَوْ بِنَاءً نَحْوَ: {أُرْجِئْهُ} أَوْ يَكُونَ تَرْكُ الْهَمْزِ فِيهِ أَثْقَلُ، وَهُوَ {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} فِي [الْأَحْزَاب: 51]، أَوْ يُوقِعَ فِي الِالْتِبَاسِ، وَهُوَ {وَرِئْيًا} فِي [مَرْيَمَ: 74] فَإِنْ تَحَرَّكَتْ فَلَا خِلَافَ عَنْهُ فِي التَّحْقِيقِ نَحْوُ: {يَئُودُهُ} [الْبَقَرَة: 255].
ثَالِثُهَا: التَّسْهِيلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَرَكَتِهَا:
فَإِنِ اتَّفَقَ الْهَمْزَتَانِ فِي الْفَتْح: سَهَّلَ الثَّانِيَةَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ، وَأَبْدَلَهَا وَرْشٌ أَلِفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ لَا يُدْخِلُ قَبْلَهَا أَلْفًا، وَقَالُونُ وَهِشَامٌ وَأَبُو عَمْرٍو يُدْخِلُونَهَا، وَالْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ يُحَقِّقُونَ.
وَإِنِ اخْتَلَفَا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر: سَهَّلَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو الثَّانِيَةَ، وَأَدْخَلَ قَالُونُ وَأَبُو عَمْرٍو قَبْلَهَا أَلِفًا، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ.
أَوْ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَذَلِكَ فِي {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 15]، {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [ص: 8]، {أَؤُلْقِيَ} [الْقَمَر: 25] فَقَطْ، فَالثَّلَاثَةُ يُسَهِّلُونَ، وَقَالُونُ يُدْخِلُ أَلِفًا، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ.
قَالَ الدَّانِيُّ: وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ إِلَى التَّسْهِيلِ بِكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا.
رَابِعُهَا: الْإِسْقَاطُ بِلَا نَقْلٍ: وَبِهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، إِذَا اتَّفَقَا فِي الْحَرَكَةِ وَكَانَا فِي كَلِمَتَيْنِ فَإِنِ اتَّفَقَا كَسْرًا نَحْوَ: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ} [الْبَقَرَة: 31] جَعَلَ وَرْشٌ وَقُنْبُلٌ: الثَّانِيَةَ كَيَاءٍ سَاكِنَةٍ. وَقَالُونُ وَالْبَزِّيُّ: الْأُولَى كَيَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ.
وَإِنِ اتَّفَقَا فَتْحًا، نَحْوَ: {جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الْأَعْرَاف: 34] جَعَلَ وَرْشٌ وَقُنْبُلٌ الثَّانِيَةَ كَمَدَّةٍ، وَأَسْقَطَ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ.
أَوْ ضَمًّا، وَهُوَ: {أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ} [الْأَحْقَاف: 32] فَقَطْ أَسْقَطَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَجَعَلَهَا قَالُونُ وَالْبَزِّيُّ كَوَاوٍ مَضْمُومَةٍ، وَالْآخَرَانِ يَجْعَلَانِ الثَّانِيَةَ كَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّاقِط: هَلْ هُوَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ؟ الْأَوَّلُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالثَّانِي عَنِ الْخَلِيلِ مِنَ النُّحَاةِ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْمَدِّ، فَإِنْ كَانَ السَّاقِطُ الْأُولَى فَهُوَ مُنْفَصِلٌ، أَوِ الثَّانِيَةُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ.

.النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ:

اعْلَمْ أَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ؛ صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَالْعُبَادِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ، فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ هَذَا الْعَدَدَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا أَثِمَ الْكُلُّ.
وَتَعْلِيمُهُ- أَيْضًا- فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْقُرَبِ فَفِي الصَّحِيح: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
وَأَوْجُهُ التَّحَمُّلِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيث: السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ، وَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ، وَالْمُنَاوَلَةُ وَالْإِجَازَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْإِعْلَامُ، وَالْوِجَادَةُ. فَأَمَّا غَيْرُ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يَأْتِي هُنَا، لِمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ فِي تَحَمُّلِ الْقُرْآن: فَهِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ سَلَفًا وَخَلَفًا.
وَأَمَّا السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ فِي تَحَمُّلِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِه: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- إِنَّمَا أَخَذُوا الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَالْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا كَيْفِيَّةُ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ كَهَيْئَتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ الْمَعْنَى أَوِ اللَّفْظُ لَا بِالْهَيْئَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَدَاءِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَكَانَتْ فَصَاحَتُهُمْ وَطِبَاعُهُمُ السَّلِيمَةُ تَقْتَضِي قُدْرَتَهُمْ عَلَى الْأَدَاءِ، كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ.
وَمِمَّا يَدُلُّ لِلْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَرْضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ.
وَيُحْكَى: أَنَّ الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ الْجَزَرِيِّ لَمَّا قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ الْخَلْقُ، لَمْ يَتَّسِعْ وَقْتُهُ لِقِرَاءَةِ الْجَمِيعِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، ثُمَّ يُعِيدُونَهَا عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَكْتَفِ بِقِرَاءَتِهِ.
وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ؛ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُمْ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينٍ السَّخَاوِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْهِ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرُدُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّيْخُ مُشْتَغِلًا بِشُغْلٍ آخَرَ كَنَسْخٍ وَمُطَالَعَةٍ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ أَيِ الْقُرْآنُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَلْ يَكْفِي وَلَوْ مِنَ الْمُصْحَفِ.

.فصل: في كَيْفِيَّاتِ الْقِرَاءَةِ:

كَيْفِيَّاتُ الْقِرَاءَةِ ثَلَاثٌ أَي لِلْقُرْآنِ.
أَحَدُهَا: التَّحْقِيقُ: وَهُوَ إِعْطَاءُ كُلِّ حَرْفٍ حَقَّهُ مِنْ إِشْبَاعِ الْمَدِّ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَإِتْمَامِ الْحَرَكَاتِ وَاعْتِمَادِ الْإِظْهَارِ وَالتَّشْدِيدَاتِ وَبَيَانِ الْحُرُوفِ وَتَفْكِيكِهَا وَإِخْرَاجِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ بِالسَّكْتِ وَالتَّرْتِيلِ وَالتُّؤَدَةِ وَمُلَاحَظَةِ الْجَائِزِ مِنَ الْوُقُوف: بِلَا قَصْرٍ وَلَا اخْتِلَاسٍ، وَلَا إِسْكَانِ مُحَرَّكٍ وَلَا إِدْغَامِهِ، وَهُوَ يَكُونُ لِرِيَاضَةِ الْأَلْسُنِ وَتَقْوِيمِ الْأَلْفَاظِ.
وَيُسْتَحَبُّ الْأَخْذُ بِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَجَاوَزَ فِيهِ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ بِتَوْلِيدِ الْحُرُوفِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَتَكْرِيرِ الرَّاءَاتِ وَتَحْرِيكِ السَّوَاكِنِ وَتَطْنِينِ النُّونَاتِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْغُنَّاتِ، كَمَا قَالَ حَمْزَةُ لِبَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ يُبَالِغُ فِي ذَلِكَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا فَوْقَ الْبَيَاضِ بَرَصٌ، وَمَا فَوْقَ الْجُعُودَةِ قَطَطٌ وَمَا فَوْقَ الْقِرَاءَةِ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ؟.
وَكَذَا يُحْتَرَزُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ، كَمَنْ يَقِفُ عَلَى التَّاءِ مِنْ {نسْتَعِينُ} وَقْفَةً لَطِيفَةً، مُدَّعِيًا أَنَّهُ يُرَتِّلُ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَذْهَبُ حَمْزَةَ وَوَرْشٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِيهِ الدَّانِيُّ حَدِيثًا فِي كِتَابِ التَّجْوِيدِ مُسَلْسَلًا «إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّحْقِيقَ». وَقَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ.
الثَّانِيَةُ: الْحَدْرُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ؛ وَهُوَ إِدْرَاجُ الْقِرَاءَةِ وَسُرْعَتُهَا وَتَخْفِيفُهَا بِالْقَصْرِ وَالتَّسْكِينِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْبَدَلِ وَالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ، وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، مَعَ مُرَاعَاةِ إِقَامَةِ الْإِعْرَابِ وَتَقْوِيمِ اللَّفْظِ، وَتَمَكُّنِ الْحُرُوفِ بِدُونِ بَتْرِ حُرُوفِ الْمَدِّ، وَاخْتِلَاسِ أَكْثَرِ الْحَرَكَاتِ، وَذَهَابِ صَوْتِ الْغُنَّةِ، وَالتَّفْرِيطِ إِلَى غَايَةٍ لَا تَصِحُّ بِهَا الْقِرَاءَةُ، وَلَا تُوصَفُ بِهَا التِّلَاوَةُ. وَهَذَا النَّوْعُ مَذْهَبُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَمَنْ قَصَرَ الْمُنْفَصِلَ كَأَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ.
الثَّالِثَةُ: التَّدْوِيرُ: وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْحَدْرِ. وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ عَنْ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ مَدَّ الْمُنْفَصِلَ، وَلَمْ يَبْلُغْ فِيهِ الْإِشْبَاعَ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَدَاءِ.
تَنْبِيهٌ:
سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الَّذِي يَلِي هَذَا اسْتِحْبَابُ التَّرْتِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْقِيق:- فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ- أَنَّ التَّحْقِيقَ يَكُونُ لِلرِّيَاضَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ، وَالتَّرْتِيلَ يَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، فَكُلُّ تَحْقِيقٍ تَرْتِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَرْتِيلٍ تَحْقِيقًا.

.فصل: في تَجْوِيدِ الْقُرْآنِ:

مِنَ الْمُهِمَّاتِ تَجْوِيدُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ بِالتَّصْنِيفِ؛ وَمِنْهُمُ الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (جَوِّدُوا الْقُرْآنَ).
قَالَ الْقُرَّاءُ: التَّجْوِيدُ حِلْيَةُ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حُقُوقَهَا، وَتَرْتِيبَهَا، وَرَدُّ الْحَرْفِ إِلَى مَخْرَجِهِ وَأَصْلِهِ، وَتَلْطِيفُ النُّطْقِ بِهِ عَلَى كَمَالِ هَيْئَتِهِ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَعَسُّفٍ وَلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِه: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ أُعْطِيَ حَظًّا عَظِيمًا فِي تَجْوِيدِ الْقُرْآنِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ- كَمَا هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِفَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ- هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِتَصْحِيحِ أَلْفَاظِهِ وَإِقَامَةِ حُرُوفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، الْمُتَّصِلَةِ بِالْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَقَدْ عَدَّ الْعُلَمَاءُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ تَجْوِيدٍ لَحْنًا، فَقَسَّمُوا اللَّحْنَ إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، فَاللَّحْنُ خَلَلٌ يَطْرَأُ عَلَى الْأَلْفَاظِ فَيُخِلُّ، إِلَّا أَنَّ الْجَلِيَّ يُخِلُّ إِخْلَالًا ظَاهِرًا، يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْإِعْرَابِ، وَالْخَفِيَّ يُخِلُّ إِخْلَالًا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَأَئِمَّةُ الْأَدَاءِ، الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ، وَضَبَطُوهُ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْأَدَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَلَا أَعْلَمُ لِبُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي التَّجْوِيدِ مِثْلَ رِيَاضَةِ الْأَلْسُنِ وَالتَّكْرَارِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُتَلَقَّى مِنْ فَمِ الْمُحَسِّنِ.
وَقَاعِدَتُهُ: تَرْجِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ وَالْإِمَالَةِ وَالْإِدْغَامِ وَأَحْكَامِ الْهَمْزِ وَالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَمَخَارِجِ الْحُرُوفِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ. وَأَمَّا التَّرْقِيقُ: فَالْحُرُوفُ الْمُسْتَفِلَةُ كُلُّهَا مُرَقَّقَةٌ، لَا يَجُوزُ تَفْخِيمُهَا، إِلَّا اللَّامَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ بَعْدَ فَتْحَةٍ أَوْ ضَمَّةٍ إِجْمَاعًا، أَوْ بَعْدَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ فِي رِوَايَةٍ إِلَّا الرَّاءَ الْمَضْمُومَةَ أَوِ الْمَفْتُوحَةَ مُطْلَقًا، أَوِ السَّاكِنَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْحُرُوفُ الْمُسْتَعْلِيَةُ كُلُّهَا مُفَخَّمَةٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهَا شَيْءٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَأَمَّا مَخَارِجُ الْحُرُوفِ عَدَدُهَا وَبَيَانُ مَخْرَجِ كُلِّ حَرْفٍ: فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ وَمُتَقَدِّمِي النُّحَاةِ كَالْخَلِيلِ أَنَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْن: سِتَّةَ عَشَرَ، فَأَسْقَطُوا مَخْرَجَ الْحُرُوفِ الْجَوْفِيَّةِ، وَهِيَ حُرُوفُ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَجَعَلُوا مَخْرَجَ الْأَلِفِ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَالْوَاوِ مِنْ مَخْرَجِ الْمُتَحَرِّكَةِ، وَكَذَا الْيَاءُ.
وَقَالَ قَوْمٌ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَأَسْقَطُوا مَخْرَجَ النُّونِ وَاللَّامِ وَالرَّاءِ، وَجَعَلُوهَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِب: وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَلِكُلِّ حَرْفٍ مَخْرَجٌ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ الْقُرَّاءُ: وَاخْتِبَارُ مَخْرَجِ الْحَرْفِ مُحَقَّقًا: أَنْ تَلْفِظَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَتَأْتِيَ بِالْحَرْفِ بَعْدَهُ سَاكِنًا أَوْ مُشَدَّدًا، وَهُوَ أَبْيَنُ، مُلَاحِظًا فِيهِ صِفَاتِ ذَلِكَ الْحَرْف:
الْمَخْرَجُ الْأَوَّلُ: الْجَوْفُ لِلْأَلِفِ، وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَتَيْنِ بَعْدَ حَرَكَةٍ تُجَانِسُهُمَا.
الثَّانِي: أَقْصَى الْحَلْقِ لِلْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ.
الثَّالِثُ: وَسَطُهُ، لِلْعَيْنِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ.
الرَّابِعُ: أَدْنَاهُ لِلْفَمِ، لِلْغَيْنِ وَالْخَاءِ.
الْخَامِسُ: أَقْصَى اللِّسَانِ مِمَّا يَلِي الْحَلْقَ، وَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْحَنَكِ لِلْقَافِ.
السَّادِسُ: أَقْصَاهُ مِنْ أَسْفَلِ مَخْرَجِ الْقَافِ قَلِيلًا، وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْحَنَكِ لِلْكَافِ.
السَّابِعُ: وَسَطُهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَسَطِ الْحَنَكِ، لِلْجِيمِ وَالشِّينِ وَالْيَاءِ.
الثَّامِنُ: لِلضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، مِنْ أَوَّلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْأَضْرَاسِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَقِيلَ: الْأَيْمَنِ.
التَّاسِعُ: اللَّامُ مِنْ حَافَةِ اللِّسَانِ مِنْ أَدْنَاهَا إِلَى مُنْتَهَى طَرَفِهِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهَا مِنَ الْحَنَكِ الْأَعْلَى.
الْعَاشِرُ: لِلنُّونِ مِنْ طَرَفِهِ أَسْفَلَ اللَّامِ قَلِيلًا.
الْحَادِيَ عَشَرَ: لِلرَّاءِ مِنْ مَخْرَجِ النُّونِ، لَكِنَّهَا أَدْخَلُ فِي ظَهْرِ اللِّسَانِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: لِلطَّاءِ وَالدَّالِ وَالتَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا مُصْعِدًا إِلَى جِهَةِ الْحَنَكِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: الْحَرْفُ الصَّفِيرُ: الصَّادُ وَالسِّينُ وَالزَّايُ، مِنْ بَيْنِ طَرَفِ اللِّسَانِ وَفُوَيْقَ الثَّنَايَا السُّفْلَى.
الرَّابِعَ عَشَرَ: لِلظَّاءِ وَالثَّاءِ وَالذَّالِ، مِنْ بَيْنِ طَرَفِهِ، وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا.
الْخَامِسَ عَشَرَ: لِلْفَاءِ، مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا.
السَّادِسَ عَشَرَ: لِلْبَاءِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ غَيْرِ الْمَدِّيَّةِ، بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: الْخَيْشُومُ لِلْغُنَّةِ فِي الْإِدْغَامِ وَالنُّونِ وَالْمِيمِ السَّاكِنَةِ.
قَالَ فِي النَّشْر: فَالْهَمْزَةُ وَالْهَاءُ اشْتَرَكَا مَخْرَجًا وَانْفِتَاحًا وَاسْتِفَالًا بَيَانُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ مَعَ صِفَاتِهَا، وَانْفَرَدَتِ الْهَمْزَةُ بِالْجَهْرِ وَالشِّدَّةِ، وَالْعَيْنُ وَالْحَاءُ اشْتَرَكَا كَذَلِكَ، وَانْفَرَدَتِ الْحَاءُ بِالْهَمْسِ وَالرَّخَاوَةِ الْخَالِصَةِ. وَالْغَيْنُ وَالْخَاءُ اشْتَرَكَا مَخْرَجًا وَرَخَاوَةً وَاسْتِعْلَاءً وَانْفِتَاحًا، وَانْفَرَدَتِ الْغَيْنُ بِالْجَهْرِ. وَالْجِيمُ وَالشِّينُ وَالْيَاءُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَانْفِتَاحًا وَاسْتِفَالًا، وَانْفَرَدَتِ الْجِيمُ بِالشَّدِّ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الْيَاءِ فِي الْجَهْرِ، وَانْفَرَدَتِ الشِّينُ بِالْهَمْسِ وَالتَّفَشِّي، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الْيَاءِ فِي الرَّخَاوَةِ. وَالضَّادُ وَالظَّاءُ اشْتَرَكَا صِفَةً جَهْرًا وَرَخَاوَةً وَاسْتِعْلَاءً وَإِطْبَاقًا، وَافْتَرَقَا مَخْرَجًا، وَانْفَرَدَتِ الضَّادُ بِالِاسْتِطَالَةِ، وَالطَّاءُ وَالدَّالُ وَالتَّاءُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَشِدَّةً، وَانْفَرَدَتِ الطَّاءُ بِالْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الدَّالِ فِي الْجَهْرِ، وَانْفَرَدَتِ التَّاءُ بِالْهَمْسِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الدَّالِ فِي الِانْفِتَاحِ وَالِاسْتِفَالِ. وَالظَّاءُ وَالذَّالُ وَالثَّاءُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَرَخَاوَةً، وَانْفَرَدَتِ الظَّاءُ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَالْإِطْبَاقِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الذَّالِ فِي الْجَهْرِ، وَانْفَرَدَتِ الثَّاءُ بِالْهَمْسِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الذَّالِ انْفِتَاحًا وَاسْتِفَالًا. وَالصَّادُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَرَخَاوَةً وَصَفِيرًا، وَانْفَرَدَتِ الصَّادُ بِالْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَاشْتَرَكَتْ مَعَ السِّينِ فِي الْهَمْسِ، وَانْفَرَدَتِ الزَّايُ بِالْجَهْرِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ السِّينِ فِي الِانْفِتَاحِ وَالِاسْتِفَالِ.
فَإِذَا أَحْكَمَ الْقَارِئُ النُّطْقَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَلَى حِدَتِهِ مُوَفًّى حَقَّهُ، فَلْيُعْمِلْ نَفْسَهُ بِإِحْكَامِهِ حَالَةَ التَّرْكِيبِ، لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنِ التَّرْكِيبِ مَا لَمْ يَكُنْ حَالَةَ الْإِفْرَادِ، بِحَسَبِ مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ مُجَانِسٍ وَمُقَارِبٍ وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، وَمُفَخَّمٍ، وَمُرَقَّقٍ، فَيَجْذِبُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ وَيَغْلِبُ الْمُفَخَّمُ الْمُرَقَّقَ، وَيَصْعُبُ عَلَى اللِّسَانِ النُّطْقُ بِذَلِكَ عَلَى حَقِّهِ إِلَّا بِالرِّيَاضَةِ الشَّدِيدَةِ، فَمَنْ أَحْكَمَ صِحَّةَ التَّلَفُّظِ حَالَةَ التَّرْكِيبِ، حَصَّلَ حَقِيقَةَ التَّجْوِيدِ.
وَمِنْ قَصِيدَةِ الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ فِي التَّجْوِيدِ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ:
لَا تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مَدًّا مُفْرِطًا ** أَوْ مَدَّ مَا لَا مَدَّ فِيهِ لِوَانِ

أَوْ أَنْ تُشَدِّدَ بَعْدَ مَدٍّ هَمْزَةً ** أَوْ أَنْ تَلُوكَ الْحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ

أَوْ أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَوِّعًا ** فَيَفِرُّ سَامِعُهَا مِنَ الْغَثَيَانِ

لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلَا تَكُ طَاغِيًا ** فِيهِ وَلَا تَكُ مُخْسِرَ الْمِيزَانِ

فَإِذَا هَمَزْتَ فَجِئْ بِهِ مُتَلَطِّفًا ** مِنْ غَيْرِ مَا بُهْرٍ وَغَيْرِ تَوَانِ

وَامْدُدْ حُرُوفَ الْمَدِّ عِنْدَ مُسَكَّنٍ ** أَوْ هَمْزَةٍ حَسَنًا أَخَا إِحْسَانِ

فَائِدَةٌ:
قَالَ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: قَدْ ابْتَدَعَ النَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَصْوَاتَ الْغِنَاءِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا غُنِّيَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الْكَهْف: 79]. نَقَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَغَنِّيهِمْ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ.
أَمَّا الْقَطَاةُ فَإِنِّي سَوْفَ أَنْعَتُهَا ** نَعْتًا يُوَافِقُ عِنْدِي بَعْضَ مَا فِيهَا

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَؤُلَاءِ: «مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ».
وَمِمَّا ابْتَدَعُوهُ شَيْءٌ سَمَّوْهُ: التَّرْعِيدَ، وَهُوَ: أَنْ يُرْعِدَ صَوْتَهُ كَالَّذِي يُرْعِدُ مِنْ بَرْدٍ أَوْ أَلَمٍ.
وَآخَرُ سَمَّوْهُ: التَّرْقِيصَ؛ وَهُوَ: أَنْ يَرُومَ السُّكُوتَ عَلَى السَّاكِنِ، ثُمَّ يَنْفِرُ مَعَ الْحَرَكَةِ كَأَنَّهُ فِي عَدْوٍ أَوْ هَرْوَلَةٍ.
وَآخَرُ يُسَمَّى: التَّطْرِيبَ، وَهُوَ: أَنْ يَتَرَنَّمَ بِالْقُرْآنِ وَيَتَنَغَّمَ بِهِ، فَيَمُدَّ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْمَدِّ وَيَزِيدَ فِي الْمَدِّ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي.
وَآخَرُ يُسَمَّى: التَّحْزِينَ؛ وَهُوَ: أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَجْهٍ حَزِينٍ يَكَادُ يَبْكِي مَعَ خُشُوعٍ وَخُضُوعٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ أَحْدَثَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَءُونَ كُلُّهُمْ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَيَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {أَفَلَ تَعْقِلُونَ} بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَ{قَالُ آمَنَّا} بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَيَمُدُّونَ مَا لَا يُمَدُّ، لِيَسْتَقِيمَ لَهُمُ الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى: التَّحْرِيفَ. انْتَهَى.