فصل: النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.خَاتِمَةٌ: هَلْ لِلْمُحْكَمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَشَابِهِ أَوْ لَا:

أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ: هَلْ لِلْمُحْكَمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَشَابِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي: فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، أَوْ بِالْأَوَّل: فَقَدْ نَقَضْتُمْ أَصْلَكُمْ فِي أَنَّ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِالْحِكْمَةِ!
وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرَابَاذِيُّ: بِأَنَّ الْمُحْكَمَ كَالْمُتَشَابِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ، فَيَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الْوَاضِعِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ الْقَبِيحَ.
وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْمُحْكَمَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمُتَشَابِهُ يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرَةٍ وَنَظَرٍ؛ لِيَحْمِلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ. وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ أَصْلٌ، وَالْعِلْمُ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ، وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ يُعْلَمُ مُفَصَّلًا، وَالْمُتَشَابِهَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مُجْمَلًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم مِمَّنْ أَرَادَ لِعِبَادِهِ بِهِ الْبَيَانَ وَالْهُدَى؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، فَلَهُ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: الْحَثُّ لِلْعُلَمَاءِ عَلَى النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِغَوَامِضِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ دَقَائِقِهِ، فَإِنَّ اسْتِدْعَاءَ الْهِمَمِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ.
وَمِنْهَا ظُهُورُ التَّفَاضُلِ، وَتَفَاوُتُ الدَّرَجَاتِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَنَظَرٍ لَاسْتَوَتْ مَنَازِلُ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، فَلَهُ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: ابْتِلَاءُ الْعِبَادِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ وَالتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّعَبُّدِ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ مِنْ جِهَةِ التِّلَاوَةِ كَالْمَنْسُوخِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ- وَعَجَزُوا عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعْنَاهُ، مَعَ بَلَاغَتِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ- دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعْنَاهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين: مِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَجْلِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِه:
فَالْجَبْرِيُّ مُتَمَسِّكٌ بِآيَاتِ الْجَبْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الْأَنْعَام: 25].
وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ: هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فِي قَوْلِه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فُصِّلَتْ: 5]. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [الْبَقَرَة: 88].
وَمُنْكِرُ الرُّؤْيَةِ مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَام: 103].
وَمُثْبِتُ الْجِهَةِ مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْل: 50]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وَالنَّافِي مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11].
ثُمَّ يُسَمِّي كُلُّ وَاحِدٍ الْآيَاتِ الْمُوَافَقَةَ لِمَذْهَبِهِ مُحْكَمَةً، وَالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةَ لَهُ مُتَشَابِهَةً، وَإِنَّمَا آلَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ إِلَى تَرْجِيحَاتٍ خَفِيَّةٍ وَوُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَجْعَلَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الدِّينِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هَكَذَا؟!
قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا لِوُقُوعِ الْمُتَشَابِهِ فِيهِ فَوَائِدَ الْقُرْآن الْكَرِيم:
مِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ، وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ؛ وَكَانَ بِصَرِيحِهِ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ أَرْبَابَ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ؛ فَإِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ طَمِعَ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ، وَيَنْصُرُ مَقَالَتَهُ، فَيَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَيَجْتَهِدُ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ، وَيَتَّصِلُ إِلَى الْحَقِّ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُتَشَابِهِ، افْتُقِرَ إِلَى الْعِلْمِ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلَاتِ، وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتُقِرَ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ؛ فَكَانَ فِي إِيرَادِ الْمُتَشَابِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْكَثِيرَةُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَعْوَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَطَبَائِعُ الْعَوَامِّ تَنْفِرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَنْ دَرْكِ الْحَقَائِقِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْعَوَامِّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عَدَمٌ وَنَفْيٌ، فَوَقَعَ التَّعْطِيلُ؛ فَكَانَ الْأَصْلَحَ أَنْ يُخَاطَبُوا بِأَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى بَعْضِ مَا يُنَاسِبُ مَا تَوَهَّمُوهُ وَتَخَيَّلُوهُ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ:- وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ- يَكُونُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي:- وَهُوَ الَّذِي يُكْشَفُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ- مِنَ الْمُحْكَمَاتِ.

.النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ:

وَهُوَ قِسْمَانِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ:
الْأَوَّلُ: مَا أَشْكَلَ مَعْنَاهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَلَمَّا عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، اتَّضَحَ. وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّصْنِيفِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ السَّلَفُ لِذَلِكَ فِي آيَاتٍ:
فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} [التَّوْبَة: 85]. قَالَ: هَذَا مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: {لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ}.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ- أَيْضًا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129]. قَالَ: هَذَا مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: لَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا.
وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا} [الْكَهْف: 1- 2]. قَالَ: هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا.
وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آلِ عِمْرَانَ: 55] قَالَ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، أَيْ: رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ.
وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] قَالَ: هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، يَقُولُ: لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاء: 83]. قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُقَدَّمَةٌ وَمُؤَخَّرَةٌ، إِنَّمَا هِيَ:
أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَمْ يَنْجُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النِّسَاء: 153] قَالَ: إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا اللَّهَ، فَقَدْ رَأَوْهُ، إِنَّمَا قَالُوا جَهْرَةً: أَرِنَا اللَّهَ. قَالَ: هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي: أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ جَهْرَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 72] قَالَ: الْبَغَوِيُّ: هَذِهِ أَوَّلُ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَاتِلِ قَبْلَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ؛ وَإِنَّمَا أُخِّرَ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 67] عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُذْبَحُ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَاتِلٍ خَفِيَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِلْمُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ، أَتْبَعَ بِقَوْلِه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 72] فَسَأَلْتُمْ مُوسَى، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [الْبَقَرَة: 67].
وَمِنْهُ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الْفُرْقَان: 43] وَالْأَصْلُ: هَوَاهُ إِلَهَهُ؛ لِأَنَّ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ، فَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْعِنَايَةِ بِهِ.
وَقوله: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الْأَعْلَى: 4- 5]، عَلَى تَفْسِيرِ أَحْوَى بِالْأَخْضَرِ. وَجَعَلَهُ نَعْتًا لِلْمَرْعَى، أَيْ: أَخْرَجَهُ أَحْوَى، وَأُخِّرَ رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ.
وَقوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فَاطِرٍ: 27] وَالْأَصْلُ: (سُودٌ غَرَابِيبُ)؛ لِأَنَّ الْغِرْبِيبَ الشَّدِيدُ السَّوَادِ.
وَقَوْلُهُ: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا} [هُودٍ: 71] أَيْ: فَبَشَّرْنَاهَا فَضَحِكَتْ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يُوسُفَ: 24] أَيْ: لَهَمَّ بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْهَمُّ مَنْفِيٌّ عَنْهُ.
الثَّانِي: مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ كِتَابَهُ (الْمُقَدِّمَةُ فِي سِرِّ الْأَلْفَاظِ الْمُقَدَّمَةِ). قَالَ: فِيه: الْحِكْمَةُ الشَّائِعَةُ الذَّائِعَةُ فِي ذَلِكَ الِاهْتِمَامُ؛ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِه: كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ أَهَمُّ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى.
قَالَ: هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِجْمَالِيَّةٌ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَسْبَابِ التَّقْدِيمِ وَأَسْرَارِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم، فَقَدْ ظَهَرَ لِي مِنْهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: التَّبَرُّكُ: كَتَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمُورِ ذَاتِ الشَّأْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ [الْأَنْفَال: 41].
الثَّانِي: التَّعْظِيمُ: كَقَوْلِه: {وَمِنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النِّسَاء: 69]. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الْأَحْزَاب: 56]. {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التَّوْبَة: 62].
الثَّالِثُ: التَّشْرِيفُ: كَتَقْدِيمِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، نَحْوَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 35]، وَالْحُرِّ فِي قَوْلِه: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [الْبَقَرَة: 178] وَالْحَيِّ فِي قَوْلِه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 95]. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فَاطِرٍ: 22]. وَالْخَيْلِ فِي قَوْلِه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النَّحْل: 8]. وَالسَّمْعِ فِي قَوْلِه: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} [الْبَقَرَة: 7]. وَقَوْلِه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الْإِسْرَاء: 36]. وَقَوْلِه: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الْأَنْعَام: 46] حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَّاش: أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ، وَلِذَا وَقَعَ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الْحَجّ: 61] بِتَقْدِيمِ. (السَّمِيعُ).
وَمِنْ ذَلِكَ: تَقْدِيمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي قَوْلِه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 7].
وَتَقْدِيمُ الرَّسُولِ فِي قوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الْحَجّ: 52].
وَتَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي قَوْلِه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التَّوْبَة: 100].
وَتَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ حَيْثُ ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ.
وَتَقْدِيمُ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ الصِّدِّيقِينَ، ثُمَّ الشُّهَدَاءِ، ثُمَّ الصَّالِحِينَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ.
وَتَقْدِيمُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِهِ وَأَسَنُّ.
وَتَقْدِيمُ مُوسَى عَلَى هَارُونَ لِاصْطِفَائِهِ بِالْكَلَامِ، وَقَدَّمَ هَارُونَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ طه رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ.
وَتَقْدِيمُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ.
وَتَقْدِيمُ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ فِي قَوْلِه: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النَّازِعَات: 33]. {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النُّور: 41].
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِه: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [السَّجْدَة: 27] فَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الزَّرْعِ، فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ الْأَنْعَامِ بِخِلَافِ آيَةِ (عَبَسَ) فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عَبَسَ: 24] فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ (لَكُمُ).
وَتَقْدِيمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ.
وَالسَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ.
وَالشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ حَيْثُ وَقَعَ، إِلَّا فِي قَوْلِه: {خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نُوحٍ: 15- 16] فَقِيلَ: لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ، وَقِيلَ:؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ الْعَائِدِ عَلَيْهِنَّ الضَّمِيرُ بِهِ أَكْثَرُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: يُقَالُ إِنَّ الْقَمَرَ وَجْهُهُ يُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَظَهْرُهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِنَّ} لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ نُورِهِ يُضِيءُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الزُّمَر: 46]؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَشْرَفُ، وَأَمَّا {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] فَأُخِّرَ فِيهِ رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ.
الرَّابِعَةُ: الْمُنَاسَبَةُ: وَهِيَ إِمَّا مُنَاسَبَةُ الْمُتَقَدِّمِ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِه: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النَّحْل: 6] فَإِنَّ الْجَمَالَ بِالْجَمَالِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا حَالَتَيِ السَّرَاحِ وَالْإِرَاحَةِ، إِلَّا أَنَّهَا حَالَةُ إِرَاحَتِهَا- وَهُوَ مَجِيئُهَا مِنَ الْمَرْعَى آخِرَ النَّهَارِ- يَكُونُ الْجَمَالُ بِهَا أَفْخَرَ، إِذْ هِيَ فِيهِ بِطَانٌ، وَحَالَةُ سَرَاحِهَا لِلْمَرْعَى أَوَّلَ النَّهَارِ يَكُونُ الْجَمَالُ بِهَا دُونَ الْأَوَّلِ، إِذْ هِيَ فِيهِ خِمَاصٌ:
وَنَظِيرُهُ قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الْفُرْقَان: 67] قَدَّمَ نَفْيَ الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّ السَّرَفَ فِي الْإِنْفَاقِ.
وَقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرُّوم: 24]؛ لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ تَقَعُ مَعَ أَوَّلِ بَرْقَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَطَرُ إِلَّا بَعْدَ تَوَالِي الْبَرْقَاتِ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 91] قَدَّمَهَا عَلَى الِابْنِ لَمَّا كَانَ السِّيَاقُ فِي ذِكْرِهَا فِي قَوْلِه: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الْأَنْبِيَاء: 91]، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِابْنَ فِي قَوْلِه: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: 50]. وَحَسَّنَهُ تَقَدُّمُ مُوسَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاء: 79] قَدَّمَ الْحُكْمَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ سَابِقًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَة: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الْأَنْبِيَاء: 78].
وَإِمَّا مُنَاسَبَةُ لَفْظٍ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ أَوِ التَّأَخُّرِ، كَقَوْلِه: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الْحَدِيد: 3]. {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الْحِجْر: 24]. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [الْمُدَّثِّر: 37]، {بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَة: 13]، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الْوَاقِعَة: 39- 40]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الرُّوم: 4]، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [الْقَصَص: 70] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النَّجْم: 25] فَلِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [الْمُرْسَلَات: 38].
الْخَامِسُ: الْحَثُّ عَلَيْهِ وَالْحَضُّ عَلَى الْقِيَامِ بِه: حَذَرًا مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ. كَتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي قَوْلِه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّسَاء: 11] مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا شَرْعًا.
السَّادِسُ: السَّبْقُ: وَهُوَ إِمَّا فِي الزَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْإِيجَادِ بِتَقْدِيمِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ، وَالظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ، وَآدَمَ عَلَى نُوحٍ، وَنُوحٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمَ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ عَلَى عِيسَى، وَدَاوُدَ عَلَى سُلَيْمَانَ، وَالْمَلَائِكَةَ عَلَى الْبَشَرِ، فِي قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الْحَجّ: 75] وَعَادٍ عَلَى ثَمُودَ، وَالْأَزْوَاجِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، فِي قوله: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} [الْأَحْزَاب: 59] وَالسِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ، فِي قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255].
أَوْ بِاعْتِبَارِ الْإِنْزَالِ، كَقوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الْأَعْلَى: 19]، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آلِ عِمْرَانَ: 33، 4- 4].
أَوْ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ وَالتَّكْلِيفِ، نَحْوَ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الْحَجّ: 77]، {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 6] {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 158].
وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ».
أَوْ بِالذَّاتِ، نَحْوَ: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النِّسَاء: 3]. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [الْمُجَادَلَة: 7] وَكَذَا جَمِيعُ الْأَعْدَاد: كُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا فَوْقَهَا بِالذَّاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سَبَإٍ: 46] فَلِلْحَثِّ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْخَيْرِ.
السَّابِعُ: السَّبَبِيَّةُ: كَتَقْدِيمِ الْعَزِيزِ عَلَى الْحَكِيمِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ فَحَكَمَ. وَالْعَلِيمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْكَامَ وَالْإِتْقَانَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحَكِيمِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. فَلِأَنَّهُ مَقَامُ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ.
وَمِنْهُ: تَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُصُولِ الْإِعَانَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَة: 222]؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ سَبَبُ الطَّهَارَةِ. {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الْجَاثِيَة: 7]؛ لِأَنَّ الْإِفْكَ سَبَبُ الْإِثْمِ. {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النُّور: 30]؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْفَرْجِ.
الثَّامِنُ: الْكَثْرَةُ: كَقَوْلِه: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التَّغَابُن: 2]؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُ. {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الْآيَةَ، قَدَّمَ الظَّالِمَ لِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ الْمُقْتَصِدَ، ثُمَّ السَّابِقَ. وَلِهَذَا قَدَّمَ السَّارِقَ عَلَى السَّارِقَةِ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي الذُّكُورِ أَكْثَرُ. وَالزَّانِيَةَ عَلَى الزَّانِي؛ لِأَنَّ الزِّنَى فِيهِنَّ أَكْثَرُ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا، وَلِهَذَا وَرَدَ: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي».
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التَّغَابُن: 14] قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيه: إِنَّمَا قَدَّمَ الْأَزْوَاجَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ أَنَّ فِيهِمْ أَعْدَاءً، وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْأَزْوَاجِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأَوْلَادِ، وَكَانَ أَقْعَدَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَقُدِّمَ. وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ فِي قَوْلِه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التَّغَابُن: 15]؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تَكَادُ تُفَارِقُهَا الْفِتْنَةُ. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَق: 6- 7] وَلَيْسَتِ الْأَوْلَادُ فِي اسْتِلْزَامِ الْفِتْنَةِ مِثْلَهَا، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَوْلَى.
التَّاسِعُ: التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى: كَقَوْلِه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 195]، بَدَأَ بِالْأَدْنَى لِغَرَضِ التَّرَقِّي؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَشْرَفُ مِنَ الرِّجْلِ، وَالْعَيْنَ أَشْرَفُ مِنَ الْيَدِ، وَالسَّمْعَ أَشْرَفُ مِنَ الْبَصَرِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَأْخِيرُ الْأَبْلَغِ، وَقَدْ خُرِّجَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الرَّحْمَنِ عَلَى الرَّحِيمِ، وَالرَّءُوفِ عَلَى الرَّحِيمِ، وَالرَّسُولِ عَلَى النَّبِيِّ فِي قَوْلِه: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 51]، وَذُكِرَ لِذَلِكَ نُكَتٌ أَشْهَرُهَا مُرَاعَاةُ الْفَاصِلَةِ.
الْعَاشِرُ: التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى: وَخُرِّجَ عَلَيْه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255]. {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} [الْكَهْف: 49]. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النِّسَاء: 172].
هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّائِغِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَسْبَابًا أُخَرَ:
مِنْهَا: كَوْنُهُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَعْجَبَ: كَقَوْلِه: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الْآيَةَ [النُّور: 45]، وَقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الْأَنْبِيَاء: 79]. قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ قَدَّمَ الْجِبَالَ عَلَى الطَّيْرِ؛ لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا لَهُ وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرَ حَيَوَانٌ إِلَّا أَنَّهُ غَيْر نَاطِقٍ.
وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَوَاصِل: وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْهَا: إِفَادَةُ الْحَصْرِ لِلِاخْتِصَاصِ، وَسَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الْخَامِسِ وَالْخَمْسِينَ.
تَنْبِيهٌ:
قَدْ يُقَدَّمُ لَفْظٌ فِي مَوْضِعٍ وَيُؤَخَّرُ فِي آخَرَ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ:
إِمَّا لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقْتَضِي مَا وَقَعَ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.
وَإِمَّا لِقَصْدِ الْبَدَاءَةِ وَالْخَتْمِ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ، كَمَا فِي قَوْلِه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 106] الْآيَاتِ.
وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى عِدَّةِ أَسَالِيبَ، كَمَا فِي قَوْلِه: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَة: 58] وَقَوْلِه: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الْأَعْرَاف: 161].
وَقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [الْمَائِدَة: 44].
وَقَالَ فِي [الْأَنْعَام: 91]، {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}.