فصل: الْقِسْمُ الثَّانِي عَشَرَ: إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْوَاحِدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْقِسْمُ الثَّانِي عَشَرَ: إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْوَاحِدِ:

كَقَوْلِهِ: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ في غمرتهم حتى حين} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
وَمِثْلُهُ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ وَهَذَا مِمَّا لَا شَرِيكَ فِيهِ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجْرِي عَلَى أَيْدِي خَلْقِهِ نُزِّلَتْ أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ قَبُولِ الْقَوْلِ بِمَوْرِدِ الْجَمْعِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} والرسول كان واحدا بدليل قوله تعالى: {ارجع إليهم}.
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مُخَاطَبَةَ رئيسهم فإن العادة جارية لاسيما مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا.
وَمِنْهُ: {فَفَرَرْتُ منكم لما خفتكم} وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ الْمُخَاطَبَاتِ.
ومنه: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} وَالْمُرَادُ جِبْرِيلُ.
وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى ما آتاهم الله من فضله} وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {الذين قال لهم الناس} وَالْمُرَادُ بِهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِنَّمَا.
جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ (النَّاسِ) عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ حَسُنَ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الكل قال الله تعالى: {إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} {وإذ قلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وَالْقَائِلُ ذَلِكَ رُءُوسُهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ دَسَّهُمْ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جُعْلًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا.

.الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثم ارجع البصر كرتين} فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ فَهُوَ جَمْعٌ وَالْمَعْنَى (كَرَّاتٌ) لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحْسَرُ إِلَّا بِالْجَمْعِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الطلاق مرتان}.

.الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّكْرَارُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ:

وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّرَ إِذَا رَدَّدَ وَأَعَادَ هُوَ (تَفْعَالٌ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ بِخِلَافِ التَّفْعِيلِ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مَصْدَرُ (فَعَّلَ) وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ فِي التَّفْعِيلِ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ.
وَقَدْ غَلِطَ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ ظَنًّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَلَيْسَ كذلك بل هو من محاسنها لاسيما إِذَا تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ فِي خِطَابَاتِهَا إِذْ أَبْهَمَتْ بِشَيْءٍ إِرَادَةً لِتَحْقِيقِهِ وَقُرْبَ وُقُوعِهِ أَوْ قَصَدَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَرَّرَتْهُ تَوْكِيدًا وَكَأَنَّهَا تُقِيمُ تَكْرَارَهُ مَقَامَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَوْ الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ حَيْثُ تَقْصِدُ الدُّعَاءَ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ وَكَانَتْ مُخَاطَبَاتُهُ جَارِيَةً فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ تَسْتَحْكِمُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَعَلَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَلَا يَقْمَعُ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرَارُ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} قَالَ فِي (الْكَشَّافِ) أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلِادِّكَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِأَنْ نَسَجْنَاهُ بِالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ التَّكْرَارُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قدر}.
وَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
وَقَوْلِهِ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}.
وقوله: {كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون}.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هو من عند الله}.
وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الذين من قبلكم بخلاقهم}.
وَفَائِدَتُهُ الْعُظْمَى التَّقْرِيرُ وَقَدْ قِيلَ الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْأَخْبَارَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وَقَالَ: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أو يحدث لهم ذكرا}.
وَحَقِيقَتُهُ إِعَادَةُ اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنًى خَشْيَةَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ لِطُولِ الْعَهْدِ بِهِ.
فَإِنْ أُعِيدَ لَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْنَى السَّابِقِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ من دونه}.
فَأَعَادَ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ ديني} قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} لَا لِتَقْرِيرٍ الْأَوَّلِ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهَا وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ يَخُصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي الثَّانِي.
وَأَخَّرَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ وَثَانِيًا فِيمَنْ فُعِلَ لِأَجْلِهِ الْفِعْلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ سُؤَالُ الْحِكْمَةِ عَنِ التَّكْرَارِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ أَمَّا إِذَا وَافَقَ الْأَصْلَ فَلَا وَلِهَذَا لَا يَتَّجِهُ سُؤَالُهُمْ لِمَ كَرَّرَ (إِيَّاكَ) فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فَقِيلَ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا تَقُولُ (بين زبد وَبَيْنَ عَمْرٍو مَالٌ).
وَقِيلَ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِارْتِفَاعِ أَنْ يُتَوَهَّمَ إِذَا حُذِفَتْ أَنَّ مَفْعُولَ (نَسْتَعِينُ) ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفِعْلِ فَتَفُوتُ إِذْ ذَاكَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ لِأَنَّ هُنَا عَامِلَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَعْمُولًا فَإِذَا ذُكِرَ مَعْمُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَقَدْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ ذِكْرِ مَا الْأَصْلُ ذِكْرُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تكلف الجواب عنه وقس بذلك نظائره.

.فوائد التكرير:

وَلَهُ فَوَائِدُ:
أَحَدُهَا: التَّأْكِيدُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْرِيرَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي تَكْرَارِ التَّأْسِيسِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يُقَرِّرُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَعَدَمَ التَّجَوُّزِ فَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إِنَّ الثَّانِيَةَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَةَ أَبْلَغَ فِي الْإِنْشَاءِ فَقَالَ: وَفِي {ثُمَّ} تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الأول.
وكذا قوله: {ما أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ ما يوم الدين} وَقَوْلُهُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قدر} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ: هَلْ هُوَ إِنْذَارُ تَأْكِيدٍ أو إنذاران؟ إن قُلْتَ: (سَوْفَ تَعْلَمُ ثُمَّ سَوْفَ تَعْلَمُ) كَانَ أَجْوَدُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَطْفٍ لِتُجْرِيَهُ عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ التَّأْكِيدِ وَلِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِتَعَدُّدِ الْمُخْبَرِ بِهِ.
وَأَطْلَقَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ (الْخُلَاصَةِ) أَنَّ الْجُمْلَةَ التَّأْكِيدِيَّةَ قَدْ تُوصَلُ بِعَاطِفٍ وَلَمْ تَخْتَصَّ بِثُمَّ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ وَالِدِهِ التَّخْصِيصَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتقوا الله} فَإِنَّ الْمَأْمُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَرَجَّحُوا ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ (التَّقْوَى) الْأُولَى مَصْرُوفَةً لِشَيْءٍ غَيْرِ (التَّقْوَى) الثَّانِيَةِ مَعَ شَأْنِ إِرَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ فَمُرَادُهُمْ تَأْكِيدُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرِيرِ الْإِنْشَاءِ لَا أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ وَلَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لَمَا فُصِلَ بِالْعَطْفِ وَلَمَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: {وَلْتَنْظُرْ نفس}.
فَإِنْ قُلْتَ: (اتَّقُوا) الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى (وَلْتَنْظُرْ).
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ: {وَقُولُوا للناس حسنا} قولوا للناس حسنا معطوف على: {لا تعبدون إلا الله} لا على قوله: {وبالوالدين إحسانا} وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العالمين} وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هداكم} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (اصْطِفَاءَيْنِ) وَ: (ذِكْرَيْنِ) وَهُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ طُلِبَ فِيهِ تَكْرَارُ الذِّكْرِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {كي نسبحك كثيرا وَنَذْكُرُكَ كَثِيرًا} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} كَرَّرَ (أُولَئِكَ).
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون}.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بالذي} إلى قوله: {من المصلحين} كررت (أن) في أربع مواضيع تَأْكِيدًا.
وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أول المسلمين}.
الثَّانِي: زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ.
تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: إِذَا طَالَ الْكَلَامُ وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ أُعِيدَ ثَانِيًا تَطْرِيَةً لَهُ وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ من بعدها لغفور رحيم}.
وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بعد ما فتنوا} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله} ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَمَّا لَا تَجِيءُ بِالْفَاءِ!.
وَمِثْلُهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ثم قال: {فلا تحسبنهم}.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ من بعدهم} ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}.
ومنه قوله: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهم لي ساجدين}.
وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وعظاما أنكم مخرجون} فقوله: {أنكم} الثاني بناء على الأول إذ كارا بِهِ خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هم غافلون}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {كذلك نجزي المحسنين}.
بِغَيْرِ {إِنَّا} وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ ذِكْرَ {إِنَّا كَذَلِكَ} لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَهُ في هذه القصة من قوله: {إنا كذلك} فكأنه طرح فِيمَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ أَوَّلًا عَنْ ذِكْرِهِ ثَانِيًا وَلِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالنِّسْبَةِ فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُونَ تَوْكِيدِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَهَذَا أُسْلُوبٌ غَرِيبٌ وَقَلَّ فِي الْقُرْآنِ وَجُودُهُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ تَقَدُّمِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ كَالْمُبْتَدَأِ وَحُرُوفِ الشَّرْطَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَيُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ أَمْرٍ مَحْذُورِ التَّنَاسِي.
وَقَدْ يَرِدُ مِنْهُ شَيْءٌ يَكُونُ بِنَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ بِأَنْ تَتَقَدَّمَ التَّفَاصِيلُ وَالْجُزْئِيَّاتُ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا التَّنَاسِي لِطُولِ الْعَهْدِ بِهَا بَنَى عَلَى مَا سَبَقَ بِهَا بِالذِّكْرِ الْجُمْلِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وكفرهم بآيات الله وقتلهم} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فَقَوْلُهُ (فَبِظُلْمٍ) بَيَانٌ لِذِكْرِ الْجُمْلِيِّ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَوْلِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ جُمْلِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّفَاصِيلِ مِنَ النَّقْضِ وَالْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غلف} وَالْقَوْلُ عَلَى مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ وَدَعْوَى قَتْلِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الِاعْتِرَاضِ بِهَا مَوْضِعَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قليلا} وقوله: {وما قتلوه وما صلبوه} إلى قوله: {شهيدا} وأنه لَمَّا ذَكَرَ بِالْبِنَاءِ جُمْلِيَّ الظُّلْمِ مِنْ قَوْلِهِ (فَبِظُلْمٍ) لِأَنَّهُ يَعُمُّ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ وينطوي عليه ذكر حينئد مُتَعَلِّقُ الْجُمْلِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} عَقِبَ الْبَاءِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَصْلِ حَقُّهُ أن بلى مَعْمُولَهُ فَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الذين هادوا حرمنا} هو متعلق بقوله: {فبظلم} وَقَدِ اشْتَمَلَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي عُدِّدَتْ بَعْدَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ الشَّيْءِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَذُكِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْأَوْلَى بِخُصُوصِ كُلٍّ وَاحِدٍ ثُمَّ ذُكِرَ الْعَامُّ الْمُنْطَوِي عَلَيْهَا فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ثُمَّ ذُكِرَتْ جُزْئِيَّاتٌ أُخَرَ بِخُصُوصِهَا فَتَرْكِيبُ الْأَسَالِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآيَةِ وَهُوَ التَّعْمِيمُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ ثُمَّ التَّخْصِيصُ بَعْدَ التَّعْمِيمِ ثُمَّ الْبِنَاءُ بَعْدَ الِاعْتِرَاضِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {عذابا أليما} فقوله: {ولولا رجال مؤمنون} إلى قوله: {بغير علم} هُوَ الْمُقْتَضَى الْأَوَّلُ الْمُتَقَدِّمِ وَقَوْلُهُ: {لَوْ تَزَيَّلُوا} هُوَ الْمُقْتَضَى الثَّانِي وَهُوَ الْبِنَاءُ لِأَنَّهُ الْمُذَكِّرُ بِالْمُقْتَضَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ (لَوْلَا) خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ أَوْرَدَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} وُرُودًا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ أُخِذَا مَعًا كَأَنَّهُمَا مُقْتَضًى مُنْفَرِدٌ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ وهو الشرط الماضي فقوله: {لو تزيلوا} بناء على قوله: {ولولا رجال} نَظَرَ فِي الْمُضَارَعَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعدها لغفور رحيم} فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَأَصْلَحُوا} وَيَكُونُ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ لَا تَكْرِيرًا.
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بالله من بعد إيمانه} ثم قال: {من شرح بالكفر صدرا}.
وقوله: {ولولا رجال مؤمنون} ثم قال: {لو تزيلوا} ونازعه العراق لِأَنَّ الْمُعَادَ فِيهِمَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَذَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ التَّكْرِيرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا.
الرَّابِعُ: فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} {القارعة ما الْقَارِعَةِ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أدراك ما ليلة الْقَدْرِ}.
وَقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}.
وَقَوْلِهِ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ المشأمة ما أصحاب المشأمة}.
وقوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب}.
الْخَامِسُ: فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَذِكْرُ (ثُمَّ) فِي الْمُكَرَّرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَإِنْ تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيرٌ بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ دَائِمًا.
السَّادِسُ: التَّعَجُّبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثم قتل كيف قدر} فَأُعِيدَ تَعَجُّبًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ الْغَرَضَ عَلَى حَدِّ قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ!.
السَّابِعُ: لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ ربكما تكذبان} فَإِنَّهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَا الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ فَكُلَّمَا ذَكَرَ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ النِّعَمِ طَلَبَ إِقْرَارَهُمْ وَاقْتَضَاهُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَصُوَرٌ شَتَّى.
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَكْرِيرِهَا عَدُّ النِّعَمِ وَاقْتِضَاءُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} وَأَيُّ نِعْمَةٍ هُنَا! وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ.
قِيلَ: إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ فِيمَا أَنْذَرَ بِهِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوبَاتِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ لِيَحْذَرُوهَا فَيَرْتَدِعُوا عَنْهَا نَظِيرُ أَنْعُمِهِ عَلَى مَا وَعَدَهُ وَبَشَّرَ مِنْ ثَوَابِهِ عَلَى طَاعَتِهِ لِيَرْغَبُوا فِيهَا وَيَحْرِصُوا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِأَنْ تَعْتَبِرَهُ بِضِدِّهِ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَقَابَلَا فِي ذَوَاتِهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي مَوْضِعِ النِّعَمِ بِالتَّوْقِيتِ عَلَى مِلَاكِ الْأَمْرِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الشُّعَرَاءِ:
وَالْحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَكَ بُؤْسُهَا ** فَهُوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ نَعِيمُهَا

وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِتَعْلَمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَوْ كَانَ عَائِدًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ أُرِيدَ بِهَا غَيْرَ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ.
قُلْتُ: إِنْ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ.
وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَوْجِيهِ الْعِدَّةِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً قَالَ الْكِرْمَانِيُّ جَاءَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُرِّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِأَنَّ سِتَّ عَشْرَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِنَانِ لِأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا رَاجِعَةٌ إِلَى النِّعَمِ وَالنِّقَمِ فَأَعْظَمُ النِّقَمِ جَهَنَّمُ وَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَجَاءَتْ سَبْعَةٌ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَبْوَابِ وَسَبْعَةٌ عَقِبَ كُلِّ نِعْمَةٍ ذَكَرَهَا لِلثَّقَلَيْنِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: نَبَّهَ فِي سَبْعٍ مِنْهَا عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى عِدَّةِ أُمَّهَاتِ النِّعَمِ وَأَفْرَدَ سَبْعًا مِنْهَا لِلتَّخْوِيفِ وَإِنْذَارًا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالسَّبْعِ الثَّوَانِي بِوَاحِدَةٍ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَنَاءِ حَيْثُ اتَّصَلَتْ بِقَوْلِهِ: {كل من عليها فان} فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ أُتْبِعَتْ بِثَمَانِيَةٍ فِي وَصْفِ الْجِنَانِ وَأَهْلِهَا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِهَا ثُمَّ بِثَمَانِيَةٍ أُخَرَ فِي وَصْفِ الْجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ دُونِ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِذَلِكَ أَيْضًا فَاسْتُكْمِلَتْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المراسلات عَشْرُ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ القصة وكل قصة مخالفة لصحابتها فَأَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَجَعَلَ لِلْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الثَّوَابِ وَيْلٌ وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ لِأَجْلِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ قَدْ يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحد.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فَذَلِكَ لِظُهُورِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْعَجَبُ مِنْ تَخَلُّفِ مَنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا مَعَ ظُهُورِهَا.
وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْأَكْثَرِ، فَدَلَّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى إِيمَانِ الْأَقَلِّ فَكَانَتِ الْعِزَّةُ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ وَهُمَا مُرَتَّبَتَانِ كَتَرْتِيبِ الْفَرِيقَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} الْآيَةَ، لِأَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ أَوَّلًا وَثَانِيًا عَلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَهَذَا أَقْرَبُ لِلْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَحَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فَإِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْإِلَهِيَّةِ للطائع والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية الْبَرْزَخِيَّةُ ثُمَّ الْحَشْرِيَّةُ كَمَا أَنَّ أَحْوَالَ الِاسْتِقْرَارِ بعد الجميع في الغايقة بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَفِي (ثُمَّ) دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَقِّي إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الزَّمَانُ مُرَتَّبًا فِي الْإِنْذَارِ عَلَى التَّكْرَارِ وَفِي الْمُنْذِرِ بِهِ عَلَى التَّنْوِيعِ.
وَمِنْهُ تَكْرَارُ: {فذوقوا عذابي ونذر} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها.
يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ تِكْرَارًا وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ الْحَسَنُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الكفار قالوا: نعبد إلهك شهرا ونعبك آلِهَتَنَا شَهْرًا فَجَاءَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ بَلْ هِيَ بِالْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ أَلْيَقُ وَذَلِكَ لأن قوله: {لا أعبد ما تعبدون}، أَيْ لَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلَهُ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عبدتم}، أَيْ وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْحَالِ مَا عبدتم في المستقبل {ولا أنتم عابدون} فِي الْحَالِ مَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ الْحَالُ وَالْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالُ وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ النَّفْيُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَحَذْفُ الْمَاضِي مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَتِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ تَقْدِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ وَقَوْلُكَ: لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَنَا فَاعِلُهُ، أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَفْعَلُهُ. فالجملة الفعلية نفي لإمكانه والاسمية لانصافه كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ في القبور}. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنَ الِاتِّصَافِ بِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمْ إِلَّا بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَفَرَّقَ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْيِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ ما عبدتم} وَقَالَ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ما أعبد} عَائِدٌ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَالَ لَا أعبد ما تعبدون بِالْمُضَارِعِ وَفِي الثَّانِي: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عبدتم} بِالْمَاضِي فَإِنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ الْمَاضِي فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ مَرَّةً مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ فَفِيهِ كمال.
بَرَاءَتِهِ وَدَوَامُهَا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ مَرَّةً بِخِلَافِ قوله: {لا أعبد ما تعبدون} فَإِنَّ النَّفْيَ مِنْ جِنْسِ الْإِثْبَاتِ وَكِلَاهُمَا مُضَارِعٌ يَظْهَرَانِ جُمْلَةً وَمُنْفَرِدًا.
وَمِنْهُ تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سورة البقرة1 لن الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنَّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ وَأَهْلُ النِّفَاقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا لَهُ لأنه كان أول نسخ نزل وكفارة قُرَيْشٍ قَالُوا نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتناوكانوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَتَهُمَا وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظلموا منهم} وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أَيْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يعلمون}، أَيْ يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون}.
وَقَالَ صَاحِبُ (الْيَنْبُوعِ):لَمْ يَبْلُغْنِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فيه شيء.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ: هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْوَعِيدِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (الْحِينُ) فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَ: (الْحِينُ) فِي هَاتَيْنِ يَوْمَ فَتْحِ مكة.
ومن فوائد قوله تعال في الأوليين: {وأبصرهم} وفي هاتين {وأبصر} أَنَّ الْأُولَى بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَتْلًا وَأَسْرًا وَهَزِيمَةً وَرُعْبًا فَمَا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ بهم قيل له: {وأبصرهم}، وَأَمَّا يَوْمُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ اقْتَرَنَ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمُ الْإِنْعَامُ بِتَأْمِينِهِمْ وَالْهِدَايَةُ إِلَى إِيمَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ وَفْقًا لِلتَّشَفِّي بِهِمْ بَلْ كَانَ فِي اسْتِسْلَامِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ لِعَيْنِهِ قُرَّةً وَلِقَلْبِهِ مَسَرَّةً فَقِيلَ لَهُ: {أَبْصِرْ}.
وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أَيْ يُبْصِرُونَ مَنَّكَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَمَنَّنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لهن}.
وللتكرار هنا فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَمَا لو ارتدت الزوجية قَبْلَ الدُّخُولِ يَحْرُمُ النِّكَاحُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِمَا فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّانِيَةَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفَيْنِ كَذَلِكَ الْمَانِعُ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْإِضْرَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَلْ إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ.
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ الْخَلْقِ وَمَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا سَبَقَ عَلَى طَرِيقِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى.
وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الرَّدِّ رَاجِعًا إِلَى الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أحلام بل افتراه بل هو شاعر}.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا وَلَكِنَّهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْقَضَى وَقْتُهُ وَأَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة}. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لما يذوقوا عذاب}.
وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ (الْكَافِيَةِ) أَنَّ (بَلْ) حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لغرض آخر لإبطال وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ وَبِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون}، فَأَضْرَبَ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمْ، وَأَبْطَلَ كَذِبَهُمْ.
وَقَوْلِهِ: {بل أنتم قوم عادون} أَضْرَبَ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ إِتْيَانِهِمُ الذُّكُورَ وَتَرْكِ الْأَزْوَاجِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله}.
فَالْأَوَّلُ لِلْمُطَلِّقِينَ وَالثَّانِي لِلشُّهُودِ، نَحْوَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن}، أَوَّلُهَا لِلْأَزْوَاجِ وَآخِرُهَا لِلْأَوْلِيَاءِ.
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْأَمْثَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وما يستوي الأحياء ولا الأموات}.
وَكَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ ثَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ)، قَالَ: (وَلِذَلِكَ أَخَّرَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ).
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ وَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوَاصِمِ: (ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةٍ، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي سَبْعِينَ آيَةٍ). انْتَهَى.
وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا لِفَائِدَةٍ خَلَتْ عنه في الموضع الآخر وهي أمور:
أحدها: أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ الْقِصَّةَ زَادَ فِيهَا شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّةَ فِي عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانًا فَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَيْسَ كُلَّ حَيَّةٍ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ أَنْ يُكَرِّرَ أَحَدُهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ أَوْ قَصِيدَتِهِ كَلِمَةً لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يُهَاجِرُ بعده آخرون يحكمون عَنْهُ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْأَوَّلِينَ وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِهِ مُهَاجِرِيًّا فَلَوْلَا تَكَرُّرُ الْقِصَّةِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسَى إِلَى قَوْمٍ وَقِصَّةُ عِيسَى إِلَى آخَرِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقِصَصِ فَأَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةُ الْقَوْمِ وَزِيَادَةُ تَأْكِيدٍ وَتَبْصِرَةٍ، لِآخَرِينَ وَهُمُ الْحَاضِرُونَ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وغيره.
الثَّالِثَةُ: تَسْلِيَتُهُ لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا اتَّفَقَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ مَعَ أُمَمِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل ما نثبت به فؤادك}.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِبْرَازَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ آيَةٍ لِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ).
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَخِرَ الْعَرَبُ بِالْقُرْآنِ قال: {فأتوا بسورة من مثله} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ}، فَلَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ مَثَلًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتَفَى بِهَا لَقَالَ الْعَرَبِيُّ بِمَا قَالَ الله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} إِيتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَأَنْزَلَهَا سُبْحَانَهُ فِي تَعْدَادِ السُّوَرِ دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ كَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا لَا تُغَايِرُ الْأُخْرَى فَقَدْ يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِهَا زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتِلْكَ حَالُ الْمَعَانِي الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تُخَالِفَ نَظِيرَتَهَا مِنْ نَوْعِ مَعْنًى زَائِدٍ فِيهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ ذِكْرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُ أَجْزَاءً ثُمَّ قَسَّمَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ عَلَى تَارَاتِ التَّكْرَارِ لِتُوجَدَ مُتَفَرِّقَةً فِيهَا وَلَوْ جُمِعَتْ تِلْكَ الْقِصَصُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَأَشْبَهَتْ مَا وُجِدَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ انْفِرَادِ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَعَانٍ عَجِيبَةٍ:
مِنْهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهَا مَعَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يُوقِعْ فِي اللَّفْظِ هُجْنَةً وَلَا أَحْدَثَ مَلَلًا فَبَايَنَ بِذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَلْبَسَهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَاحِدَةً بِأَعْيَانِهَا فَيَكُونُ شَيْئًا مُعَادًا فَنَزَّهَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْقِصَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ صَارَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي تَارَاتِ التَّكْرِيرِ فَيَجِدُ الْبَلِيغُ- لِمَا فِيهَا مِنَ التَّغْيِيرِ- مَيْلًا إِلَى سَمَاعِهَا لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ الَّتِي لِكُلٍّ مِنْهَا حِصَّةٌ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظْمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُونَ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْقِصَصِ وَالْأَنْبَاءِ مَعَ تَغَايُرِ أَنْوَاعِ النَّظْمِ وَبَيَانِ وُجُوهِ التَّأْلِيفِ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ مَرْدُودٌ إِلَى قُدْرَةِ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ نِهَايَةٌ وَلَا يَقَعُ عَلَى كَلَامِهِ عَدَدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلام والبحر يمده} الْآيَةَ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَقَاصِيصَ بَنِي إِسْرَئِيلَ وُجُوهًا مِنَ الْمَقَاصِدِ:
أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْوَحْيِ.
الثَّانِي: تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ كَالنَّجَاةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَفَرْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَتَفَجُّرِ الْحَجَرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ.
الثَّالِثُ إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِتَقْدِيمِ كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِ فغير بدع ما يعامله أخلافهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الرَّابِعُ تَحْذِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ.
وَهُنَا سُؤَالَانِ:
أَحَدُهُمَا مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكَرُّرِ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَوْقُهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ فِيهَا مِنْ تَشْبِيبِ النِّسْوَةِ بِهِ وَتَضَمُّنِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتُتِنَّ بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا وَأَرْفَعِهِمْ مِثَالًا فَنَاسَبَ عَدَمُ تَكْرَارِهَا لِمَا فيها من الإعضاء وَالسَّتْرِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ.
الثَّانِي أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سَائِرِ الْقِصَصِ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ.
الثَّالِثُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَاقَ قِصَّةَ يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي تَصْدِيرُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ في قصص سائر الأنبياء.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُمْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَرْيَمَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ.
وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ السُّوَرَ الْأُوَلَ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا نَصْرَ رُسُلِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ وَنِجَاءِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهَذِهِ السُّوَرُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ بَلْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْمُهُمْ وَلِهَذَا سُمِّيتْ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ فِيهَا إِكْرَامَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وبدأ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ كَرَامَتِهِ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمُ أَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَهُوَ أَبُ أَكْثَرِهِمْ وَلَيْسَ هُوَ أَبُ نُوحٍ وَلُوطٍ لَكِنْ لُوطٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَيُّوبُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى في سورةالأنعام: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب}.
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فيها امتحانه للمؤمنين نصره لَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ وَذَكَرَ فِيهَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ صَبَرَ وَعَاقِبَةَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَالَ فِيهَا: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين}، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ، إِمَّا بِكَوْنِهِمْ غُلِبُوا وَذُلُّوا وَإِمَّا بِكَوْنِهِمْ أُهْلِكُوا وَلِهَذَا ذَكَرَ قِصَّةَ إِلْيَاسَ دُونَ غَيْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ إِهْلَاكَ قومه بل قال: {فكذبوه فإنهم لمحضرون}.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ إِلْيَاسَ وَهَذَا يَقْتَضِي عَذَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ وَإِلْيَاسُ الْمَعْرُوفُ بَعْدَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعْدَ مُوسَى لَمْ يُهْلِكِ الْمُكَذِّبِينَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَبَعْدَ نُوحٍ لَمْ يُهْلِكْ جَمِيعَ النَّوْعِ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ نَذِيرًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا وَفِي هَذَا ظُهُورُ بُرْهَانِهِ وَآيَاتِهِ حَيْثُ أَذَلَّهُمْ وَنَصَرَهُ {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فجعلناهم الأسفلين} وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي يُعَرِّضُ عَدُوَّهُ وَالْقَصَصُ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي قَتَلَ عَدُوَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ بَلْ هَاجَرَ وَتَرَكَهُمْ وَأُولَئِكَ الرُّسُلُ لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَهُوَ إِقَامَتُهُ فِيهِمْ وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ النَّازِلِ وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ لَمْ يُقِمْ فِيهِمْ بَلْ خَرَجَ عَنْهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرُّسُلِ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَتُوبُ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ كَمَا جَرَى لِقَوْمِ يُونُسَ فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ جِنْسِ وَاقِعَتِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ؟.
فَالْجَوَابُ: أَمَّا حَالَةُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَتْ إِلَى الرَّحْمَةِ أَمْيَلَ فَلَمْ يَسْعَ فِي هَلَاكِ قَوْمِهِ لَا بِالدُّعَاءِ وَلَا بِالْمَقَامِ وَدَوَامِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض من بعدهم}، وَكَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَطْلُبُونَ هَلَاكَ نَبِيِّهِمْ فَعُوقِبُوا وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ أَوْصَلُوهُ إِلَى الْعَذَابِ لَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا.
وَلَمْ يَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ العذاب إذ الدنيا ليس دَارُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَنْ أَرَادُوا عَدَاوَةَ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُهْلِكُوهُ فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ صُورَةَ الْهَلَاكِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ وَلَمْ يُهْلِكْ أَعْدَاءَهُ بَلْ أَخْزَاهُمْ وَنَصْرَهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَظْهَرَهُ حَتَّى صَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا ثُمَّ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا سَيِّدُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُهُ وَالْخَلِيلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَفِي طَرِيقِهِمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ذَنْبًا غَيْرَ الشِّرْكِ وَكَذَلِكَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَأَمَّا عَادٌ فَذَكَرَ عَنْهُمُ التَّجَبُّرَ وَعِمَارَةَ الدُّنْيَا وَقَوْمُ صَالِحٍ ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ مَدْيَنَ الظُّلْمَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَوْمُ لُوطٍ اسْتِحْلَالَ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمُ اسْتِحْلَالُ الْفَاحِشَةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعُقُوبَتِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ نُوحٍ خَيْرٌ يُرْجَى غَرِقَ الْجَمِيعُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ وَعَظِّمْ فَوَائِدَهُ وَتَدَبَّرْ حِكْمَتَهُ فَإِنَّهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَنْهَارِ مَعَ كُلِّ صِنْفٍ، وَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ، وَمِنْ لَبَنٍ، وَمَنْ خَمْرٍ، وَمِنْ عَسَلٍ.
لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْهَارُ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةً وَفِيمَا عَدَا الْمَاءِ مَجَازًا لِلتَّشْبِيهِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا مَعَ الْمَاءِ وَعَطَفَ الْبَاقِي عَلَيْهِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَفْرَدَ ذِكْرَ الْمَاءِ وَجَمَعَ الْبَاقِي صِيغَةً وَاحِدَةً؟ قِيلَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَجَمَعَ بَيْنَ مَحَامِلٍ مِنَ الْمَجَازِ مُخْتَلِفَةٍ فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.