فصل: التَّجْرِيدُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.(الخامس): الِاسْتِعَارَةُ فَرْعُ التَّشْبِيهِ فَأَنْوَاعُهَا كَأَنْوَاعِهِ خَمْسَةٌ:

.الأول: استعارة حسي لحسي بوجه لحسي:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فَإِنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ هُوَ النَّارُ وَالْمُسْتَعَارَ لَهُ هُوَ الشَّيْبُ وَالْوَجْهُ هُوَ الِانْبِسَاطُ فَالطَّرَفَانِ حِسِّيَّانِ وَالْوَجْهُ أَيْضًا حِسِّيٌّ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّشْبِيهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ بِهِ مَعَ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الِاشْتِعَالُ.
وَقَوْلِهِ: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض}، أَصْلُ الْمَوْجِ حَرَكَةُ الْمِيَاهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي حَرَكَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ.

.الثَّانِي: حِسِّيٍّ لِحِسِّيٍّ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الرِّيحُ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ وَهُمَا حِسِّيَّانِ وَالْوَجْهُ الْمَنْعُ مِنْ ظُهُورِ النَّتِيجَةِ وَالْأَثَرِ وَهُوَ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ.
قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَقِيمَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ لَا اسْمٌ لَهَا وَلِهَذَا جُعِلَ صِفَةً لِلرِّيحِ لَا اسْمًا وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ مَا فِي الْمَرْأَةِ مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْحَبَلِ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ مَا فِي الرِّيحِ مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِنْشَاءِ مَطَرٍ وإلقاح شجر (والجامع لهما ما ذكر).
وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالْعِنَايَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعَقِيمِ ذكرها السكاكي بلفظ ما صدق عليه.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ منه النهار}، الْمُسْتَعَارُ لَهُ ظُلْمَةُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ ظُهُورُ الْمَسْلُوخِ عِنْدَ جِلْدَتِهِ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ وَهُوَ تَرَتُّبُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}، أَصْلُ الْحَصِيدِ النَّبَاتُ وَالْجَامِعُ الْهَلَاكُ وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ.

.الثَّالِثُ: مَعْقُولٌ لِمَعْقُولٍ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ بعثنا من مرقدنا هذا}، فَالرُّقَادُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ وَهُمَا أَمْرَانِ مَعْقُولَانِ وَالْوَجْهُ عَدَمُ ظُهُورِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ عَقْلِيٌّ وَالِاسْتِعَارَةُ تَصْرِيحِيَّةٌ لِكَوْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَذْكُورًا.
وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا سَكَتَ عن موسى الغضب} الْمُسْتَعَارُ السُّكُوتُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْغَضَبُ، وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّاكِتُ، وَهَذِهِ أَلْطَفُ الِاسْتِعَارَاتِ لِأَنَّهَا اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَعْقُولٍ لِمُشَارَكَتِهِ فِي أَمْرٍ مَعْقُولٍ.

.الرَّابِعُ: مَحْسُوسٌ لمعقول:

كقوله تعالى: {مستهم البأساء والضراء} أَصْلُ التَّمَاسِّ فِي الْأَجْسَامِ فَاسْتُعِيرَ لِمُقَاسَاةِ الشِّدَّةِ وَكَوْنُ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ حِسِّيًّا وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ عَقْلِيًّا وَكَوْنُهَا تَصْرِيحِيَّةً ظَاهِرٌ وَالْوَجْهُ اللُّحُوقُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ.
وَقَوْلِهِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} قالقذف وَالدَّمْغُ مُسْتَعَارَانِ.
وَقَوْلِهِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ من الناس} وقوله: {فنبذوه وراء ظهورهم}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فأعرض عنهم} وَكُلُّ خَوْضٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَلَفْظُهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْمَاءِ.
وَقَوْلِهِ: {فَاصْدَعْ بما تؤمر} اسْتِعَارَةٌ لِبَيَانِهِ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَظُهُورِ مَاءٍ فِي الزُّجَاجَةِ عِنْدَ انْصِدَاعِهَا.
وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بنيانه}، الْبُنْيَانُ مُسْتَعَارٌ وَأَصْلُهُ لِلْحِيطَانِ.
وَقَوْلِهِ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} الْعِوَجُ مُسْتَعَارٌ.
وَقَوْلِهِ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ مستعار.
وقوله: {فجعلناه هباء منثورا}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} الْوَادِي مُسْتَعَارٌ وَكَذَلِكَ الْهَيَمَانُ وَهُوَ عَلَى غَايَةِ الْإِيضَاحِ.
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}.

.الخامس: استعارة معقول لمحسوس:

{إنا لما طغا الماء} الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ التَّكَبُّرُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْمَاءُ وَالْجَامِعُ الِاسْتِعْلَاءُ الْمُفْرِطُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرصر عاتية} الْعُتُوُّ هَاهُنَا مُسْتَعَارٌ.
وقوله: {تكاد تميز من الغيظ} فَلَفْظُ الْغَيْظِ مُسْتَعَارٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مبصرة} فَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ مُضِيئَةٍ.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أوزارها}.
وَمِنْهَا الِاسْتِعَارَةُ بِلَفْظَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوَارِيرَ مِنْ فضة} يَعْنِي تِلْكَ الْأَوَانِي لَيْسَ مِنَ الزُّجَاجِ وَلَا مِنَ الْفِضَّةِ بَلْ فِي صَفَاءِ الْقَارُورَةِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْفَارِسِيِّ جَعْلُهُ مِنَ التَّشْبِيهِ.
وَمِثْلُهُ: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}، يُنْبِي عَنِ الدَّوَامِ وَالسَّوْطُ يُنْبِي عَنِ الْإِيلَامِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَعْذِيبَهُمْ عَذَابًا دَائِمًا مؤلما.

.التَّوْرِيَةُ:

وَتُسَمَّى الْإِيهَامُ وَالتَّخْيِيلُ وَالْمُغَالَطَةُ وَالتَّوْجِيهُ، وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ: قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَيُرِيدُ الْمَعْنَى الْبَعِيدَ يُوهِمُ السَّامِعَ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَرِيبَ مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمُ والشجر يسجدان}، أَرَادَ بِالنَّجْمِ النَّبَاتَ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْكَوْكَبَ لَا سِيَّمَا مَعَ تَأْكِيدِ الْإِيهَامِ بِذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وهو قائم يصلي في المحراب} والمراد المعرفة.
وقوله: {وجوه يومئذ ناعمة} أَرَادَ بِهَا فِي نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ النُّعُومَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بأيد} أَرَادَ بِالْأَيْدِ الْقُوَّةَ الْخَارِجَةَ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مخلدون}، أَيْ مُقَرَّطُونَ تُجْعَلُ فِي آذَانِهِمِ الْقِرَطَةُ وَالْحَلَقُ الَّذِي فِي الْأُذُنِ يُسَمَّى قُرْطًا وَخَلَدَةً وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنَ الْخُلُودِ.
وَقَوْلُهُ: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عرفها لهم} أَيْ عَلَّمَهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِيهَا أَوْ يُوهِمُ إِرَادَةَ الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ من الجوارح مكلبين}.
وَقَوْلُهُ: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} فَذَكَرَ (رِضْوَانٍ) مَعَ (الْجَنَّاتِ) مِمَّا يُوهِمُ إِرَادَةَ خازن الجنات.
وكان الأنصار يقولون: {راعنا} أي أرعنا سمعنا وَانْظُرْ إِلَيْنَا وَالْكُفَّارُ يَقُولُونَهَا (فَاعِلٌ) مِنَ الرُّعُونَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَلَمَّا عُوتِبُوا قَالُوا: إِنَّمَا نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهو الولي الحميد} فقوله: (الولي) هو من أسماء الله وَمَعْنَاهُ الْوَلِيُّ لِعِبَادِهِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَقَوْلُهُ: (الْحَمِيدُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ (حَامِدٍ) لِعِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ أَوْ (مَحْمُودٍ) فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ وَهُوَ مَطَرُ الرَّبِيعِ وَالْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْغَيْثِ.
وَقَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فأنساه الشيطان ذكر ربه}، فَإِنَّ لَفْظَةَ (رَبِّكَ) رَشَّحَتْ لَفْظَةَ (رَبِّهِ) لِأَنْ يكون تَوْرِيَةً إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْإِلَهَ سُبْحَانَهُ وَالْمَلِكَ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذكر ربه} ولم تَدُلَّ لَفْظَةُ رَبِّهِ إِلَّا عَلَى الْإِلَهِ فَلَمَّا تقدمت لفظة (ربك) احتمل المعنيين.

.تنبيه: (في الفرق بين التورية والاستخدام):

كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام والفراق بينهما أن التورية استعمال الْمَعْنَيَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِعْمَالُهُمَا مَعًا بِقَرِينَتَيْنِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إِنِ اسْتُعْمِلَ فِي مَفْهُومَيْنِ معا فهو والاستخدام وَإِنْ أُرِيدَ أَحَدُهُمَا مَعَ لَمْحِ الْآخَرِ بَاطِنًا فَهُوَ التَّوْرِيَةُ.
وَمِثَالُ الِاسْتِخْدَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فَإِنَّ لَفْظَةَ (كِتَابٌ) يُرَادُ بِهَا الْأَمَدُ الْمَحْتُومُ وَالْمَكْتُوبُ وَقَدْ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ لَفْظَتَيْنِ فَاسْتَخْدَمَتْ أَحَدَ مَفْهُومَيْهَا وَهُوَ الْأَمَدُ وَاسْتَخْدَمَتْ (يَمْحُو) الْمَفْهُومَ الْآخَرَ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جنبا إلا عابري سبيل} فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَمِلُ إِرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَتَحْتَمِلُ إرادة موضعها فقوله: {حتى تعلموا} اسْتَخْدَمَتْ إِرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا عَابِرِي سبيل}، اسْتَخْدَمَتْ إِرَادَةَ مَوْضِعِهَا.

.التَّجْرِيدُ:

وَهُوَ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ فِي الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ مَعْنًى آخَرَ كَأَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ فَتُخْرِجَ ذَلِكَ إِلَى أَلْفَاظِهِ بِمَا اعْتَقَدْتَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ لَئِنْ لَقِيتَ زَيْدًا لَتَلْقَيَنَّ مَعَهُ الْأَسَدَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ مِنْهُ الْبَحْرَ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ أَسَدًا وَبَحْرًا وَهُوَ عَيْنُهُ هُوَ الْأَسَدُ وَالْبَحْرُ لَا أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأولي الألباب}، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِي الْعَالَمِ مِنْ نَفْسِهِ آيَاتٍ وَهُوَ عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ تِلْكَ الْآيَاتُ.
وَكَقَوْلِهِ تعالى: {واعلم أن الله عزيز حكيم}، وَإِنَّمَا هَذَا نَابَ عَنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنِّي عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذلك لذكرى لمن كان له قلب}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أسوة حسنة}.
وقوله: {لهم فيها دار الخلد}، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا دَارُ خُلْدٍ وَغَيْرُ دَارِ خُلْدٍ بَلْ كُلُّهَا دَارُ خُلْدٍ فَكَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ: فِي الْجَنَّةِ دَارُ الْخُلْدِ اعْتَقَدْتَ أَنَّ الْجَنَّةَ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى دَارِ نَعِيمٍ وَدَارِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَخُلْدٍ فَجَرَّدْتَ مِنْهَا هَذَا الْوَاحِدَ كَقَوْلِهِ:
وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ تُنْصِفُوا حُكْمٌ عَدْلُ

وَقَوْلُهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي}، على أحد.
التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ مَيِّتَةً وَهُوَ حَيٌّ وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ لَفْظَةَ الْإِخْرَاجِ فِي تَنَقُّلِ النُّطْفَةِ حَتَّى تَكُونَ رَجُلًا إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَغْيِيرِ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ فِي صَبِيٍّ جَيِّدِ الْبِنْيَةِ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ قَوِيٌّ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {ومخرج الميت من الحي} أَيِ الْحَيَوَانُ كُلُّهِ مَيِّتَةٌ ثُمَّ يُحْيِيهِ قَالَ وَهُوَ مَعْنَى التَّجْرِيدِ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ قَرَأَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَتْ وردة كالدهان} بالرفع بمعنى حصلت منها (سماء) وردة قال وهو من التجريد.
وقرأ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {يَرِثُنِي ويرث من آل يعقوب}، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي مِنْهُ وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَهُوَ الْوَارِثُ نَفْسُهُ فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنْهُ وَارِثًا.