فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***


الجزء الثاني

النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 1‏]‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْقِسَامُهُ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، لِلْآيَةِ الْمُصَدَّرِ بِهَا‏.‏

وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْن‏:‏ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْكَامِهِ وَتشابهه‏(‏القرآن‏)‏ إِتْقَانُهُ وَعَدَمُ تَطَرُّقِ النَّقْصِ وَالِاخْتِلَافِ إِلَيْهِ‏.‏ وَبِتَشَابُهِه‏:‏ كَوْنُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِعْجَازِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي الشَّيْئَيْنِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ طُرُقِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 44‏]‏ وَالْمُحْكَمُ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ، وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ عَلَى أَقْوَالٍ‏:‏

فَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ، إِمَّا بِالظُّهُورِ وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، كَقِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا وَضَحَ مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَالْمُتَشَابِهُ‏:‏ بِخِلَافِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِرَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ‏.‏ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، وَالْمُتَشَابِهُ‏:‏ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ مَا لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُتَشَابِهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُحْكَمُ الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ‏.‏

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الْمُحْكَمَاتُ نَاسِخُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ، وَحُدُودُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ‏.‏ وَالْمُتَشَابِهَاتُ مَنْسُوخُهُ، وَمُقَدَّمُهُ، وَمُؤَخَّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ‏:‏ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ الْمُحْكَمَاتُ‏:‏ مَا فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ مُتَشَابِهٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ الْمُحْكَمَاتُ‏:‏ هِيَ أَوَامِرُهُ الزَّاجِرَةُ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ‏:‏ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ وَأَبَا فَاخِتَةَ تَرَاجَعَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ أَبُو فَاخِتَةَ‏:‏ فَوَاتِحُ السُّوَرِ‏.‏ وَقَالَ يَحْيَى‏:‏ الْفَرَائِضُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحَلَالُ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الثَّلَاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُحْكَمَاتٌ‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا‏}‏ ‏[‏151‏]‏ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنْ هَاهُنَا‏:‏ ‏{‏فَقُلْ تَعَالَوْا‏}‏ إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَمِنْ هَاهُنَا ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏23‏]‏ إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَهَا‏.‏

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ الْمُحْكَمَاتُ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ مَا قَدْ نُسِخَ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏:‏ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ‏:‏ الْمُتَشَابِهَاتُ فِيمَا بَلَغَنَا‏:‏ ‏(‏الم‏)‏ وَ‏(‏المص‏)‏ وَ‏(‏المر‏)‏ وَ‏(‏الر‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏:‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا‏:‏ أَنَّ الْمُحْكَمَ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏هَلِ الْمُتَشَابِهُ مِمَّا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى عِلْمِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ‏]‏

اخْتُلِفَ‏:‏ هَلِ الْمُتَشَابِهُ مِمَّا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى عِلْمِهِ، أَوْ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ‏؟‏

عَلَى قَوْلَيْنِ، مَنْشَؤُهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏ هَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ وَ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ حَالٌ‏؟‏ أَوْ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ وَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ‏؟‏

وَعَلَى الْأَوَّل‏:‏ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏ فَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَيَقُولُونَ‏:‏ آمَنَّا بِهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ‏:‏ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ لَمْ يَعْلَمُوا نَاسِخَهُ مِنْ مَنْسُوخِهِ، وَلَا حَلَالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، وَلَا مُحْكَمَهُ مِنْ مُتَشَابِهِهِ‏.‏

وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ؛ فَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ‏:‏ إِنَّهُ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِب‏:‏ إِنَّهُ الظَّاهِرُ‏.‏

وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ- خُصُوصًا أَهْلَ السُّنَّةِ- فَذَهَبُوا إِلَى الثَّانِي، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيّ‏:‏ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ، وَاخْتَارَهُ الْعُتْبِيُّ، قَالَ‏:‏ وَقَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ، لَكِنَّهُ سَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏.‏

قَالَ وَلَا غَرْوَ، فَإِنَّ لِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةً، وَلِكُلِّ عَالَمٍ هَفْوَةً‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ‏:‏ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏(‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ‏)‏‏.‏

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ- وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ بِهَا الْقِرَاءَةُ- فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهَا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ فَيُقَدَّمُ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ دُونَهُ‏.‏

وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ وَوَصْفِهِمْ بِالزَّيْغِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ، وَعَلَى مَدْحِ الَّذِينَ فَوَّضُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ كَمَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ‏.‏

وَحَكَى الْفَرَّاءُ‏:‏ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَيْضًا‏:‏ ‏(‏وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ‏)‏‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ ‏[‏حَقِيقَةُ‏]‏ تَأْوِيلِهِ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏)‏‏.‏

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قَالَتْ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرْهُمْ»‏.‏

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيّ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا ثَلَاثَ خِلَالٍ‏:‏ أَنْ يَكْثُرَ لَهُمُ الْمَالُ فَيَتَحَاسَدُوا فَيَقْتَتِلُوا، وَأَنْ يُفْتَحَ لَهُمُ الْكِتَابُ فَيَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ يَبْتَغِي تَأْوِيلَهُ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ»‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ»‏.‏

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏:‏ زَاجِرٍ، وَآمِرٍ، وَحَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ، فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَقُولُوا‏:‏ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»‏.‏

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ نَحْوَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا‏:‏ «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ‏:‏ حَلَالٌ وَحَرَامٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ، وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ»‏.‏ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا بِنَحْوِهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏نُؤْمِنُ بِالْمُحْكَمِ وَنَدِينُ بِهِ، وَنُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ وَلَا نَدِينُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كُلُّهُ‏)‏‏.‏

وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏كَانَ رُسُوخُهُمْ فِي الْعِلْمِ أَنْ آمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَلَا يَعْلَمُونَهُ‏)‏‏.‏

وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ وَأَبِي نَهِيكٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عُرْجُونًا مِنَ الْعَرَاجِينِ، فَضَرَبَهُ حَتَّى دَمَّى رَأْسَهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُ‏:‏ فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبَرَةً، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرِأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرِأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا‏.‏ فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَلَّا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ‏:‏ إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ نَاسٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِمُشْتَبِهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ‏.‏

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ الْخَوْضَ فِيهِ مَذْمُومٌ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

قَالَ الطَّيْبِيُّ‏:‏ الْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ مَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَقْبَلُ مَعْنًى‏:‏ إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ غَيْرَهُ أَوْ لَا، وَالثَّانِي‏:‏ النَّصُّ، وَالْأَوَّلُ‏:‏ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ أَرْجَحَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ‏:‏ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالثَّانِي‏:‏ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيَهُ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ‏:‏ هُوَ الْمُجْمَلُ، وَالثَّانِي‏:‏ الْمُؤَوَّلُ‏.‏ فَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمَؤَوَّلِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ‏.‏

وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّقْسِيمَ‏:‏ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْقَعَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلًا لِلْمُتَشَابِهِ، قَالُوا‏:‏ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُحْكَمُ بِمَا يُقَابِلُهُ‏.‏

وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أُسْلُوبُ الْآيَةِ، وَهُوَ الْجَمْعُ مَعَ التَّقْسِيمِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ مَا جُمِعَ فِي مَعْنَى الْكِتَابِ، بِأَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏، وَأَرَادَ أَنْ يُضِيفَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا شَاءَ، فَقَالَ أَوَّلًا‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏}‏ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ‏(‏وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمُ اسْتِقَامَةٌ، فَيَتَّبِعُونَ الْمُحْكَمَ‏)‏ لَكِنَّهُ وَضَعَ مَوْضِعَ ذَلِكَ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ لِإِتْيَانِ لَفْظِ الرُّسُوخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ التَّثَبُّتِ الْعَامِّ وَالِاجْتِهَادِ الْبَلِيغِ، فَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ عَلَى طُرُقِ الْإِرْشَادِ، وَرَسَخَ الْقَدَمُ فِي الْعِلْمِ أَفْصَحَ صَاحِبُهُ النُّطْقَ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ وَكَفَى بِدُعَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 8‏]‏ إِلَى آخِرِهِ‏.‏‏.‏‏.‏ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ مُقَابِلٌ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏}‏‏.‏

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِلَّا اللَّهُ‏}‏ تَامٌّ، وَإِلَى أَنَّ عِلْمَ بَعْضِ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ حَاوَلَ مَعْرِفَتَهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، بِقَوْلِه‏:‏ ‏(‏فَاحْذَرُوهُمْ‏)‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْعَقْلُ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ حَقِيَّةِ الْمُتَشَابِهِ كَابْتِلَاءِ الْبَدَنِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ، كَالْحَكِيم‏:‏ إِذَا صَنَّفَ كِتَابًا أَجْمَلَ فِيهِ أَحْيَانًا؛ لِيَكُونَ مَوْضِعَ خُضُوعِ الْمُتَعَلِّمِ لِأُسْتَاذِهِ، وَكَالْمَلِكِ يَتَّخِذُ عَلَامَةً يَمْتَازُ بِهَا مَنْ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَوْ لَمْ يُبْتَلَ الْعَقْلُ- الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْبَدَنِ- لَاسْتَمَرَّ الْعَالِمُ فِي أُبَّهَةِ الْعِلْمِ عَلَى التَّمَرُّدِ، فَبِذَلِكَ يَسْتَأْنِسُ إِلَى التَّذَلُّلِ بِعِزِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَوْضِعُ خُضُوعِ الْعُقُولِ لِبَارِئِهَا اسْتِسْلَامًا وَاعْتِرَافًا بِقُصُورِهَا‏.‏

وَفِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ تَعْرِيضٌ بِالزَّائِغِينَ، وَمَدْحٌ لِلرَّاسِخِينَ، يَعْنِي‏:‏ مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَيَتَّعِظْ وَيُخَالِفْ هَوَاهُ، فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاسِخُونَ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا‏}‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَخَضَعُوا لِبَارِئِهِمْ لِاسْتِنْزَالِ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، بَعْدَ أَنِ اسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الزَّيْغِ النَّفْسَانِيِّ‏.‏

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ الْمُتَشَابِهُ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا إِذَا رُدَّ إِلَى الْمُحْكَمِ وَاعْتُبِرَ بِهِ عُرِفَ مَعْنَاهُ، وَالْآخَرُ‏:‏ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتْبَعُهُ أَهْلُ الزَّيْغِ فَيَطْلُبُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَا يَبْلُغُونَ كُنْهَهُ، فَيَرْتَابُونَ فِيهِ فَيَفْتَتِنُونَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْحَصَّار‏:‏ قَسَّمَ اللَّهُ آيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُحْكَمَاتِ أَنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ إِلَيْهَا تُرَدُّ الْمُتَشَابِهَاتُ، وَهِيَ الَّتِي تُعْتَمَدُ فِي فَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ فِي كُلِّ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ أُمَّهَاتٍ‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ، وَفِي قَلْبِهِ شَكٌّ وَاسْتِرَابَةٌ، كَانَتْ رَاحَتُهُ فِي تَتَبُّعِ الْمُشْكِلَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَمُرَادُ الشَّارِعِ مِنْهَا التَّقَدُّمُ إِلَى فَهْمِ الْمُحْكَمَاتِ، وَتَقْدِيمِ الْأُمَّهَاتِ، حَتَّى إِذَا حَصَلَ الْيَقِينُ وَرَسَخَ الْعِلْمُ لَمْ تُبَالِ بِمَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ‏.‏

وَمُرَادُ هَذَا الَّذِي فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ التَّقَدُّمُ إِلَى الْمُشْكِلَاتِ، وَفَهْمِ الْمُتَشَابِهِ قَبْلَ فَهْمِ الْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَالْمُعْتَادِ وَالْمَشْرُوعِ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مِثْلُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَى رُسُلِهِمْ آيَاتٍ غَيْرَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَاتٌ أَخَرُ لَآمَنُوا عِنْدَهَا، جَهْلًا مِنْهُمْ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ‏:‏ الْآيَاتُ عِنْدَ اعْتِبَارِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ‏:‏

مُحْكَمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمُتَشَابِهٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمُحْكَمٌ مِنْ وَجْهٍ مُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ‏.‏

فَالْمُتَشَابِهُ بِالْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ‏:‏

مُتَشَابِهٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَطْ، وَمِنْ جِهَتِهِمَا‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يَرْجِعُ إِلَى الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ؛ إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْغَرَابَةِ نَحْوَ‏:‏ ‏(‏الْأَبِ‏)‏ وَ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 94‏]‏ أَوِ الِاشْتِرَاكِ كَالْيَدِ وَالْيَمِينِ‏.‏

وَثَانِيهِمَا‏:‏ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ؛ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ‏:‏

ضَرْبٌ لِاخْتِصَارِ الْكَلَامِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَضَرْبٌ لِبَسْطِهِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 11‏]‏ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ‏)‏ كَانَ أَظْهَرَ لِلسَّامِعِ‏.‏

وَضَرْبٌ لِنَظْمِ الْكَلَامِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 1- 2‏]‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏(‏أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا‏)‏‏.‏

وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى‏:‏ أَوْصَافُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْصَافُ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ لَا تَتَصَوَّرُ لَنَا، إِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ فِي نُفُوسِنَا صُورَةٌ مَا لَمْ نُحِسَّهُ، أَوْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ‏.‏

وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ جِهَتِهِمَا اللَّفْظ والْمَعْنَى خَمْسَةُ أَضْرُبٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْكَمِّيَّةِ، كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّةِ، كَالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مِنْ جِهَةِ الزَّمَانِ، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْمَكَانِ وَالْأُمُورِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 37‏]‏؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ عَادَتَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ مِنْ جِهَةِ الشُّرُوطِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْفِعْلُ أَوْ يَفْسُدُ، كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِذَا تُصُوِّرَتْ، عُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ التَّقَاسِيمِ‏.‏

ثُمَّ جَمِيعُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ‏:‏

ضَرْبٌ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، كَوَقْتِ السَّاعَةِ، وَخُرُوجِ الدَّابَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَضَرْبٌ لِلْإِنْسَانِ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، كَالْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَحْكَامِ الْفَلِقَةِ‏.‏

وَضَرْبٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ بَعْضُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَيَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»‏.‏

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجِهَةَ عَرَفْتَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ وَوَصْلَهُ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ جَائِزٌ، وَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهًا حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين‏:‏ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ وَتَأْوِيل الْآيَاتِ، وَهُوَ إِمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ‏:‏

وَالْأَوَّلُ‏:‏ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاطِعًا لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْتِفَاءِ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَشْرَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَانْتِفَاؤُهَا مَظْنُونٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَظْنُونِ مَظْنُونٌ، وَالظَّنِّيُّ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْأُصُولِ‏.‏

وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ‏:‏ فَإِنَّمَا يُفِيدُ صَرْفَ اللَّفْظِ مِنْ ظَاهِرِهِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ مُحَالًا، وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَلَا يُمْكِنُ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ تَرْجِيحُ مَجَازٍ عَلَى مَجَازٍ، وَتَأْوِيلٍ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ، وَالدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ فِي التَّرْجِيحِ ضَعِيفٌ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَالظَّنُّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ؛ فَلِهَذَا اخْتَارَ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ- بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ مُحَالٌ- تَرْكَ الْخَوْضِ فِي تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَحَسْبُكَ بِهَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْإِمَامِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏آيَاتُ الصِّفَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ‏]‏

مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيم‏:‏ آيَاتُ الصِّفَاتِ، وَلِابْنِ اللَّبَّانِ فِيهَا تَصْنِيفٌ مُفْرَدٌ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 88‏]‏، ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ- مِنْهُمُ السَّلَفُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ- عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعْنَاهَا الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نُفَسِّرُهَا مَعَ تَنْزِيهِنَا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهَا‏.‏

أَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ طَرِيقِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ قَالَتْ‏:‏ الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ فَقَالَ‏:‏ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ‏.‏

وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ مَالِكٍ‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ‏:‏ كَيْفَ، وَكَيْفَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ اللَّالَكَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا تَشْبِيهٍ‏.‏

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الرُّؤْيَة‏:‏ الْمَذْهَبُ فِي هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏- مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ، وَغَيْرِهِمْ- أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ نَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا‏.‏ وَلَا يُقَالُ‏:‏ كَيْفَ، وَلَا نُفَسِّرُ وَلَا نَتَوَهَّمُ‏.‏

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّة‏:‏ عَلَى أَنَّنَا نُؤَوِّلُهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ تَعَالَى؛ وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ فِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ‏.‏

وَكَانَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَذْهَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَقَالَ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّة‏:‏ الَّذِي نَرْتَضِيهِ دِينًا وَنَدِينُ لِلَّهِ بِهِ عَقْدًا، اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُمْ دَرَجُوا عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاح‏:‏ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسَادَاتُهَا، وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَاتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا‏.‏

وَاخْتَارَ ابْنُ بُرْهَانٍ مَذْهَبَ التَّأْوِيلِ، قَالَ‏:‏ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْن‏:‏ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَمْ نَعْلَمْ مَعْنَاهُ، أَوْ لَا، بَلْ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏؟‏

وَتَوَسَّطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ‏:‏ إِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ قَرِيبًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ لَمْ يُنْكَرْ، أَوْ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، وَآمَنَّا بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعَ التَّنْزِيهِ، قَالَ‏:‏ وَمَا كَانَ مَعْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ظَاهِرًا مَفْهُومًا مِنْ تَخَاطُبِ الْعَرَبِ قُلْنَا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 56‏]‏ فَنَحْمِلُهُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّة‏:‏

مِنْ ذَلِكَ صِفَةُ ‏(‏الِاسْتِوَاءِ‏)‏ وَحَاصِلُ مَا قِيلَ فيها‏(‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏)‏ رَأَيْتُ فِيهَا سَبْعَةَ أَجْوِبَةٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ حَكَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ ‏(‏اسْتَوَى‏)‏ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَإِنَّ الِاسْتِقْرَارَ يُشْعِرُ بِالتَّجْسِيمِ‏.‏

ثَانِيهَا‏:‏ أَنَّ ‏(‏اسْتَوَى‏)‏ بِمَعْنَى ‏(‏اسْتَوْلَى‏)‏‏.‏ وَرُدَّ بِوَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَوْلٍ عَلَى الْكَوْنَيْنِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهِمَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَخْصِيصِ الْعَرْشِ‏؟‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

أَخْرَجَ اللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى ‏(‏اسْتَوَى‏)‏ فَقَالَ‏:‏ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ‏.‏

فَقِيلَ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَعْنَاهُ ‏(‏اسْتَوْلَى‏)‏‏؟‏

قَالَ‏:‏ اسْكُتْ، لَا يُقَالُ‏:‏ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ مُضَادٌّ، فَإِذَا غَلَبَ أَحَدُهُمَا، قِيلَ‏:‏ اسْتَوْلَى‏.‏

ثَالِثُهَا‏:‏ أَنَّهُ بِمَعْنَى صَعِدَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الصُّعُودِ أَيْضًا‏.‏

رَابِعُهَا‏:‏ أَنَّ التَّقْدِيرَ ‏(‏الرَّحْمَنُ عَلَا‏)‏ أَيْ‏:‏ ارْتَفَعَ، مِنَ الْعُلُوِّ، وَالْعَرْشُ لَهُ اسْتَوَى‏.‏ حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ‏.‏ وَرُدَّ بِوَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ جَعَلَ ‏(‏عَلَى‏)‏ فِعْلًا، وَهِيَ حَرْفٌ هُنَا بِاتِّفَاقٍ، فَلَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكُتِبَتْ بِالْأَلِفِ، كَقوله‏:‏ ‏{‏عَلَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنَّهُ رَفَعَ ‏(‏الْعَرْشَ‏)‏ وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ‏.‏

خَامِسُهَا‏:‏ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ ‏(‏اسْتَوَى‏)‏ ‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5- 6‏]‏‏.‏ وَرُدَّ‏:‏ بِأَنَّهُ يُزِيلُ الْآيَةَ عَنْ نَظْمِهَا وَمُرَادِهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

سَادِسُهَا‏:‏ أَنَّ مَعْنَى ‏(‏اسْتَوَى‏)‏‏:‏ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏]‏ أَيْ‏:‏ قَصَدَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهَا‏.‏ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْمَعَانِي‏.‏ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الضَّرِيرُ‏:‏ إِنَّهُ الصَّوَابُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ يُبْعِدُهُ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَتَعَدَّى بِإِلَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ ‏(‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏)‏‏.‏

سَابِعُهَا‏:‏ قَالَ ابْنُ اللَّبَّان‏:‏ الِاسْتِوَاءُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِمَعْنَى اعْتَدَلَ، أَيْ‏:‏ قَامَ بِالْعَدْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وَالْعَدْلُ هُوَ اسْتِوَاؤُهُ، وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ أَعْطَى بِعِزَّتِهِ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ مَوْزُونًا بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏النَّفْسُ‏)‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 116‏]‏ وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ مُرَادًا بِهِ الْغَيْبُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ كَالنَّفْسِ‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 28‏]‏‏.‏ أَيْ‏:‏ عُقُوبَتَهُ، وَقِيلَ‏:‏ إِيَّاهُ‏.‏

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ النَّفْسُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ دُونَ مَعْنًى زَائِدٍ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مِنْ لَفْظَةِ النَّفَاسَةِ وَالشَّيْءِ النَّفِيسِ، فَصَلُحَتْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏.‏

وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّان‏:‏ أَوَّلَهَا الْعُلَمَاءُ بِتَأْوِيلَاتٍ‏:‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ النَّفْسَ عُبِّرَ بِهَا عَنِ الذَّاتِ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ تَعَدِّيَ الْفِعْلِ إِلَيْهَا بِفِي الْمُفِيدَةِ لِلظَّرْفِيَّةِ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى‏.‏

وَقَدْ أَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِالْغَيْبِ، أَيْ‏:‏ وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ وَسِرِّكَ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا حَسَنٌ، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَة‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ‏}‏‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏الْوَجْهُ‏)‏ وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِالذَّات‏:‏ وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْإِنْسَان‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ‏{‏إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏اللَّيْل‏:‏ 20‏]‏‏:‏ الْمُرَادُ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 115‏]‏ أَيْ‏:‏ الْجِهَةُ الَّتِي أَمَرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏الْعَيْنُ‏)‏ وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ بِالْبَصَرِ أَوِ الْإِدْرَاكِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ، خِلَافًا لِتَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُضْوِ بِهَا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّان‏:‏ نِسْبَةُ الْعَيْنِ إِلَيْهِ تَعَالَى اسْمٌ لِآيَاتِهِ الْمُبْصِرَةِ، الَّتِي بِهَا- سُبْحَانَهُ- يَنْظُرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِهَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 13‏]‏‏.‏ نَسَبَ الْبَصَرَ لِلْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَحْقِيقًا؛ لِأَنَّهَا الْمُرَادَةُ بِالْعَيْنِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمِنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 104‏]‏ قَالَ‏:‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطُّور‏:‏ 48‏]‏ أَيْ‏:‏ بِآيَاتِنَا تَنْظُرُ بِهَا إِلَيْنَا، وَنَنْظُرُ بِهَا إِلَيْكَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْيُنِ هُنَا الْآيَاتُ كَوْنُهُ عَلَّلَ بِهَا الصَّبْرَ لِحُكْمِ رَبِّهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الْإِنْسَان‏:‏ 23- 24‏]‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَوْلُهُ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الْقَمَر‏:‏ 14‏]‏‏.‏ أَيْ‏:‏ بِآيَاتِنَا، بِدَلِيل‏:‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ أَيْ‏:‏ عَلَى حُكْمِ آيَتِي الَّتِي أَوْحَيْتُهَا إِلَى أُمِّكَ‏:‏ ‏{‏أَنْ أَرَضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 7‏]‏‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ الْمُرَادُ فِي الْآيَاتِ كِلَاءَتُهُ تَعَالَى وَحِفْظُهُ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏الْيَدُ الْمَنْسُوبَة إلى اللَّه وَتَأْوِيل الْعُلَمَاءِ لَهَا‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏، ‏{‏وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْحَدِيد‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ بِالْقُدْرَةِ‏.‏

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ الْيَدُ فِي الْأَصْلِ- كَالْبَصَرِ- عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَيْدِي مَقْرُونَةً مَعَ الْأَبْصَارِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِالْجَوَارِحِ؛ لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالْجَوَاهِرِ، قَالَ‏:‏ وَلِهَذَا قَالَ الْأَشْعَرِيُّ‏:‏ إِنَّ الْيَدَ صِفَةٌ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ‏.‏ وَالَّذِي يَلُوحُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّهَا أَخَصُّ وَالْقُدْرَةَ أَعَمُّ، كَالْمَحَبَّةِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ؛ فَإِنَّ فِي الْيَدِ تَشْرِيفًا لَازِمًا‏.‏

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏(‏بِيَدَيَّ‏)‏‏:‏ فِي تَحْقِيقِ اللَّهِ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ الْيَدُ هَاهُنَا صِلَةٌ وَتَأْكِيدٌ، كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 27‏]‏‏.‏

قَالَ الْبَغَوِيُّ‏:‏ وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صِلَةً لَكَانَ لِإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنْ كُنْتَ خَلَقْتَهُ فَقَدْ خَلَقْتَنِي، وَكَذَلِكَ فِي الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ، لَا يَكُونُ لِآدَمَ فِي الْخَلْقِ مَزِيَّةٌ عَلَى إِبْلِيسَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّان‏:‏ فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا حَقِيقَةُ الْيَدَيْنِ فِي خَلْقِ آدَمَ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي اسْتَثْمَرْتُهُ مِنْ تَدَبُّرِ كِتَابِه‏:‏ أَنَّ ‏(‏الْيَدَيْنِ‏)‏ اسْتِعَارَةٌ لِنُورِ قُدْرَتِهِ الْقَائِمِ بِصِفَةِ فَضْلِهِ، وَلِنُورِهَا الْقَائِمِ بِصِفَةِ عَدْلِهِ‏.‏ وَنَبَّهَ عَلَى تَخْصِيصِ آدَمَ وَتَكْرِيمِهِ بِأَنْ جَمَعَ لَهُ فِي خَلْقِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَصَاحِبَةُ الْفَضْلِ هِيَ الْيَمِينُ، الَّتِي ذَكَرَهَا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏السَّاقُ الْمَنْسُوبَة إلى اللَّه وَتَأْوِيل الْعُلَمَاءِ لَهَا‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ ‏[‏الْقَلَم‏:‏ 42‏]‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ عَنْ شِدَّةٍ وَأَمْرٍ عَظِيمٍ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ‏.‏

أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَك‏:‏ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِر‏:‏

اصْبِرْ عِنَاقْ إِنَّهُ شَرُّ بَاقْ *** قَدْ سَنَّ لِي قَوْمُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقْ

وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ ***

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ هَذَا يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏الْجَنْبُ‏)‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 56‏]‏ أَيْ‏:‏ فِي طَاعَتِهِ وَحَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ فِي الْجَنْبِ الْمَعْهُودِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ صِفَةُ ‏(‏الْقُرْبِ‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَإِنِّي قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 186‏]‏‏.‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ أَيْ‏:‏ بِالْعِلْمِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ صِفَةُ ‏(‏الْفَوْقِيَّةِ‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 18‏]‏‏.‏

‏{‏يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُلُوُّ مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ، وَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 127‏]‏ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعُلُوَّ الْمَكَانِيَّ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ صِفَةُ ‏(‏الْمَجِيءِ‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الْفَجْر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 158‏]‏ أَيْ‏:‏ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَ إِنَّمَا يَأْتِي بِأَمْرِهِ أَوْ بِتَسْلِيطِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 27‏]‏ فَصَارَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 24‏]‏ أَيْ‏:‏ اذْهَبْ بِرَبِّكَ، أَيْ‏:‏ بِتَوْفِيقِهِ وَقُوَّتِهِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ صِفَةُ ‏(‏الْحُبِّ‏)‏ فِي قوله‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ ‏{‏فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وَصِفَةُ ‏(‏الْغَضَبِ‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَصِفَةُ ‏(‏الرِّضَا‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 119‏]‏‏.‏

وَصِفَةُ ‏(‏الْعَجَبِ‏)‏ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبْتُ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 12‏]‏- بِضَمِّ التَّاءِ- وَقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏الرَّعْد‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَصِفَةُ ‏(‏الرَّحْمَةِ‏)‏ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ‏:‏ كُلُّ صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تُفَسَّرُ بِلَازِمِهَا‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين‏:‏ جَمِيعُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ- أَعْنِي‏:‏ الرَّحْمَةَ وَالْفَرَحَ، وَالسُّرُورَ وَالْغَضَبَ وَالْحَيَاءَ وَالْمَكْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ- لَهَا أَوَائِلُ وَلَهَا غَايَاتٌ، مِثَالُهُ‏:‏ الْغَضَبُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَغَايَتُهُ إِرَادَةُ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَلَفْظُ الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، بَلْ عَلَى غَرَضِهِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ‏.‏ وَكَذَلِكَ‏:‏ الْحَيَاءُ، لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ انْكِسَارٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ، وَلَهُ غَرَضٌ وَهُوَ تَرْكُ الْفِعْلِ، فَلَفْظُ الْحَيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لَا عَلَى انْكِسَارِ النَّفْسِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْل‏:‏ الْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ إِنْكَارُ الشَّيْءِ وَتَعْظِيمُهُ‏.‏ وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏الرَّعْد‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَافَقَ رَسُولَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ هُوَ كَمَا تَقُولُ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظَةُ ‏(‏عِنْدَ‏)‏ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عِنْدَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 206‏]‏‏.‏ وَ‏{‏ومَنْ عِنْدَهُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 52‏]‏، وَمَعْنَاهُمَا الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ وَالزُّلْفَى وَالرِّفْعَةِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ‏}‏ ‏[‏الْحَدِيد‏:‏ 4‏]‏، أَيْ‏:‏ بِعِلْمِهِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ‏:‏ الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، مِثْلَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏ ‏[‏الزُّخْرُف‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ‏:‏ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ ‏(‏يَعْلَمُ‏)‏ أَيْ‏:‏ عَالِمٌ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 31‏]‏ أَيْ‏:‏ سَنَقْصِدُ لِجَزَائِكُمْ‏.‏

تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ‏:‏ قَالَ ابْنُ اللَّبَّان‏:‏ لَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بَعْدَهُ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ‏}‏ ‏[‏الْبُرُوج‏:‏ 12- 13‏]‏ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ بَطْشَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي بَدْئِهِ وَإِعَادَتِهِ وَجَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏أَوَائِلُ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ‏]‏

وَمِنَ الْمُتَشَابِهِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَالْمُخْتَارُ فِيهَا- أَيْضًا- أَنَّهَا مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى أوائل السُّور الْمَقْطَعة فِي الْقُرْآن‏.‏

أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، عَنِ الشَّعْبِيّ‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا، وَإِنَّ سِرَّ هَذَا الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ‏.‏

وَخَاضَ فِي مَعْنَاهَا آخَرُونَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏المص‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ أَنَا اللَّهُ أَرَى‏.‏

وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ وَ‏{‏حم‏}‏ وَ‏{‏ن‏}‏ قَالَ‏:‏ اسْمٌ مُقَطَّعٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ وَ‏{‏حم‏}‏ وَ‏{‏ن‏}‏ حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُفَرَّقَةٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخ‏:‏ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ مِنَ الرَّحْمَنِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْهُ- أَيْضًا- قَالَ‏:‏ ‏{‏المص‏}‏‏:‏ الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏المص‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنَا اللَّهُ الصَّادِقُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏المص‏}‏ مَعْنَاهُ‏:‏ الْمُصَوِّرُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرْفَعُ، حَكَاهُمَا الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكَافُ مِنْ كَرِيمٍ، وَالْهَاءُ مَنْ هَادٍ، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ- أَيْضًا- مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ كَافٍ هَادٍ أَمِينٌ عَزِيزٌ صَادِقٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيّ‏:‏ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ هِجَاءٌ مُقَطَّعٌ‏:‏ الْكَافُ مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ مِنَ الْمُصَوِّرِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ‏.‏

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ كَبِيرٌ، هَادٍ، أَمِينٌ، عَزِيزٌ، صَادِقٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكَافُ الْكَافِي، وَالْهَاءُ الْهَادِي، وَالْعَيْنُ الْعَالِمُ، وَالصَّادُ الصَّادِقُ‏.‏

وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ‏:‏ سُئِلَ الْكَلْبِيُّ عَنْ ‏{‏كهيعص‏}‏ فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «كَافٍ، هَادٍ، أَمِينٌ، عَالَمٌ، صَادِقٌ»‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قوله‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ أَنَا الْكَبِيرُ، الْهَادِي، عَلِيٌّ، أَمِينٌ، صَادِقٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ قَالَ‏:‏ الطَّاءُ مِنْ ‏(‏ذِي الطَّوْلِ‏)‏ ‏[‏غَافِرٍ‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْهُ- أَيْضًا- فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏طسم‏}‏ قَالَ‏:‏ الطَّاءُ فِي ذِي الطَّوْلِ وَالسِّينُ مِنَ الْقُدُّوسِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ قَالَ‏:‏ حَاءٌ اشْتُقَّتْ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَمِيمٌ اشْتُقَّتْ مِنَ الرَّحِيمِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏حم عسق‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 1- 2‏]‏ قَالَ‏:‏ الْحَاءُ وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَلِيمِ، وَالسِّينُ مِنَ الْقُدُّوسِ، وَالْقَافُ مِنَ الْقَاهِرِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا هِجَاءٌ مُقَطَّعٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏{‏المر‏}‏ وَ‏{‏حم‏}‏ وَ‏{‏ن‏}‏ وَنَحْوُهَا اسْمُ اللَّهِ مُقَطَّعَةٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ فَوَاتِحُ السُّوَرِ أَسْمَاءٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فُرِّقَتْ فِي الْقُرْآنِ‏.‏

وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏ق‏}‏ إِنَّهُ حَرْفٌ مِنِ اسْمِهِ قَادِرٍ وَقَاهِرٍ‏.‏

وَحَكَى غَيْرُهُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ إِنَّهُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ تَعَالَى‏:‏ نُورٍ وَنَاصِرٍ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهَا‏:‏ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى‏.‏

وَالِاكْتِفَاءُ بِبَعْضِ الْكَلِمَةِ مَعْهُودٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ أَيْ‏:‏ وَقَفْتُ ***

وَقَالَ‏:‏

بِالْخَيْرِ خَيِّرَاتٌ وَإِنْ شَرًّا فَا *** وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا

أَرَادَ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَإِلَّا أَنْ تَشَاءَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏

نَادَاهُمُ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تا *** قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا

أَرَادَ‏:‏ أَلَا تَرْكَبُونَ، أَلَا فَارْكَبُوا‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ‏:‏ الْعَرَبُ تَنْطِقُ بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ تَدُلُّ بِهِ عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهَا الِاسْمُ الْأَعْظَمُ‏:‏ إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا‏.‏ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ-، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ‏:‏ هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيّ‏:‏ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمِ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ وَ‏{‏طسم‏}‏ وَ‏{‏ص‏}‏ وَأَشْبَاهُهَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ‏.‏

وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَالِثًا، أَيْ‏:‏ أَنَّهَا بِرُمَّتِهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ‏.‏ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَمِنَ الثَّانِي‏.‏ وَعَلَى الْأَوَّل‏:‏ مَشَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ‏:‏ عَنِ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئِ عَنْ، فَاطِمَةَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ‏:‏ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ‏:‏ يَا ‏{‏كهيعص‏}‏ اغْفِرْ لِي‏.‏

وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ قَالَ‏:‏ يَا مَنْ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ‏:‏ أَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِـ ‏(‏يس‏)‏‏؟‏‏.‏

فَقَالَ‏:‏ مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي، لِقَوْلِ اللَّه‏:‏ ‏{‏يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1- 2‏]‏، يَقُولُ‏:‏ هَذَا اسْمٌ تَسَمَّيْتُ بِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هِيَ أَسْمَاءٌ لِلْقُرْآن‏:‏ كَالْفُرْقَانِ وَالذِّكْرِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ قَتَادَةَ‏.‏ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظ‏:‏ كُلُّ هِجَاءٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَر‏:‏ نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى الْأَكْثَرِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هِيَ فَوَاتِحُ لِلسُّوَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْقَصَائِدِ ‏(‏بَلْ‏)‏ وَ‏(‏لَا بَلْ‏)‏‏.‏

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ وَ‏{‏حم‏}‏ وَ‏{‏المص‏}‏ وَ‏{‏ص‏}‏ وَنَحْوُهَا فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ ‏{‏الم‏}‏ وَ‏{‏المر‏}‏ فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ‏:‏ هَذِهِ هِيَ أَسْمَاءٌ‏؟‏

قَالَ‏:‏ لَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هَذَا حِسَابُ أَبِي جَادٍ‏:‏ لِتَدُلَّ عَلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيَابٍ قَالَ‏:‏ مَرَّ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ يَهُودَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَة‏:‏ ‏{‏الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏» فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ‏:‏ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْه‏:‏ ‏{‏الم ذَلِكَ الْكِتَابُ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ أَنْتَ سَمِعْتَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ فَمَشَى حُيَيُّ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَلَمْ تَذْكُرْ أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ‏:‏ ‏{‏الم ذَلِكَ‏}‏‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ « بَلَى»‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءَ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مَا مُدَّةُ مُلْكِهِ، وَمَا أَجَلُ أُمَّتِهِ غَيْرَكَ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً أَفَنَدْخُلُ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَجَلُ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً‏؟‏‏!‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «نَعَمْ‏:‏ المص» قَالَ‏:‏ هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالصَّادُ تِسْعُونَ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «نَعَمْ؛ الر»‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ؛ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ، هَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ‏.‏ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ‏؟‏

قَالَ‏:‏ «نَعَمْ المر»‏.‏

قَالَ‏:‏ هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ هَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيتَ أَمْ كَثِيرًا‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ قُومُوا عَنْهُ‏.‏

ثُمَّ قَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ وَمَنْ مَعَهُ‏:‏ مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ، إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ مُعْضَلًا‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْأَحْرُفِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، دَارَتْ بِهَا الْأَلْسُنُ، لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ وَبَلَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ أَقْوَامٍ وَآجَالِهِمْ، فَالْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِه‏:‏ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِه‏:‏ لَطِيفٍ، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِه‏:‏ مَجِيدٍ، فَالْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُ اللَّهِ، وَالْمِيمُ مَجْدُ اللَّهِ، فَالْأَلِفُ سَنَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ‏.‏

قَالَ الْخُوَيِّيُّ‏:‏ وَقَدِ اسْتَخْرَجَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 1- 2‏]‏ أَنَّ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ تَفْتَحُهُ الْمُسْلِمُونَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَوَقَعَ كَمَا قَالَهُ‏.‏

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ لَعَلَّ عَدَدَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ- مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ- لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُدَّةِ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ‏:‏ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الزَّجْرُ عَنْ عَدِّ أَبِي جَادٍ‏.‏ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِه‏:‏ وَمِنَ الْبَاطِلِ عِلْمُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ‏.‏

وَقَدْ تَحَصَّلَ لِي فِيهَا عِشْرُونَ قَوْلًا وَأَزْيَدُ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِعِلْمٍ وَلَا يَصِلُ مِنْهَا إِلَى فَهْمٍ‏.‏

وَالَّذِي أَقُولُهُ‏:‏ إِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لَهَا مَدْلُولًا مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ لَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تَلَا عَلَيْهِمْ ‏{‏حم‏}‏ فُصِّلَتْ وَ‏{‏ص‏}‏ وَغَيْرَهُمَا فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ بَلْ صَرَّحُوا بِالتَّسْلِيمِ لَهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، مَعَ تَشَوُّفِهِمْ إِلَى عَثْرَةٍ وَحِرْصِهِمْ عَلَى زَلَّةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ لَا إِنْكَارَ فِيهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَهِيَ تَنْبِيهَاتٌ كَمَا فِي النِّدَاء‏:‏ عَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُغَايِرًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَوَاتِحُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَاهُ‏.‏

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ افْتِتَاحُ كَلَامٍ‏.‏

وَقَالَ الْخُوَيِّيُّ‏:‏ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُتَنَبِّهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا، فَأَمَرَ جِبْرِيلَ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِه‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ وَ‏{‏الر‏}‏ وَ‏{‏حم‏}‏ لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلَ عَلَيْهِ، وَيُصْغِيَ إِلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ أَلَا وَ أَمَا لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ، لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ، وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ مِنْهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ، فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ، وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ‏.‏

وَعَدَّ هَذَا جَمَاعَةٌ قَوْلًا مُسْتَقِلًّا، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا مُنَاسَبَةً لِبَعْضِ الْأَقْوَالِ، لَا قَوْلًا فِي مَعْنَاهُ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَعْنًى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ذُكِرَتْ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ أ ب ت ث‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏:‏ فَجَاءَ بَعْضُهَا مُقَطَّعًا، وَجَاءَ تَمَامُهَا مُؤَلَّفًا، لِيَدُلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ أَنَّهُ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَعْرِيفًا لَهُمْ، وَدَلَالَةً عَلَى عَجْزِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، وَيَبْنُونَ كَلَامَهُمْ مِنْهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمَقْصُودُ بِهَا الْإِعْلَامُ بِالْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ‏:‏ فَذَكَرَ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، وَهِيَ نِصْفُ جَمِيعِ الْحُرُوفِ، وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ نِصْفَهُ‏:‏

فَمِنْ حَرْفِ الْحَلْق‏:‏ الْحَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْهَاءُ‏.‏ وَمِنَ الَّتِي فَوْقَهَا الْقَافُ، وَالْكَافُ‏.‏

وَمِنَ الْحَرْفَيْنِ الشَّفَهِيَّيْن‏:‏ الْمِيمُ‏.‏

وَمِنَ الْمَهْمُوسَة‏:‏ السِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْكَافُ، وَالصَّادُ، وَالْهَاءُ‏.‏

وَمِنَ الشَّدِيدَة‏:‏ الْهَمْزَةُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْكَافُ‏.‏

وَمِنَ الْمُطْبِقَة‏:‏ الطَّاءُ، وَالصَّادُ‏.‏

وَمِنَ الْمَجْهُورَة‏:‏ الْهَمْزَةُ، وَالْمِيمُ، وَاللَّامُ، وَالْعَيْنُ، وَالرَّاءُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ‏.‏

وَمِنَ الْمُنْفَتِحَة‏:‏ الْهَمْزَةُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ‏.‏

وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَة‏:‏ الْقَافُ، وَالصَّادُ، وَالطَّاءُ‏.‏

وَمِنَ الْمُنْخَفِضَة‏:‏ الْهَمْزَةُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالنُّونُ‏.‏

وَمِنَ الْقَلْقَلَة‏:‏ الْقَافُ، وَالطَّاءُ‏.‏

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُرُوفًا مُفْرَدَةً، وَحَرْفَيْنِ حَرْفَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً، وَخَمْسَةً؛ لِأَنَّ تَرَاكِيبَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَلَا زِيَادَةَ عَلَى الْخَمْسَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هِيَ أَمَارَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْكِتَاب‏:‏ أَنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ كِتَابًا فِي أَوَّلِ سُوَرٍ مِنْهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ‏:‏

هَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَفِي بَعْضِهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ؛ فَقِيلَ‏:‏ إِنَّ ‏(‏طه‏)‏ وَ‏(‏يس‏)‏ بِمَعْنَى‏:‏ يَا رَجُلُ، أَوْ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، أَوْ‏:‏ يَا إِنْسَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُعْرَبِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِه‏:‏ وَيُقَوِّيهِ فِي ‏(‏يس‏)‏ قِرَاءَةُ ‏(‏يَاسِينَ‏)‏ بِفَتْحِ النُّونِ وَقَوْلُهُ ‏(‏إِلْ يَاسِينَ‏)‏‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ أَيْ‏:‏ طَأِ الْأَرْضَ أَوِ اطْمَئِنَّ، فَيَكُونُ فِعْلَ أَمْرٍ وَالْهَاءُ مَفْعُولٌ، أَوْ لِلسَّكْتِ، أَوْ مُبْدَلَةً مِنَ الْهَمْزَةِ‏.‏

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ هُوَ كَقَوْلِكَ‏:‏ فَاعِلٌ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏(‏طه‏)‏ أَيْ‏:‏ يَا بَدْرُ؛ لِأَنَّ الطَّاءَ بِتِسْعَةٍ، وَالْهَاءَ بِخَمْسَةٍ، فَذَلِكَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِشَارَةً إِلَى الْبَدْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ فِيهَا‏.‏ ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ فِي قوله‏:‏ ‏{‏يس‏}‏ أَيْ‏:‏ يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، وَفِي قوله‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أَقْسَمَ بِالصَّمَدِ الصَّانِعِ الصَّادِقِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ صَادِ يَا مُحَمَّدُ عَمَلَكَ بِالْقُرْآنِ، أَيْ‏:‏ عَارِضْهُ بِهِ، فَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْمُصَادَاةِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ صَاد‏:‏ حَادِثِ الْقُرْآنَ، يَعْنِي‏:‏ انْظُرْ فِيهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا ‏(‏صَادِ وَالْقُرْآنِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ عَارِضِ الْقُرْآنَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ اسْمُ بَحْرٍ عَلَيْهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ اسْمُ بَحْرٍ يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ صَادِ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الْعِبَادِ حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ كُلَّهَا‏.‏

وَحَكَى فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏المص‏}‏ أَيْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏)‏ وَفِي ‏{‏حم‏}‏ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ ‏{‏حم‏}‏ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَفِي ‏{‏حم عسق‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 1- 2‏]‏ أَنَّهُ جَبَلُ قَافٍ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏ق‏}‏ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ‏.‏ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أَقْسَمَ بِقُوَّةِ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هِيَ الْقَافُ مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏(‏وَقُضِيَ الْأَمْرُ‏)‏ دَلَّتْ عَلَى بَقِيَّةِ الْكَلِمَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهَا قِفْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرْتَ، حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ هُوَ الْحُوتُ‏.‏ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا‏:‏ «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ وَالْحُوتَ‏.‏ قَالَ‏:‏ اكْتُبْ، قَالَ مَا أَكْتُبُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُلُّ شَيْءٍ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ قَرَأَ ‏(‏ن وَالْقَلَمِ‏)‏ فَالنُّونُ الْحُوتُ، وَالْقَافُ الْقَلَمُ»‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ‏.‏

أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ قُرَّةَ مَرْفُوعًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ الدَّوَاةُ، أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ الْمِدَادُ، حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ الْقَلَمُ، حَكَاهُ الْكِرْمَانِيُّ عَنِ الْجَاحِظِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي مُبْهَمَاتِهِ‏.‏

وَفِي الْمُحْتَسَبِ لِابْنِ جِنِّي‏:‏ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ ‏(‏حم سق‏)‏ بِلَا عَيْنٍ، وَيَقُولُ‏:‏ السِّينُ كُلُّ فِرْقَةٍ تَكُونُ، وَالْقَافُ كُلُّ جَمَاعَةٍ تَكُونُ‏.‏

قَالَ ابْنُ جِنِّي‏:‏ وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَوَاتِحَ فَوَاصِلٌ بَيْنَ السُّوَرِ الْقُرْآن الْكَرِيم، وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ تَحْرِيفُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ أَعْلَامًا، وَالْأَعْلَامُ تُؤَدَّى بِأَعْيَانِهَا، وَلَا يُحَرَّفُ شَيْءٌ مِنْهَا‏.‏

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 1- 2‏]‏‏:‏ الِاسْتِفْهَامُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ الْحُرُوفِ عَمَّا بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏ ‏[‏هَلْ لِلْمُحْكَمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَشَابِهِ أَوْ لَا‏]‏

أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ‏:‏ هَلْ لِلْمُحْكَمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَشَابِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم أَوْ لَا‏؟‏ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي‏:‏ فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، أَوْ بِالْأَوَّل‏:‏ فَقَدْ نَقَضْتُمْ أَصْلَكُمْ فِي أَنَّ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِالْحِكْمَةِ‏!‏

وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرَابَاذِيُّ‏:‏ بِأَنَّ الْمُحْكَمَ كَالْمُتَشَابِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ، فَيَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الْوَاضِعِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ الْقَبِيحَ‏.‏

وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْمُحْكَمَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمُتَشَابِهُ يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرَةٍ وَنَظَرٍ؛ لِيَحْمِلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ‏.‏ وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ أَصْلٌ، وَالْعِلْمُ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ، وَلِأَنَّ الْمُحْكَمَ يُعْلَمُ مُفَصَّلًا، وَالْمُتَشَابِهَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مُجْمَلًا‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنْ قِيلَ‏:‏ مَا الْحِكْمَةُ فِي إِنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم مِمَّنْ أَرَادَ لِعِبَادِهِ بِهِ الْبَيَانَ وَالْهُدَى‏؟‏ قُلْنَا‏:‏ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، فَلَهُ فَوَائِدُ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ الْحَثُّ لِلْعُلَمَاءِ عَلَى النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِغَوَامِضِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ دَقَائِقِهِ، فَإِنَّ اسْتِدْعَاءَ الْهِمَمِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ‏.‏

وَمِنْهَا ظُهُورُ التَّفَاضُلِ، وَتَفَاوُتُ الدَّرَجَاتِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَنَظَرٍ لَاسْتَوَتْ مَنَازِلُ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، فَلَهُ فَوَائِدُ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ ابْتِلَاءُ الْعِبَادِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ وَالتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّعَبُّدِ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ مِنْ جِهَةِ التِّلَاوَةِ كَالْمَنْسُوخِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ- وَعَجَزُوا عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعْنَاهُ، مَعَ بَلَاغَتِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ- دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعْنَاهُ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين‏:‏ مِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَجْلِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِه‏:‏

فَالْجَبْرِيُّ مُتَمَسِّكٌ بِآيَاتِ الْجَبْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ‏:‏ هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وَمُنْكِرُ الرُّؤْيَةِ مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وَمُثْبِتُ الْجِهَةِ مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 50‏]‏، ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَالنَّافِي مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ثُمَّ يُسَمِّي كُلُّ وَاحِدٍ الْآيَاتِ الْمُوَافَقَةَ لِمَذْهَبِهِ مُحْكَمَةً، وَالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةَ لَهُ مُتَشَابِهَةً، وَإِنَّمَا آلَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ إِلَى تَرْجِيحَاتٍ خَفِيَّةٍ وَوُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَجْعَلَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الدِّينِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هَكَذَا‏؟‏‏!‏

قَالَ‏:‏ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا لِوُقُوعِ الْمُتَشَابِهِ فِيهِ فَوَائِدَ الْقُرْآن الْكَرِيم‏:‏

مِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ، وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ؛ وَكَانَ بِصَرِيحِهِ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ أَرْبَابَ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ؛ فَإِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ طَمِعَ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ، وَيَنْصُرُ مَقَالَتَهُ، فَيَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَيَجْتَهِدُ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ، وَيَتَّصِلُ إِلَى الْحَقِّ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُتَشَابِهِ، افْتُقِرَ إِلَى الْعِلْمِ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلَاتِ، وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتُقِرَ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ؛ فَكَانَ فِي إِيرَادِ الْمُتَشَابِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْكَثِيرَةُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَعْوَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَطَبَائِعُ الْعَوَامِّ تَنْفِرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَنْ دَرْكِ الْحَقَائِقِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْعَوَامِّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عَدَمٌ وَنَفْيٌ، فَوَقَعَ التَّعْطِيلُ؛ فَكَانَ الْأَصْلَحَ أَنْ يُخَاطَبُوا بِأَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى بَعْضِ مَا يُنَاسِبُ مَا تَوَهَّمُوهُ وَتَخَيَّلُوهُ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ‏:‏- وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ- يَكُونُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏- وَهُوَ الَّذِي يُكْشَفُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ- مِنَ الْمُحْكَمَاتِ‏.‏

النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ

وَهُوَ قِسْمَانِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مَا أَشْكَلَ مَعْنَاهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَلَمَّا عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، اتَّضَحَ‏.‏ وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّصْنِيفِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ السَّلَفُ لِذَلِكَ فِي آيَاتٍ‏:‏

فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 85‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ‏)‏‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْهُ- أَيْضًا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 129‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مِنْ تَقَادِيمِ الْكَلَامِ، يَقُولُ‏:‏ لَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 1- 2‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير‏:‏ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 55‏]‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، أَيْ‏:‏ رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيكَ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، يَقُولُ‏:‏ لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 83‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ الْآيَةُ مُقَدَّمَةٌ وَمُؤَخَّرَةٌ، إِنَّمَا هِيَ‏:‏

أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَمْ يَنْجُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 153‏]‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا اللَّهَ، فَقَدْ رَأَوْهُ، إِنَّمَا قَالُوا جَهْرَةً‏:‏ أَرِنَا اللَّهَ‏.‏ قَالَ‏:‏ هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ‏.‏

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ‏:‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ جَهْرَةً‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 72‏]‏ قَالَ‏:‏ الْبَغَوِيُّ‏:‏ هَذِهِ أَوَّلُ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ‏.‏

وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ‏:‏ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَاتِلِ قَبْلَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ؛ وَإِنَّمَا أُخِّرَ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 67‏]‏ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُذْبَحُ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَاتِلٍ خَفِيَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِلْمُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ، أَتْبَعَ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 72‏]‏ فَسَأَلْتُمْ مُوسَى، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وَمِنْهُ ‏{‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 43‏]‏ وَالْأَصْلُ‏:‏ هَوَاهُ إِلَهَهُ؛ لِأَنَّ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ، فَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلْعِنَايَةِ بِهِ‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى‏}‏ ‏[‏الْأَعْلَى‏:‏ 4- 5‏]‏، عَلَى تَفْسِيرِ أَحْوَى بِالْأَخْضَرِ‏.‏ وَجَعَلَهُ نَعْتًا لِلْمَرْعَى، أَيْ‏:‏ أَخْرَجَهُ أَحْوَى، وَأُخِّرَ رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 27‏]‏ وَالْأَصْلُ‏:‏ ‏(‏سُودٌ غَرَابِيبُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْغِرْبِيبَ الشَّدِيدُ السَّوَادِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 71‏]‏ أَيْ‏:‏ فَبَشَّرْنَاهَا فَضَحِكَتْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏]‏ أَيْ‏:‏ لَهَمَّ بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْهَمُّ مَنْفِيٌّ عَنْهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ كِتَابَهُ ‏(‏الْمُقَدِّمَةُ فِي سِرِّ الْأَلْفَاظِ الْمُقَدَّمَةِ‏)‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فِيه‏:‏ الْحِكْمَةُ الشَّائِعَةُ الذَّائِعَةُ فِي ذَلِكَ الِاهْتِمَامُ؛ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِه‏:‏ كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ أَهَمُّ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى‏.‏

قَالَ‏:‏ هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِجْمَالِيَّةٌ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَسْبَابِ التَّقْدِيمِ وَأَسْرَارِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم، فَقَدْ ظَهَرَ لِي مِنْهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ التَّبَرُّكُ‏:‏ كَتَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُمُورِ ذَاتِ الشَّأْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 18‏]‏ وَقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 41‏]‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ التَّعْظِيمُ‏:‏ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمِنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 62‏]‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ التَّشْرِيفُ‏:‏ كَتَقْدِيمِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 35‏]‏، وَالْحُرِّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 178‏]‏ وَالْحَيِّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وَالْخَيْلِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وَالسَّمْعِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 46‏]‏ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَّاش‏:‏ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ، وَلِذَا وَقَعَ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏‏:‏ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 61‏]‏ بِتَقْدِيمِ‏.‏ ‏(‏السَّمِيعُ‏)‏‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ تَقْدِيمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَتَقْدِيمُ الرَّسُولِ فِي قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وَتَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وَتَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ حَيْثُ ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ‏.‏

وَتَقْدِيمُ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ الصِّدِّيقِينَ، ثُمَّ الشُّهَدَاءِ، ثُمَّ الصَّالِحِينَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ‏.‏

وَتَقْدِيمُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِهِ وَأَسَنُّ‏.‏

وَتَقْدِيمُ مُوسَى عَلَى هَارُونَ لِاصْطِفَائِهِ بِالْكَلَامِ، وَقَدَّمَ هَارُونَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ طه رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ‏.‏

وَتَقْدِيمُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ‏.‏

وَتَقْدِيمُ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ‏}‏ ‏[‏النَّازِعَات‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏السَّجْدَة‏:‏ 27‏]‏ فَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الزَّرْعِ، فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ الْأَنْعَامِ بِخِلَافِ آيَةِ ‏(‏عَبَسَ‏)‏ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 24‏]‏ فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ ‏(‏لَكُمُ‏)‏‏.‏

وَتَقْدِيمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ‏.‏

وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ‏.‏

وَالسَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ‏.‏

وَالشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ حَيْثُ وَقَعَ، إِلَّا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا‏}‏ ‏[‏نُوحٍ‏:‏ 15- 16‏]‏ فَقِيلَ‏:‏ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ، وَقِيلَ‏:‏؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ الْعَائِدِ عَلَيْهِنَّ الضَّمِيرُ بِهِ أَكْثَرُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ‏:‏ يُقَالُ إِنَّ الْقَمَرَ وَجْهُهُ يُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَظَهْرُهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ نُورِهِ يُضِيءُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي قوله‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 46‏]‏؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَشْرَفُ، وَأَمَّا ‏{‏فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 7‏]‏ فَأُخِّرَ فِيهِ رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏ الْمُنَاسَبَةُ‏:‏ وَهِيَ إِمَّا مُنَاسَبَةُ الْمُتَقَدِّمِ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 6‏]‏ فَإِنَّ الْجَمَالَ بِالْجَمَالِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا حَالَتَيِ السَّرَاحِ وَالْإِرَاحَةِ، إِلَّا أَنَّهَا حَالَةُ إِرَاحَتِهَا- وَهُوَ مَجِيئُهَا مِنَ الْمَرْعَى آخِرَ النَّهَارِ- يَكُونُ الْجَمَالُ بِهَا أَفْخَرَ، إِذْ هِيَ فِيهِ بِطَانٌ، وَحَالَةُ سَرَاحِهَا لِلْمَرْعَى أَوَّلَ النَّهَارِ يَكُونُ الْجَمَالُ بِهَا دُونَ الْأَوَّلِ، إِذْ هِيَ فِيهِ خِمَاصٌ‏:‏

وَنَظِيرُهُ قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 67‏]‏ قَدَّمَ نَفْيَ الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّ السَّرَفَ فِي الْإِنْفَاقِ‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 24‏]‏؛ لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ تَقَعُ مَعَ أَوَّلِ بَرْقَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَطَرُ إِلَّا بَعْدَ تَوَالِي الْبَرْقَاتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 91‏]‏ قَدَّمَهَا عَلَى الِابْنِ لَمَّا كَانَ السِّيَاقُ فِي ذِكْرِهَا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 91‏]‏، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِابْنَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وَحَسَّنَهُ تَقَدُّمُ مُوسَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهُ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 79‏]‏ قَدَّمَ الْحُكْمَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ سَابِقًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَة‏:‏ ‏{‏إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَإِمَّا مُنَاسَبَةُ لَفْظٍ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ أَوِ التَّأَخُّرِ، كَقَوْلِه‏:‏ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ‏[‏الْحَدِيد‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْحِجْر‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْمُدَّثِّر‏:‏ 37‏]‏، ‏{‏بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْقِيَامَة‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 39- 40‏]‏، ‏{‏لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 70‏]‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ‏[‏النَّجْم‏:‏ 25‏]‏ فَلِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الْمُرْسَلَات‏:‏ 38‏]‏‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ الْحَثُّ عَلَيْهِ وَالْحَضُّ عَلَى الْقِيَامِ بِه‏:‏ حَذَرًا مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ‏.‏ كَتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي قَوْلِه‏:‏ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 11‏]‏ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا شَرْعًا‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ السَّبْقُ‏:‏ وَهُوَ إِمَّا فِي الزَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْإِيجَادِ بِتَقْدِيمِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ، وَالظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ، وَآدَمَ عَلَى نُوحٍ، وَنُوحٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمَ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ عَلَى عِيسَى، وَدَاوُدَ عَلَى سُلَيْمَانَ، وَالْمَلَائِكَةَ عَلَى الْبَشَرِ، فِي قوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 75‏]‏ وَعَادٍ عَلَى ثَمُودَ، وَالْأَزْوَاجِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، فِي قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 59‏]‏ وَالسِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ، فِي قوله‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 255‏]‏‏.‏

أَوْ بِاعْتِبَارِ الْإِنْزَالِ، كَقوله‏:‏ ‏{‏صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ ‏[‏الْأَعْلَى‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 33، 4- 4‏]‏‏.‏

أَوْ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ وَالتَّكْلِيفِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 77‏]‏، ‏{‏فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»‏.‏

أَوْ بِالذَّاتِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ ‏[‏الْمُجَادَلَة‏:‏ 7‏]‏ وَكَذَا جَمِيعُ الْأَعْدَاد‏:‏ كُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا فَوْقَهَا بِالذَّاتِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى‏}‏ ‏[‏سَبَإٍ‏:‏ 46‏]‏ فَلِلْحَثِّ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْخَيْرِ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ السَّبَبِيَّةُ‏:‏ كَتَقْدِيمِ الْعَزِيزِ عَلَى الْحَكِيمِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ فَحَكَمَ‏.‏ وَالْعَلِيمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْكَامَ وَالْإِتْقَانَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ‏.‏

وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحَكِيمِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ‏.‏ فَلِأَنَّهُ مَقَامُ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ تَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُصُولِ الْإِعَانَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 222‏]‏؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ سَبَبُ الطَّهَارَةِ‏.‏ ‏{‏لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الْجَاثِيَة‏:‏ 7‏]‏؛ لِأَنَّ الْإِفْكَ سَبَبُ الْإِثْمِ‏.‏ ‏{‏يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 30‏]‏؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْفَرْجِ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ الْكَثْرَةُ‏:‏ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُن‏:‏ 2‏]‏؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُ‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏}‏ الْآيَةَ، قَدَّمَ الظَّالِمَ لِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ الْمُقْتَصِدَ، ثُمَّ السَّابِقَ‏.‏ وَلِهَذَا قَدَّمَ السَّارِقَ عَلَى السَّارِقَةِ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي الذُّكُورِ أَكْثَرُ‏.‏ وَالزَّانِيَةَ عَلَى الزَّانِي؛ لِأَنَّ الزِّنَى فِيهِنَّ أَكْثَرُ‏.‏

وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا، وَلِهَذَا وَرَدَ‏:‏ «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُن‏:‏ 14‏]‏ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيه‏:‏ إِنَّمَا قَدَّمَ الْأَزْوَاجَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ أَنَّ فِيهِمْ أَعْدَاءً، وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْأَزْوَاجِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأَوْلَادِ، وَكَانَ أَقْعَدَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَقُدِّمَ‏.‏ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُن‏:‏ 15‏]‏؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تَكَادُ تُفَارِقُهَا الْفِتْنَةُ‏.‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏الْعَلَق‏:‏ 6- 7‏]‏ وَلَيْسَتِ الْأَوْلَادُ فِي اسْتِلْزَامِ الْفِتْنَةِ مِثْلَهَا، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَوْلَى‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى‏:‏ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 195‏]‏، بَدَأَ بِالْأَدْنَى لِغَرَضِ التَّرَقِّي؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَشْرَفُ مِنَ الرِّجْلِ، وَالْعَيْنَ أَشْرَفُ مِنَ الْيَدِ، وَالسَّمْعَ أَشْرَفُ مِنَ الْبَصَرِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَأْخِيرُ الْأَبْلَغِ، وَقَدْ خُرِّجَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الرَّحْمَنِ عَلَى الرَّحِيمِ، وَالرَّءُوفِ عَلَى الرَّحِيمِ، وَالرَّسُولِ عَلَى النَّبِيِّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا‏}‏ ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 51‏]‏، وَذُكِرَ لِذَلِكَ نُكَتٌ أَشْهَرُهَا مُرَاعَاةُ الْفَاصِلَةِ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى‏:‏ وَخُرِّجَ عَلَيْه‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ ‏{‏لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 172‏]‏‏.‏

هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّائِغِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَسْبَابًا أُخَرَ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ كَوْنُهُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَعْجَبَ‏:‏ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النُّور‏:‏ 45‏]‏، وَقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ قَالَ‏:‏ الزَّمَخْشَرِيُّ قَدَّمَ الْجِبَالَ عَلَى الطَّيْرِ؛ لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا لَهُ وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرَ حَيَوَانٌ ‏[‏إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ‏]‏ نَاطِقٍ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ رِعَايَةُ الْفَوَاصِل‏:‏ وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ إِفَادَةُ الْحَصْرِ لِلِاخْتِصَاصِ، وَسَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الْخَامِسِ وَالْخَمْسِينَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ يُقَدَّمُ لَفْظٌ فِي مَوْضِعٍ وَيُؤَخَّرُ فِي آخَرَ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ‏:‏

إِمَّا لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقْتَضِي مَا وَقَعَ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ‏.‏

وَإِمَّا لِقَصْدِ الْبَدَاءَةِ وَالْخَتْمِ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ، كَمَا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 106‏]‏ الْآيَاتِ‏.‏

وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى عِدَّةِ أَسَالِيبَ، كَمَا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 58‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 161‏]‏‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وَقَالَ فِي ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 91‏]‏، ‏{‏قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏

النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي عَامِّهِ وَخَاصِّهِ

‏[‏تَعْرِيفُ الْعَامِّ‏]‏

الْعَامُّ‏:‏ لَفْظٌ يَسْتَغْرِقُ الصَّالِحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ‏.‏

وَصِيغَتُهُ الْعَام فِي الْقُرْآن‏:‏ ‏(‏كُلُّ‏)‏ مُبْتَدَأَةٌ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرَّحْمَن‏:‏ 26‏]‏ أَوْ تَابِعَةٌ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الْحِجْر‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وَ‏(‏الَّذِي وَالَّتِي‏)‏ وَتَثْنِيَتُهُمَا وَجَمْعُهُمَا، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ‏{‏لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 15‏]‏، ‏{‏وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 16‏]‏‏.‏

‏(‏وَأَيُّ، وَمَا، وَمَنْ‏)‏‏:‏ شَرْطًا وَاسْتِفْهَامًا وَمَوْصُولًا، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏أَيًّا مَا تَدْعُو فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 123‏]‏‏.‏

وَ‏(‏الْجَمْعُ الْمُضَافُ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وَ‏(‏الْمُعَرَّفُ بِأَلْ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَ‏(‏اسْمُ الْجِنْسِ الْمُضَافُ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 63‏]‏ أَيْ‏:‏ كُلِّ أَمْرِ اللَّهِ‏.‏

وَ‏(‏الْمُعَرَّفُ بِأَلْ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 275‏]‏، أَيْ‏:‏ كُلَّ بَيْعٍ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏، أَيْ‏:‏ كُلَّ إِنْسَانٍ بِدَلِيلِ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الْعَصْر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَ‏(‏النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ‏)‏‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ ‏[‏الْحِجْر‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ‏{‏فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 197‏]‏‏.‏

وَ‏(‏فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَفِي سِيَاقِ ‏(‏الِامْتِنَانِ‏)‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 48‏]‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏أَقْسَامُ الْعَامِّ‏]‏

الْعَامُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِه‏:‏ قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ وَمِثَالُهُ عَزِيزٌ، إِذْ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَيُتَخَيَّلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ، فَقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 1‏]‏‏.‏ قَدْ يُخَصُّ مِنْهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ‏.‏ وَ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ خُصَّ مِنْهَا حَالَةُ الِاضْطِرَارِ، وَمَيْتَةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ‏.‏ ‏(‏وَحَرَّمَ الرِّبَا‏)‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 275‏]‏ خُصَّ مِنْهُ الْعَرَايَا‏.‏

وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوْرَدَ مِنْهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 97‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا‏}‏ ‏[‏غَافِرٍ‏:‏ 64‏]‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُلْقِينِيِّ أَنَّهُ عَزِيزٌ فِي الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ‏.‏ وَقَدِ اسْتَخْرَجْتُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفِكْرِ آيَةً فِيهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 23‏]‏؛ فَإِنَّهُ لَا خُصُوصَ فِيهَا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الْعَامُّ الْمُرَادُ بِهِ الْمَخْصُوصُ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ‏.‏

وَلِلنَّاسِ بَيْنَهُمَا فُرُوقٌ‏:‏

أَنَّ الْأَوَّلَ‏:‏ لَمْ يُرَدْ شُمُولُهُ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، لَا مِنْ جِهَةِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ؛ بَلْ هُوَ ذُو أَفْرَادٍ اسْتُعْمِلَ فِي فَرْدٍ مِنْهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أُرِيدَ عُمُومُهُ وَشُمُولُهُ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، مِنْ جِهَةِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهَا، لَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ قَطْعًا، لِنَقْلِ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ‏.‏ بِخِلَافِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ فِيهِ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَجَمِيعُ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ‏.‏ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ‏:‏ إِنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَصَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لِلْبَعْضِ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَتَنَاوُلِهِ لَهُ بِلَا تَخْصِيصٍ، وَذَلِكَ التَّنَاوُلُ حَقِيقِيٌّ اتِّفَاقًا، فَلْيَكُنْ هَذَا التَّنَاوُلُ حَقِيقِيًّا أَيْضًا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ قَرِينَةَ الْأَوَّلِ عَقْلِيَّةٌ، وَالثَّانِي لَفْظِيَّةٌ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ قَرِينَةَ الْأَوَّلِ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، وَقَرِينَةَ الثَّانِي قَدْ تَنْفَكُّ عَنْهُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْأَوَّلَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا، وَفِي الثَّانِي خِلَافٌ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 173‏]‏‏.‏ وَالْقَائِلُ وَاحِدٌ‏:‏ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ أَوْ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ كَثِيرٍ فِي تَثْبِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُلَاقَاةِ أَبِي سُفْيَانَ‏.‏

قَالَ الْفَارِسِيُّ‏:‏ وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 175‏]‏‏.‏ فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَتَاعُ‏}‏ إِلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى جَمْعًا لَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أُولَئِكُمُ الشَّيْطَانُ‏)‏ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللَّفْظِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 54‏]‏‏.‏ أَيْ‏:‏ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمْعِهِ مَا فِي النَّاسِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 199‏]‏‏.‏ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِه‏:‏ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ قَالَ‏:‏ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-‏.‏

وَمِنَ الْغَرِيبِ قِرَاءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏(‏مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي‏)‏ قَالَ‏:‏ فِي الْمُحْتَسَبِ‏:‏ يَعْنِي آدَمَ، لِقوله‏:‏ ‏{‏فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 39‏]‏ أَيْ‏:‏ جِبْرِيلُ، كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏

وَأَمَّا الْمَخْصُوصُ‏:‏ فَأَمْثِلَتُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْسُوخِ، إِذْ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَقَدْ خُصَّ‏.‏

ثُمَّ الْمُخَصِّصُ لَهُ‏:‏ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ الْقُرْآن‏:‏

فَالْمُتَّصِلُ‏:‏ خَمْسَةٌ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآن‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الِاسْتِثْنَاءُ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 4- 5‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 224- 227‏]‏‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 68- 70‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏الْقَصَص‏:‏ 88‏]‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الْوَصْفُ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الشَّرْطُ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 33‏]‏، ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 180‏]‏‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ الْغَايَةُ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 29‏]‏، ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 222‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلّ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وَالْمُنْفَصِلُ‏:‏ آيَةٌ أُخْرَى فِي مَحَلٍّ آخَرَ، أَوْ حَدِيثٌ، أَوْ إِجْمَاعٌ، أَوْ قِيَاسٌ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا خُصَّ بِالْقُرْآن‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ خُصَّ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 49‏]‏، وَبِقوله‏:‏ ‏{‏وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجْلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ خُصَّ مِنَ الْمَيْتَةِ السَّمَكُ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وَمِنَ الدَّمِ الْجَامِدِ بِقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 145‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 20‏]‏، خُصَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 2‏]‏ خُصَّ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 3‏]‏ خُصَّ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏:‏ ‏{‏الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا خُصَّ بِالْحَدِيث‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 275‏]‏‏.‏ خُصَّ مِنْهُ الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ- وَهِيَ كَثِيرَةٌ- بِالسُّنَّةِ‏.‏

‏{‏وَحَرَّمَ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 275‏]‏ خُصَّ مِنْهُ الْعَرَايَا بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَآيَاتُ الْمَوَارِيث‏:‏ خُصَّ مِنْهَا الْقَاتِلُ وَالْمُخَالِفُ فِي الدِّينِ بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَآيَةُ تَحْرِيمِ الْمَيْتَة‏:‏ خُصَّ مِنْهَا الْجَرَادُ بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَآيَةُ‏:‏ ‏{‏ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 228‏]‏ خُصَّ مِنْهَا الْأَمَةُ بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَاءً طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 48‏]‏ خُصَّ مِنْهُ الْمُتَغَيِّرُ بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 38‏]‏ خُصَّ مِنْهُ مَنْ سَرَقَ دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا خُصَّ بِالْإِجْمَاع‏:‏ آيَةُ الْمَوَارِيثِ، خُصَّ مِنْهَا الرَّقِيقُ، فَلَا يَرِثُ بِالْإِجْمَاعِ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا خُصَّ بِالْقِيَاس‏:‏ آيَةُ الزِّنَا‏:‏ ‏{‏فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 2‏]‏ خُصَّ مِنْهَا الْعَبْدُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَمَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 25‏]‏ الْمُخَصِّصِ لِعُمُومِ الْآيَةِ‏.‏ ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ- أَيْضًا-‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مِنْ خَاصِّ الْقُرْآنِ مَا كَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ السُّنَّةِ

وَهُوَ عَزِيزٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِه‏:‏

قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 29‏]‏ خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 238‏]‏ خَصَّ عُمُومَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ بِإِخْرَاجِ الْفَرَائِضِ‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 80‏]‏، خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 60‏]‏ خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ ‏[‏الْحُجُرَات‏:‏ 9‏]‏ خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِالسَّيْفِ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»‏.‏

فُرُوعٌ مَنْثُورَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ

الْأَوَّلُ‏:‏ إِذَا سِيقَ الْعَامُّ لِلْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، فَهَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ‏؟‏ فِيهِ مَذَاهِبُ‏؟‏

أَحَدُهَا‏:‏ نَعَمْ؛ إِذْ لَا صَارِفَ عَنْهُ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعُمُومِ وَبَيْنَ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَقْ لِلتَّعْمِيمِ بَلْ لِلْمَدْحِ أَوْ لِلذَّمِّ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏- وَهُوَ الْأَصَحُّ- التَّفْصِيلُ، فَيَعُمُّ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ عَامٌّ آخَرَ لَمْ يُسَقْ لِذَلِكَ وَلَا يَعُمُّ إِنْ عَارَضَهُ ذَلِكَ؛ جَمْعًا بَيْنَهُمَا‏.‏

مِثَالُهُ- وَلَا مُعَارِضَ- قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الِانْفِطَار‏:‏ 13- 14‏]‏‏.‏

وَمَعَ الْمَعَارِض‏:‏ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 5- 6‏]‏ فَإِنَّهُ سِيقَ لِلْمَدْحِ، وَظَاهِرُهُ يَعُمُّ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَمْعًا‏.‏ وَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 23‏]‏، فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِجَمْعِهِمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يُسَقْ لِلْمَدْحِ، فَحُمِلَ الْأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، بِأَنْ لَمْ يُرَدْ تَنَاوُلُهُ لَهُ‏.‏

وَمِثَالُهُ فِي الذَّمّ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 34‏]‏، فَإِنَّهُ سِيقَ لِلذَّمِّ، وَظَاهِرُهُ يَعُمُّ الْحُلِيَّ الْمُبَاحَ، وَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ‏:‏ «لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ»‏.‏ فَحُمِلَ الْأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ اخْتُلِفَ فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ‏)‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ‏)‏ هَلْ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ نَعَمْ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقُدْوَةِ أَمْرٌ لِأَتْبَاعِهِ مَعَهُ عُرْفًا، وَالْأَصَحُّ فِي الْأُصُولِ الْمَنْعُ، لِاخْتِصَاصِ الصِّيغَةِ بِهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ اخْتُلِفَ فِي الْخِطَابِ بِـ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏)‏ هَلْ يَشْمَلُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ عَلَى مَذَاهِبَ‏:‏

أَصَحُّهَا- وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ- نَعَمْ؛ لِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَهُ‏.‏ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ إِذَا قَالَ اللَّهُ ‏(‏‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا افْعَلُوا‏)‏ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى لِسَانِهِ لِتَبْلِيغِ غَيْرِهِ، وَلِمَا لَهُ مِنَ الْخَصَائِصِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ إِنِ اقْتَرَنَ ب‏:‏ ‏(‏قُلْ‏)‏ لَمْ يَشْمَلْهُ لِظُهُورِهِ فِي التَّبْلِيغِ، وَذَلِكَ قَرِينَةُ عَدَمِ شُمُولِهِ؛ وَإِلَّا فَيَشْمَلُهُ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ الْأَصَحُّ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْخِطَابَ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏)‏ يَشْمَلُ الْكَافِرَ وَالْعَبْدَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ لَا يَعُمُّ الْكَافِرَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِهِ بِالْفُرُوعِ، وَلَا الْعَبْدَ لِصَرْفِ مَنَافِعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ شَرْعًا‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ اخْتُلِفَ فِي ‏(‏مَنْ‏)‏ هَلْ تَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى‏؟‏ فَالْأَصَحُّ‏:‏ نَعَمْ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ‏.‏

لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 124‏]‏، فَالتَّفْسِيرُ بِهِمَا دَالٌّ عَلَى تَنَاوُلِ ‏(‏مِنْ‏)‏ لَهُمَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ هَلْ يَتَنَاوَلُهَا‏؟‏ فَالْأَصَحُّ‏:‏ لَا، وَإِنَّمَا يَدْخُلْنَ فِيهِ بِقَرِينَةٍ‏.‏ أَمَّا الْمُكَسَّرُ‏:‏ فَلَا خِلَافَ فِي دُخُولِهِنَّ فِيهِ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ اخْتُلِفَ فِي الْخِطَابِ بـِ ‏(‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ‏)‏، هَلْ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ‏؟‏

فَالْأَصَحُّ‏:‏ لَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَاصِرٌ عَلَى مَنْ ذُكِرَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنْ شَارَكُوهُمْ فِي الْمَعْنَى شَمِلَهُمْ وَإِلَّا فَلَا‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي الْخِطَابِ بِـ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏)‏ هَلْ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ نَعَمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، قَالَ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏)‏ خِطَابُ تَشْرِيفٍ لَا تَخْصِيصٍ‏.‏

النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ‏:‏ فِي مُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ

مُجْمَل الْقُرْآنِ وَمَبِينه الْمُجْمَلُ‏:‏ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ، وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ، خِلَافًا لِدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ‏.‏

وَفِي جَوَازِ بَقَائِهِ مُجْمَلًا أَقْوَالٌ‏:‏ أَصَحُّهَا لَا يَبْقَى الْمُكَلَّفُ بِالْعَمَلِ بِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ‏.‏

وَلِلْإِجْمَالِ أَسْبَابٌ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ الِاشْتِرَاكُ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِير‏:‏ 17‏]‏، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ‏.‏ ‏{‏ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 228‏]‏ فَإِنَّ الْقُرْءَ مَوْضُوعٌ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ‏.‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 237‏]‏ يَحْتَمِلُ الزَّوْجَ وَالْوَلِيَّ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَمِنْهَا‏:‏ الْحَذْفُ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ يَحْتَمِلُ ‏(‏فِي‏)‏ وَ‏(‏عَنْ‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ اخْتِلَافُ مَرْجِعِ الضَّمِير‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فَاطِرٍ‏:‏ 10‏]‏ يَحْتَمِلُ عَوْدُ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي ‏(‏يَرْفَعُهُ‏)‏ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ ‏(‏إِلَيْهِ‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ‏.‏

وَيَحْتَمِلُ عَوْدُهُ إِلَى الْعَمَلِ؛ وَالْمَعْنَى‏:‏ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ‏.‏

وَيَحْتَمِلُ عَوْدُهُ إِلَى الْكَلِمِ الطَّيِّب‏:‏ أَيْ‏:‏ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ- وَهُوَ التَّوْحِيدُ- يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ احْتِمَالُ الْعَطْفِ وَالِاسْتِئْنَاف‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَمِنْهَا غَرَابَةُ اللَّفْظ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 232‏]‏‏.‏

وَمِنْهَا عَدَمُ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏يُلْقُونَ السَّمْعَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 223‏]‏ أَيْ‏:‏ يَسْمَعُونَ‏.‏

‏(‏ثَانِيَ عِطْفِهِ‏)‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 9‏]‏ أَيْ‏:‏ مُتَكَبِّرًا‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 42‏]‏ أَيْ‏:‏ نَادِمًا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 129‏]‏ أَيْ‏:‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا‏.‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 187‏]‏ أَيْ‏:‏ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ قَلْبُ الْمَنْقُول‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ ‏[‏التِّين‏:‏ 2‏]‏ أَيْ‏:‏ سَيْنَاءَ‏.‏ ‏(‏عَلَى إِلْ يَاسِينَ‏)‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 130‏]‏ أَيْ‏:‏ عَلَى إِلْيَاسَ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ التَّكْرِيرُ الْقَاطِعُ لِوَصْلِ الْكَلَامِ فِي الظَّاهِر‏:‏ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 75‏]‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏قَدْ يَقَعُ التَّبْيِينُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا‏]‏

قَدْ يَقَعُ التَّبْيِينُ مُتَّصِلًا، مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم نَحْوَ‏:‏ مِنَ الْفَجْرِ بَعْدَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وَمُنْفَصِلًا فِي آيَةٍ أُخْرَى، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 230‏]‏ بَعْدَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏ فَإِنَّهَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الطَّلَاقُ الَّذِي تُمْلَكُ الرَّجْعَةُ بَعْدَهُ، وَلَوْلَاهَا لَكَانَ الْكُلُّ مُنْحَصِرًا فِي الطَّلْقَتَيْنِ‏.‏

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْأَسَدِيِّ، قَالَ‏:‏ «قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّه‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ»‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ «قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏الْقِيَامَة‏:‏ 22- 23‏]‏ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ، وَيُفَسِّرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 103‏]‏ لَا تُحِيطُ بِهِ، دُونَ ‏(‏لَا تَرَاهُ‏)‏‏.‏

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِه‏:‏ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لَا تُحِيطُ بِهِ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الرُّؤْيَة‏:‏ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ‏:‏ ‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ‏}‏‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ‏؟‏ أَفَكُلُّهَا تُرَى‏؟‏‏!‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

فَسَّرَهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الْفَاتِحَة‏:‏ 4‏]‏ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الِانْفِطَار‏:‏ 17، 18، 19‏]‏‏.‏

وَقوله‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 37‏]‏ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا‏}‏ ‏[‏الزُّخْرُف‏:‏ 17‏]‏ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ فِي آيَةِ النَّحْلِ ‏[‏58‏]‏‏:‏ بِالْأُنْثَى‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 40‏]‏ قَالَ الْعُلَمَاءُ‏:‏ بَيَانُ هَذَا الْعَهْدِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 12‏]‏ إِلَى آخِرِهِ، فَهَذَا عَهْدُهُ، وَعَهْدُهُمْ‏:‏ ‏(‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏)‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 12‏]‏ إِلَى آخِرِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الْفَاتِحَة‏:‏ 7‏]‏ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏مَرْيَمَ‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وَقَدْ يَقَعُ التَّبْيِينُ بِالسُّنَّةِ، مِثْلَ‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 43‏]‏، ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَمَقَادِيرَ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ فِي أَنْوَاعِهَا بَيَان السَّنَة لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

اخْتُلِفَ فِي آيَاتٍ هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ أَوْ لَا‏؟‏

مِنْهَا‏:‏ آيَةُ السَّرِقَة‏:‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ فِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْعُضْوِ إِلَى الْكُوعِ وَإِلَى الْمِرْفَقِ، وَإِلَى الْمَنْكِبِ‏.‏ وَفِي الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِبَانَةِ، وَعَلَى الْجُرْحِ، وَلَا ظُهُورَ لِوَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِبَانَةُ الشَّارِعِ مِنَ الْكُوعِ تُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ لَا إِجْمَالَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ ظَاهِرٌ فِي الْإِبَانَةِ‏.‏

وَمِنْهَا ‏{‏وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ؛ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ مَسْحِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، وَمَسْحُ الشَّارِعِ النَّاصِيَةَ مُبَيِّنٌ لِذَلِكَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ لَا، وَإِنَّمَا هِيَ لِمُطْلَقِ الْمَسْحِ الصَّادِقِ بِأَقَلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَيُفِيدُهُ‏.‏

وَمِنْهَا ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 23‏]‏ قِيلَ‏:‏ مُجْمَلَةٌ؛ لِأَنَّ إِسْنَادَ التَّحْرِيمِ إِلَى الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأُمُورٍ لَا حَاجَةَ إِلَى جَمِيعِهَا، وَلَا مُرَجِّحَ لِبَعْضِهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا، لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ، وَهُوَ الْعُرْفُ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِأَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ بِوَطْءٍ أَوْ نَحْوِهِ‏.‏

وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا عُلِّقَ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ بِالْأَعْيَانِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا مَا قِيلَ فَى إِجْمَالهَا وَتَفْصِيلهَا ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 275‏]‏‏:‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ؛ لِأَنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ، وَمَا مِنْ بَيْعٍ إِلَّا وَفِيهِ زِيَادَةٌ، فَافْتَقَرَ إِلَى بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَنْقُولٌ شَرْعًا، فَحُمِلَ عَلَى عُمُومِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ‏.‏

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهَا عَامَّةٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ عُمُومٍ يَتَنَاوَلُ كُلَّ بَيْعٍ، وَيَقْتَضِي إِبَاحَةَ جَمِيعِهَا إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بُيُوعٍ كَانُوا يَعْتَادُونَهَا، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْجَائِزَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ إِبَاحَةَ جَمِيعِ الْبُيُوعِ، إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهَا، فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَخْصُوصَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَعَلَى هَذَا فِي الْعُمُومِ قَوْلَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، وَإِنْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيَانَ فِي الثَّانِي مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَفِي الْأَوَّلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ مُقْتَرِنٌ بِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَا لَمْ يَقَعْ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا صِحَّةُ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ إِلَّا بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا أَمْ بِعَارِضِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْبُيُوعِ‏؟‏ وَجْهَانِ‏.‏ وَهَلِ الْإِجْمَالُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ دُونَ لَفْظِهَا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ اسْمٌ لُغَوِيٌّ مَعْنَاهُ مَعْقُولٌ، لَكِنْ لَمَّا قَامَ بِإِزَائِهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا يُعَارِضُهُ تَدَافَعُ الْعُمُومَانِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُرَادُ إِلَّا بِبَيَانِ السُّنَّةِ، فَصَارَ مَحَلًّا لِذَلِكَ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَكَانَتْ لَهُ شَرَائِطُ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ فِي اللُّغَةِ كَانَ مُشْكِلًا أَيْضًا‏؟‏ وَجْهَان‏:‏

قَالَ‏:‏ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ وَلَا فَسَادِهِ؛ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ أَصْلِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ، حَيْثُ جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ وَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْمُجْمَلِ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهَا عَامَّةٌ مُجْمَلَةٌ مَعًا، قَالَ‏:‏ وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ ذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْعُمُومَ فِي اللَّفْظِ وَالْإِجْمَالَ فِي الْمَعْنَى، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَالْمَعْنَى مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْعُمُومَ فِي‏:‏ ‏(‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ‏)‏ وَالْإِجْمَالَ فِي‏:‏ ‏(‏وَحَرَّمَ الرِّبَا‏)‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 275‏]‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ مُجْمَلًا، فَلَمَّا بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ عَامًّا فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَفِي الْعُمُومِ بَعْدَ الْبَيَانِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا‏.‏

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ بَيْعًا مَعْهُودًا، وَنَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُيُوعًا وَحَرَّمَ بُيُوعًا، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ؛ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ هَلْ هِي مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ أو الْمُحْتَمَل وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُحْتَمَلِ، نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ‏{‏فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏، ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 97‏]‏‏.‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ، لِاحْتِمَالِ الصَّلَاةِ لِكُلِّ دُعَاءٍ، وَالصَّوْمِ لِكُلِّ إِمْسَاكٍ، وَالْحَجِّ لِكُلِّ قَصْدٍ‏.‏ وَالْمُرَادُ بِهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى كُلِّ مَا ذُكِرَ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏ قَالَ ابْنُ الْحَصَّار‏:‏ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الْمُجْمَلَ وَالْمُحْتَمَلَ بِإِزَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُجْمَلَ‏:‏ اللَّفْظُ الْمُبْهَمُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَالْمُحْتَمَلَ‏:‏ اللَّفْظُ الْوَاقِعُ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مَفْهُومَيْنِ فَصَاعِدًا، سَوَاءً كَانَ حَقِيقَةً فِي كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا‏:‏ أَنَّ الْمُحْتَمَلَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ مَعْرُوفَةٍ، وَاللَّفْظُ مُشْتَرِكٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، وَالْمُبْهَمَ‏:‏ لَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُفَوِّضْ لِأَحَدٍ بَيَانَ الْمُجْمَلِ، بِخِلَافِ الْمُحْتَمَلِ‏.‏