فصل: الأسلوب الثاني: الحذف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الأسلوب الثاني: الحذف:

.فصل: في أن الحذف نوع من أنواع المجاز على المشهور:

الْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَذْفَ مَجَازٌ وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي (التَّلْخِيصِ) عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَذْفَ لَيْسَ بِمَجَازٍ إِذْ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْحَذْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ: وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عَيْنُ الْمَجَازِ أَوْ مُعْظَمُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَلَيْسَ كُلُّ حَذْفٍ مجازا. انتهى.
وقال الزبخاني فِي (الْمِعْيَارِ): إِنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا تَغَيَّرَ بسببه حكم.
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ حُكْمٌ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو بِحَذْفِ الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَالْمَحْذُوفُ لَيْسَ كذلك لعدم استعماله وإن أريد بالمجاز إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِهِ- وَهُوَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ- فالحذف كذلك.

.فصل: في أن الحذف خلاف الأصل:

وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي فَرْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحَذْفِ وَعَدَمِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى عَدَمِهِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ.
وَالثَّانِي: إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ قِلَّةِ الْمَحْذُوفِ وَكَثْرَتِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى قِلَّتِهِ أَوْلَى.

.أوجه الكلام على الحذف:

ويقع الكلام في الحذف من خَمْسَةِ أَوْجُهٍ فِي فَائِدَتِهِ وَفِي أَسْبَابِهِ ثُمَّ فِي أَدِلَّتِهِ ثُمَّ فِي شُرُوطِهِ ثُمَّ فِي أقسامه.

.فوائد الحذف:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي فَوَائِدِهِ:
فَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ لِذَهَابِ الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَتَشَوُّفِهِ إِلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَرْجِعُ قَاصِرًا عَنْ إِدْرَاكِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ شَأْنُهُ وَيَعْلُو فِي النَّفْسِ مَكَانُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ إِذَا ظَهَرَ فِي اللَّفْظِ زَالَ مَا كَانَ يَخْتَلِجُ فِي الْوَهْمِ مِنَ الْمُرَادِ وخلص للمذكور!.
وَمِنْهَا: زِيَادَةُ لَذَّةٍ بِسَبَبِ اسْتِنْبَاطِ الذِّهْنِ لِلْمَحْذُوفِ وَكُلَّمَا كَانَ الشُّعُورُ بِالْمَحْذُوفِ أَعْسَرَ كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهِ أَشَدَّ وَأَحْسَنَ.
وَمِنْهَا: زِيَادَةُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقُولُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصَةِ.
وَمِنْهَا: طَلَبُ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ.
وَمِنْهَا: التَّشْجِيعُ عَلَى الْكَلَامِ وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي: (شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ).
وَمِنْهَا: مَوْقِعُهُ فِي النَّفْسِ فِي مَوْقِعِهِ عَلَى الذِّكْرِ وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الصِّنَاعَتَيْنِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: مَا مِنَ اسْمٍ حُذِفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَفَ فِيهَا إِلَّا وَحَذْفُهُ أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِهِ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحَةٍ ** وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحِ

.أسباب الحذف:

الثَّانِي: فِي أَسْبَابِهِ:
فَمِنْهَا: مُجَرَّدُ الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ نَحْوَ الْهِلَالُ وَاللَّهِ أَيْ هَذَا فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَرِينَةِ شَهَادَةِ الْحَالِ إِذْ لَوْ ذَكَرَهُ مَعَ ذَلِكَ لَكَانَ عَبَثًا مِنَ الْقَوْلِ.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَاصَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَحْذُوفِ وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْمُهِمِّ وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ بَابِ التَّحْذِيرِ، نَحْوَ: إِيَّاكَ والشر والطريق الطريق الله اللَّهَ وَبَابُ الْإِغْرَاءِ هُوَ لُزُومُ أَمْرٍ يُحْمَدُ بِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} عَلَى التَّحْذِيرِ أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا وَ: (سُقْيَاهَا) إِغْرَاءً بِتَقْدِيرِ الْزَمُوا نَاقَةَ اللَّهِ.
وَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ قَالَ حَازِمٌ فِي (مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ): إِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ مَا لَمْ شكل بِهِ الْمَعْنَى لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ فَيَحْذِفُ وَيَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى بِالْحَالِ عَنْ ذِكْرِهَا عَلَى الْحَالِ قَالَ: وَبِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ على النفوس وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فَحَذَفَ الْجَوَابَ، إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى فَجَعَلَ الْحَذْفَ دَلِيلًا عَلَى ضِيقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَأْنُهُ وَلَا يُبْلَغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهُ مَا هُنَالِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ».
قُلْتُ وَمِنْهُ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْمُتَحَمِّلَةِ مَعَ قِلَّتِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ.
وَمِنْهَا: التخفيف لكثرة دورانه في كلامهم كما حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي نَحْوِ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عن هذا} وَغَيْرُهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ لَا أَدْرِ فَيَحْذِفُونَ الْيَاءَ وَالْوَجْهُ (لَا أَدْرِي) لِأَنَّهُ رَفْعٌ وَتَقُولُ: (لَمْ أُبَلْ) فَيَحْذِفُونَ الْأَلِفَ وَالْوَجْهُ لَمْ أُبَالِ وَيَقُولُونَ: (لَمْ يَكْ) فَيَحْذِفُونَ النُّونَ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُونَهُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ.
وَمِنْهَا: حَذْفُ نُونِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَأَثَرُهَا بَاقٍ نَحْوَ: الضاربا زيدا، والضاربو زيدا. وقراءة من قرأ: {والمقيمى الصلاة} كَأَنَّ النُّونَ ثَابِتَةٌ فَعَلُوا ذَلِكَ لِاسْتِطَالَةِ الْمَوْصُولِ في الصلة، نحو: {والليل إذا يسر} حُذِفَتِ الْيَاءُ لِلتَّخْفِيفِ.
وَيُحْكَى عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ المؤرج السدوسي سأله: (عن ذلك) فَقَالَ: لَا أُجِيبُكَ حَتَّى تَنَامَ عَلَى بَابِي لَيْلَةً فَفَعَلَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إِذَا عَدَلَتْ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ نَقَصَتْ حُرُوفَهُ وَاللَّيْلُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْرِي وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وما كانت أمك بغيا} الْأَصْلُ (بَغِيَّةٌ) فَلَمَّا حُوِّلَ وَنُقِلَ عَنْ فَاعِلٍ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ انْتَهَى.
وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ، نحو: {ما ودعك ربك وما قلى}. {والليل إذا يسر} وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: إِنَّمَا حُذِفَتِ الْيَاءُ فِي الْفَوَاصِلِ لِأَنَّهَا عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ وَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوَافِي الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ يَاءٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُحْذَفَ صِيَانَةً لَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين} إلى قوله: {إن كنتم تعقلون} حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ ذِكْرِ الرب، أي هو رب السموات. وَاللَّهُ رَبُّكُمْ. وَاللَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْظَمَ حَالَ فِرْعَوْنَ وَإِقْدَامُهُ عَلَى السُّؤَالِ تَهَيُّبًا وَتَفْخِيمًا فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ لِيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وَمِنْهَا: صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عمي} أي هم.
وَمِنْهَا: كَوْنُهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {عالم الغيب والشهادة} {فعال لما يريد}.
وَمِنْهَا: شُهْرَتُهُ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً قال الزمخشري وهو نوع من دلالةالحال الَّتِي لِسَانُهَا أَنْطَقُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ كَقَوْلِ رؤبة خير جواب من قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قراءة حمزة: {تساءلون به}. لِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ شُهِرَ بِتَكْرِيرِ الْجَارِّ فَقَامَتِ الشهرة مقام الذكر.
وكذا قال الفارسي متلخصا مِنْ عَدَمِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ: إِنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْجَارِّ الْمُقَدَّرِ أَيْ وَ: (بِالْأَرْحَامِ) وَإِنَّمَا حُذِفَتِ اسْتِغْنَاءً بِهِ فِي الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْمُقَدَّرُ يُحِيلُ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ عَطْفِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى مِثْلِهِ!.
قُلْتُ: إِعَادَةُ الْجَارِّ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَطْفِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ.

.أدلة الحذف:

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي أَدِلَّتِهِ:
وَلَمَّا كَانَ الْحَذْفُ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ دَلِيلِهِ.
وَالدَّلِيلُ تَارَةً يَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ مُطْلَقٍ وَتَارَةً عَلَى مَحْذُوفٍ مُعَيَّنٍ.
فَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ حَيْثُ تَسْتَحِيلُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَقْلًا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا تَكَلُّمُ الْأَمْكِنَةِ إِلَّا مُعْجِزَةً.
وَمِنْهَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ كَقَوْلِهِ تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة}.
فَإِنَّ الذَّاتَ لَا تَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ شَرْعًا إِنَّمَا هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الذَّوَاتِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ التَّنَاوُلُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا حُذِفَ وَأُقِيمَتِ الْمَيْتَةُ مَقَامَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْفِعْلُ وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ أُنِّثَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَقَوْلُ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَحَلَّ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى الْحَذْفِ وَالتَّعْيِينِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وجاء ربك}، أَيْ أَمْرُهُ أَوْ عَذَابُهُ أَوْ مَلَائِكَتُهُ لِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ وَلِاسْتِحَالَةِ مَجِيءِ البارئ عَقْلًا لِأَنَّ الْمَجِيءَ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَدَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى التَّعْيِينِ وَهُوَ الْأَمْرُ وَنَحْوُهُ وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَمْثِيلٌ مَثَّلَتْ حَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ}، لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّوْحِيدِ فَعَدَمُ الْفَسَادِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ضَرُورَةً وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ بُلُوغًا لَهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ وَتَدُلَّ عَادَةُ النَّاسِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَلِكُنَّ الذي لمتنني فيه} فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ ظَرْفًا لِلَوْمِهِنَّ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظرف حبه بدليل: {شغفها حبا} أو مراودته بدليل: {تراود فتاها}، ولكن.
الْعَقْلَ لَا يُعَيِّنُ وَاحِدًا مِنْهَا بَلِ الْعَادَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الثَّانِي فَإِنَّ الْحُبَّ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ يَقْهَرُهُ وَيَغْلِبُهُ وَإِنَّمَا اللَّوْمُ فِيمَا لِلنَّفْسِ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَهُوَ الْمُرَاوَدَةُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ تَدُلَّ الْعَادَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لو نعلم قتالا}، أَيْ مَكَانَ قِتَالٍ وَالْمُرَادُ مَكَانًا صَالِحًا لِلْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَخْبَرَ النَّاسِ بِالْقِتَالِ وَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يُرِيدُوا لَوْ نَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقِتَالِ فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مُجَاهِدٌ: (مَكَانَ قِتَالٍ).
وَقِيلَ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمَحْذُوفِ هُنَا مِنْ دَلَالَةِ السِّيَاقِ لَا الْعَادَةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْحَذْفِ وَالشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: {بِسْمِ الله} فَإِنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَدَلَّ الشُّرُوعُ عَلَى تَعْيِينِهِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ فِي مَبْدَئِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِ وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ فَفِي الْقِرَاءَةِ أَقْرَأُ وَفِي الْأَكْلِ: آكُلُ وَنَحْوَهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّرُ الْفِعْلُ أَوْ الِاسْمُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يُقَدَّرُ عَامٌّ كَالِابْتِدَاءِ أَوْ خَاصٌّ كَمَا ذَكَرْنَا؟.
وَمِنْهَا: اللُّغَةُ كَضَرَبْتُ فَإِنَّ اللُّغَةَ قَاضِيَةٌ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ نَعَمْ هِيَ تَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْحَدَثِ لَا تَعْيِينُهُ وَكَذَلِكَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ.
وَمِنْهَا: تَقَدُّمُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَمَا فِي سِيَاقِهِ كقوله: {وأبصر فسوف يبصرون}، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ نَحْوَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تسجد} وفي موضع: {ألا تسجد}. وَكَقَوْلِهِ: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بلاغ} أَيْ هَذَا، بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فقال تعالى: {هذا بلاغ للناس} وَنَظَائِرِهِ.
وَمِنْهَا: اعْتِضَادُهُ بِسَبَبِ النُّزُولِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَيْ قُمْتُمْ مِنَ الْمَضَاجِعِ يَعْنِي النَّوْمَ وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا يَعْنِي إِذَا قُمْتُمْ مُحْدِثِينَ.
وَاحْتُجَّ لِزَيْدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ فِقْدَانِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِقْدَهَا فَأَخَّرُوا الرَّحِيلَ إِلَى أَنْ أَضَاءَ الصُّبْحُ فَطَلَبُوا الْمَاءَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنْ نَوْمِهِمْ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَبِمَا رُجِّحَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ الْأَحْدَاثَ الْمَذْكُورَةَ بعد قوله: {إذا قمتم} الْأَوْلَى أَنْ يَحْمِلَ قَوْلُهُ: {إِذَا قُمْتُمْ} مَعْنًى غَيْرَ الْحَدَثِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلْحَدَثِ وَلِسَبَبِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ النوم ليس بحدث بل سبب للحدث.