فصل: الالتفات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّامِنُ: تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} قاله الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتِ لِلسُّفْلِ فَاسْتُعْمِلَ الدَّرَجَاتُ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا.

.التَّاسِعُ: تَغْلِيبُ مَا وَقَعَ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا وَقَعَ بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيديكم} ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال نزاول بِهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بِالْوَاقِعِ بِالْأَيْدِي تَغْلِيبًا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ.
وَيُشَاكِلُهُ ما أنشده الغزنوي في (العامريات) لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ ** بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ

.الْعَاشِرُ: تَغْلِيبُ الأشهر:

كقوله تعالى: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} أَرَادَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْجِهَتَيْنِ قَالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ وَسَيَأْتِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ.

.فَائِدَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: جَمِيعُ بَابِ التَّغْلِيبِ مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَانِتِينَ مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا جَمِيعَ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.
الثَّانِيَةُ: الْغَالِبُ مِنَ التَّغْلِيبِ أَنْ يُرَاعَى الْأَشْرَفُ كَمَا سَبَقَ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَثْنِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ: أَبَوَانِ وَفِي تثنية المشرق والمغرب: المشرقان لِأَنَّ الشَّرْقَ دَالٌّ عَلَى الْوُجُودِ وَالْغَرْبَ دَالٌّ عَلَى الْعَدَمِ وَالْوُجُودُ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ، قَالَ:
لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ

أَرَادَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَغَلَّبَ الْقَمَرَ لِشَرَفِ التَّذْكِيرِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، يُرِيدُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي (الْمُحْكَمِ): إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ إِيثَارًا لِلْخِفَّةِ أَيْ غُلِّبَ الْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ لِأَنَّ لَفْظَ (عُمَرَ) مُفْرَدٌ وَلَفْظَ أَبِي بَكْرٍ مُرَكَّبٌ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ وَطُولِ الْمُدَّةِ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَغْلِيبَ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِالْعُمَرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالُوا يَوْمَ الْجَمَلِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب: سنة العمرين.

.الالتفات:

وفيه مباحث:

.الأول: في حقيقته:

وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ تَطْرِيَةً وَاسْتِدْرَارًا لِلسَّامِعِ وَتَجْدِيدًا لِنَشَاطِهِ وَصِيَانَةً لِخَاطِرِهِ مِنَ الْمَلَالِ وَالضَّجَرِ بِدَوَامِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عَلَى سَمْعِهِ كَمَا قِيلَ:
لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إِنْ كَانَتْ مُصَرَّفَةً ** إِلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ

قَالَ حَازِمٌ فِي (مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ): وَهُمْ يَسْأَمُونَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ فَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَلَاعَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِضَمِيرِهِ فَتَارَةً يَجْعَلُهُ تاء عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَارَةً يَجْعَلُهُ كافا فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مُخَاطَبًا وَتَارَةً يَجْعَلُهُ هَاءً فَيُقِيمُ نَفْسَهُ مَقَامَ الْغَائِبِ. فَلِذَلِكَ كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَوَالِي فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ لَا يُسْتَطَابُ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ نَقْلٌ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُتَنَقَّلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الأمر إلى الملتف عَنْهُ لِيَخْرُجَ نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ فَضَمِيرُ أَنْتَ الَّذِي هُوَ فِي أَكْرِمْ غَيْرُ الضمير في إليه.
واعلم أن للمتكلم وَالْخَطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَقَامَاتٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِالْتِفَاتَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهَا إِلَى الْآخَرِ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بالأول.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: إِمَّا ذَلِكَ وَإِمَّا التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا حَقُّهُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ.

.الْبَحْثُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِهِ:

وَهِيَ كَثِيرَةٌ:

.الْأَوَّلُ: الِالْتِفَاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ:

وَوَجْهُهُ حَثُّ السَّامِعِ وَبَعْثُهُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ حَيْثُ أَقْبَلَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ فضل عنايةوتخصيص بِالْمُوَاجَهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون}، الْأَصْلُ: (وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ) فَالْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مُنَاصَحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَ قَوْمِهِ تَلَطُّفًا وإعلاما أنه يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فِي مَقَامِ تَخْوِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ بِحَسْبِ حَالِهِمْ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ فَاطِرَهُ وَمُبْدِعَهُ ثم حذرهم بقوله: {وإليه ترجعون}.
لِذَا جَعَلُوهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ ترجعون} الخاطبين وَلَمْ يُرِدْ نَفْسَهُ وَيُؤَيِّدْهُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وَلَوْ أراد نفسه لقال: (نرجع).
وَأَيْضًا فَشَرْطُ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ و: (فطرني) (وإليه تُرْجَعُونَ) كَلَامٌ وَاحِدٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ المراد بقوله: (ترجعون) ظَاهِرَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ، لِأَنَّ رُجُوعَ العبد إلى مولاه ليس بمعنى أن يعبده غَيْرَ ذَلِكَ الرَّاجِعِ فَالْمَعْنَى: كَيْفَ أَعْبُدُ مَنْ إِلَيْهِ رُجُوعِي وَإِنَّمَا تُرِكَ (وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ) إِلَى (وإليه ترجعون) لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمْ.
وَمَعَ ذَلِكَ أَفَادَ فَائِدَةً حَسَنَةً وَهِيَ أَنَّهُ نَبَّهَهُمْ أَنَّهُمْ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ عِبَادَةِ مَنْ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ فَعَلَى هَذَا الْوَاوُ لِلْحَالِ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَاوُ الْعَطْفِ.
وَمِنْهُ قوله: {رحمة من ربك} عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {رَحْمَةً مِنَّا} إِلَى قَوْلِهِ: {رحمة من ربك} لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي رَحْمَتَهُ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعَبْدِهِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ رزق ربكم}.
وقوله: {ادعوا ربكم} {واعبدوا ربكم} وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مبينا ليغفر لك الله} وَلَمْ يَقُلْ: (لِنَغْفِرَ لَكَ) تَعْلِيقًا لِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ بِاسْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِسَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلِهَذَا عَلَّقَ بِهِ النَّصْرَ فَقَالَ: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عزيزا}.

.الثَّانِي: مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ:

وَوَجْهُهُ أَنْ يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا نَمَطُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ مِنَ السَّامِعِ حَضَرَ أَوْ غَابَ، وَأَنَّهُ فِي كَلَامِهِ لَيْسَ مِمَّنْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَوَجَّهُ فَيَكُونُ فِي الْمُضْمَرِ وَنَحْوِهِ ذَا لَوْنَيْنِ وَأَرَادَ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْغَيْبَةِ الْإِبْقَاءَ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ قَرْعِهِ فِي الْوَجْهِ بِسِهَامِ الْهَجْرِ فَالْغِيبَةُ أَرْوَحُ لَهُ وَأَبْقَى عَلَى مَاءِ وَجْهِهِ أَنْ يَفُوتَ كقوله: {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك} حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: (لَنَا) تَحْرِيضًا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليم}.
وقوله: {يا أيها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} إِلَى قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} ولم يقل: (بي) وله فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: دَفْعُ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَصَبِيَّةِ لَهَا، وَالثَّانِي: تَنْبِيهُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الِاتِّبَاعَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الِاتِّبَاعَ لِذَاتِهِ بَلْ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ.

.الثَّالِثُ: مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ:

كَقَوْلِهِ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا}، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِالْتِفَاتِ وَاحِدًا فَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ.

.الرَّابِعُ: مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فقد التفت عن {كنتم} إلى {جرين بهم} وَفَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى حِكَايَةِ حَالِهِمْ لِغَيْرِهِمْ لِتَعَجُّبِهِ مِنْ فِعْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ إِذْ لَوِ استمر على خطابهم لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلًا كَانَ مَعَ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} فَلَوْ قَالَ: (وَجَرَيْنَ بِكُمْ) لَلَزِمَ الذَّمُّ لِلْجَمِيعِ فَالْتَفَتَ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الذَّمِّ الْخَاصِّ بِبَعْضِهِمْ وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عنهم.
وقيل: لأنهم وقت الركوب حصروا لِأَنَّهُمْ خَافُوا الْهَلَاكَ وَتَقَلُّبَ الرِّيَاحِ فَنَادَاهُمْ نِدَاءَ الْحَاضِرِينَ ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ لَمَّا جَرَتْ بِمَا تَشْتَهِي النُّفُوسُ وَأَمِنَتِ الْهَلَاكَ لَمْ يَبْقَ حُضُورُهُمْ كَمَا كَانَ عَلَى مَا هِيَ عَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا أَمِنَ غَابَ فَلَمَّا غَابُوا عِنْدَ جريه بريح طيبة فكرهم الله بصيغة الغيبة فقال: {وجرين بهم}.
وقوله: {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} ثُمَّ قَالَ: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} فَانْتَقَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَلَوْ رُبِطَ بِمَا قَبْلَهُ لَقَالَ: (يُطَافُ عَلَيْكُمْ) لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَا مُخْبَرٌ ثُمَّ التفت فقال: {وأنتم فيها خالدون} فَكَرَّرَ الِالْتِفَاتَ.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}.
وَقَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الراشدون}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم} وَالْأَصْلُ (فَقَطَّعْتُمْ) عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَكِنْ عَدَلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقِيلَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَعَى عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ في دين الله لم!.
وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى} وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ فَلَا الْتِفَاتَ.

.الْخَامِسُ: مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ:

كَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدنيا}.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدا}.
وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فسقناه} وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ.
سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ إِحْيَاءً لِلْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ وَأَفْخَمُ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الآية منها ما أخبر به سبحانه بسببه وهو سوق السحاب فإنه يسوق الرِّيَاحِ فَتَسُوقُهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِهِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِهِ وَسَائِرُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ. وَعَادَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا بِنُونِ التَّعْظِيمِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ جُنْدًا وَخَلْقًا قَدْ سَخَّرَهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ إِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا جِبْرِيلُ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}.
وأما إرسال السحاب فهو سحاب يَأْذَنُ فِي إِرْسَالِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَبَبًا بِخِلَافِ سَوْقِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ فَإِنَّهُ قَدْ ذكر أسبابه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مختلفا ألوانها} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ: فِي سُورَةِ طه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا من نبات شتى}: وَزَعَمَ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْتِفَاتًا وجعل قوله: {وأنزل من السماء ماء} آخِرَ كَلَامِ مُوسَى ثُمَّ ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَوْصَافِهِ لِمُعَالَجَتِهَا.
وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْقُدْرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ واحد وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى حِكَايَةِ الْحَالِ وَاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَكَذَا يَفْعَلُونَ لِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَخُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ أَوْ تُهِمُّ المخاطب وإنما قال: {فتصبح الأرض مخضرة} لِإِفَادَةِ بَقَاءِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ.
وَمِثْلُهُ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}، عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي (قَضَاهُنَّ) وَ: (سَوَّاهُنَّ) إلى التكلم في قوله: {وزينا}، فَقِيلَ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكَوْكَبَ زِينَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَحِفْظًا تَكْذِيبًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَجْهُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ خَلْقُ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعْلُ الرَّوَاسِي مِنْ فَوْقِهَا وَإِلْقَاءُ الْبَرَكَةِ فِيهَا وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ فِي تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَأَنَّهُ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ فَأَتَى فِي هَذَا النَّوْعِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ عَطْفًا عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أإنكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رواسي} إلى قوله: {فقضاهن سبع سماوات} الْآيَةَ.
وَالثَّانِي: قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُدَّةِ خَلْقِهِ وَهُوَ تَزْيِينُ سَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعْلُهَا حِفْظًا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بَيَانَ مُدَّةِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ نَوْعَ الْأَوَّلِ يَتَضَمَّنُ إِيجَادًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا تَزْيِينُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْمَصَابِيحِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ مُدَّةِ خَلْقِ النُّجُومِ فَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إلى التكلم فقال: {زينا}.