فصل: أحكام لألفاظ يكثر دورانها في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ:

أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصٌ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْمَجَازِ فِي إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً.
الْأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: {تلك عشرة كاملة} وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّأْكِيدَ هُنَا لَيْسَ لِدَفْعِ نُقْصَانِ أَصْلِ الْعَدَدِ بَلْ لِدَفْعِ نُقْصَانِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاقِدَ لِلْهُدَى لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} وَلَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصًا لَمَا دَخَلَهَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَامًّا وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّجَوُّزَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَلْفِ فَإِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْمُبَالَغَةِ لِلتَّكْثِيرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثنين} وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ التَّأْكِيدِ الْجَوَابُ عَنْهُ.
الرَّابِعَةُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وقوله: {سبعون ذراعا} قَالُوا الْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ وَخُصُوصُ السَّبْعِينَ لَيْسَ مُرَادًا وَهَذَا مَجَازٌ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ ارجع البصر كرتين} قِيلَ الْمُرَادُ الْمُرَاجَعَةُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَجِيءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصْلِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ مجاز.

.أحكام لألفاظ يكثر دورانها في القرآن:

.لفظ (فعل):

من ذَلِكَ لَفْظُ (فَعَلَ) كَثِيرًا مَا يَجِيءُ كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَفَائِدَتُهُ الِاخْتِصَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لبئس ما كانوا يفعلون}.
{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به}.
وقوله: {فإن لم تفعلوا} أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
وَحَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}.
{وتبين لكم كيف فعلنا بهم}.

.لفظ كَانَ:

وَمِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ أو صفاته بِـ: (كَانَ).
وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُفِيدُ الِانْقِطَاعَ لِأَنَّهَا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ.
وَالثَّانِي: لَا تُفِيدُهُ بَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ مُعْطٍ فِي أَلْفِيَّتِهِ حَيْثُ قَالَ:
وَكَانَ لِلْمَاضِي الَّذِي مَا انْقَطَعَا

وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كفورا} نَبَّهَ بِقَوْلِهِ كَانَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُنْذُ أُوْجِدَ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ سَابِقٍ وَلَا عَلَى انْقِطَاعِ طَارِئٍ وَمِنْهُ قوله تعالى {وكان الله غفورا رحيما} قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس}.
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّهَا حيث وقعت في صفات الله فَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ.
وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مَقَالَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَنَّهَا تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي لَا غَيْرَ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا نَفْسِهَا عَلَى انْقِطَاعِ ذلك المعنى ولا بقائه بل إن أفاد الْكَلَامِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِدَلِيلٍ آخَرَ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَدَ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ كَانَ كَثِيرًا نَحْوُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عليما} {واسعا حكيما} {غفورا رحيما} {توابا رحيما} {وكنا بكل شيء عالمين} {وكنا لحكمهم شاهدين}.
فحيث وقع الإخبار بـ: (كان) عَنْ صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهَا وَأَنَّهَا لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهُ وَلِهَذَا يُقَرِّرُهَا بَعْضُهُمْ بما زَالَ فِرَارًا مِمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ إِنْ كَانَ يُفِيدُ انْقِطَاعَ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ الْوُجُودِ لِقَوْلِهِمْ دَخَلَ فِي خَبَرِ كَانَ قَالُوا فَكَانَ وَمَا زَالَ مَجَازَانِ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ مَجَازًا بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَزَلِيَّةِ الصِّفَةِ ثُمَّ تَسْتَفِيدُ بَقَاءَهَا فِي الْحَالِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سُؤَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَكَيْفَ تَدُلُّ كَانَ الزَّمَانِيَّةُ عَلَى أَزَلِيَّةِ صِفَاتِهِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ؟
وَثَانِيهُمَا: مَدْلُولُ كَانَ اقْتِرَانُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ اقْتِرَانًا مُطْلَقًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِغْرَاقِهِ الزَّمَانَ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّمَانَ نَوْعَانِ:
حَقِيقِيٌّ وَهُوَ مُرُورُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَوْ مِقْدَارُ حَرَكَةِ الْفَلَكِ عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ.
وَتَقْدِيرِيٌّ وَهُوَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بكرة وعشيا} ولا بكرة هنا وَلَا عَشِيًّا وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانٌ تَقْدِيرِيٌّ فَرْضِيٌّ.
وكذلك قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيام} مَعَ أَنَّ الْأَيَّامَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بوجود السموات وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَيَّامٍ تَقْدِيرِيَّةٍ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ كَانَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأَزْمِنَةِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ فَإِمَّا أَلَّا يَتَعَلَّقَ مَضْمُونُهَا بِزَمَانٍ فَيُعَطَّلَ أَوْ يُعَلَّقَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ زَمَانٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَحَيْثُ وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ فَالْمُرَادُ تَارَةً الْإِخْبَارُ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْأَزَلِ نَحْوَ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَتَارَةً تَحْقِيقُ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ نَحْوَ: {وَكُنَّا فاعلين} وَتَارَةً ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ وَإِنْشَاؤُهُ نَحْوَ {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} فَإِنَّ الْإِرْثَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا فِيهِمْ غَرِيزَةٌ وَطَبِيعَةٌ مَرْكُوزَةٌ فِي نَفْسِهِ نَحْوُ: {وكان الإنسان عجولا} {إنه كان ظلوما جهولا}.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} أي خلق على هذه الصفة وهي مُقَدَّرَةٌ أَوْ بِالْقُوَّةِ ثُمَّ تَخَرَّجَ إِلَى الْفِعْلِ.
وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ أَفْعَالِهِمْ دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ نَحْوَ {إِنَّهُمْ كَانُوا يسارعون في الخيرات}.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحِكَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم بلفظ كان يصوم وكنا نَفْعَلُ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يُفِيدُ الدَّوَامَ فَإِنْ عَارَضَهُ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّوَامِ مِثْلَ أَنْ يُرْوَى كَانَ يَمْسَحُ مَرَّةً ثُمَّ نُقِلَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا فَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَإِنْ رُوِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ تَعَارَضَا.
وَقَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: إِذَا اسْتُعْمِلَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاضِي فَهَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاتِّصَالَ أو لَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا فَهَلْ هُوَ الْآنَ قَائِمٌ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ ضَرُورَةً وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جَعْلِهَا لِلدَّوَامِ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غفورا رحيما} وقوله: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} وَهَذَا عِنْدَنَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ هَلْ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْمَعْنَى أَيْ قَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ فَاحِشَةً وَكُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ.
قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: فِي أَمَالِيهِ اخْتُلِفَ فِي كَانَ فِي نَحْوِ قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عزيزا حكيما} عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ كَأَنَّ الْقَوْمَ شَاهَدُوا عِزًّا وَحِكْمَةً وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فَقِيلَ لَهُمْ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ كَذَلِكَ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ فَإِذَا كَانَ فِعْلًا مُتَطَاوِلًا لَمْ يَدُلَّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّهُ زَالَ وَانْقَطَعَ كَقَوْلِكَ كَانَ فُلَانٌ صَدِيقِي لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَتَهُ قَدْ زَالَتْ بَلْ يَجُوزُ بَقَاؤُهَا وَيَجُوزُ زَوَالُهَا.
فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لكم عدوا مبينا} لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ بَاقِيَةٌ.
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم}.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَأَمَّا فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ فَقَدْ يَكُونُ بَاقِيًا مُسْتَمِرًّا وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رحيما} وَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ.
قَالَ السِّيرَافِيُّ: قَدْ يَرْجِعُ الِانْقِطَاعُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُغْفَرُ لَهُ وَلَا مَنْ يُرْحَمُ فَتَنْقَطِعَ الْمَغْفِرَةُ والرحمة.
وكذا: {وكان الله عليما حكيما} وَمَعْنَاهُ الِانْقِطَاعُ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ لَا نَفْسَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ مَا مَعْنَاهُ إِنَّ (كَانَ) تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصْفِ وَقِدَمِهِ وَمَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ فَلَاحٍ الْيَمَنِيُّ فِي كِتَابِ الْكَافِي: قَدْ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ كَقوله: {وَكَانَ الله غفورا رحيما} {وكان الله سميعا بصيرا} {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} دَلَّتْ عَلَى الدَّوَامِ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَدَوَامِ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ وَقَدْ تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ نَحْوَ كَانَ هَذَا الْفَقِيرُ غَنِيًّا وَكَانَ لِي مَالٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ كَانَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
بِمَعْنَى الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وكان الله عليما حكيما}.
وَبِمَعْنَى الْمُضِيِّ الْمُنْقَطِعِ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تسعة رهط} وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مَعَانِي كَانَ كَمَا تَقُولُ كَانَ زَيْدٌ صَالِحًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُ.
وَبِمَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خير أمة} وَقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا موقوتا}.
وَبِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شره مستطيرا}.
وبمعنى صار كقوله: {وكان من الكافرين}.

.مسألة: في حكم (كان) إذا وقعت بعد (إن):

كَانَ فِعْلٌ مَاضٍ وَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ إِنْ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى لِلِاسْتِقْبَالِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ تَبْقَى عَلَى الْمُضِيِّ لِتَجَرُّدِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ فَلَا يُغَيِّرُهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قلته} {إن كان قميصه}.
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِبِنَائِهِ عَلَى أَنَّهَا لِلزَّمَانِ وَحْدَهُ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ مَعَ إِنْ للاستقبال قال تعالى {إن كنتم صادقين} وأما {إن كنت قلته} فَتَأَوَّلَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ أَكُنْ قُلْتُهُ وَكَذَا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إِنْ يَكُنْ قميصه.