فصل: تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ:

يَكْثُرُ فِي تَأْوِيلِهِ بِمُذَكَّرٍ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه} عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْوَعْظِ.
وَقَوْلِهِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً ميتا} عَلَى تَأْوِيلِ الْبَلْدَةِ بِالْمَكَانِ وَإِلَّا لَقَالَ: (مَيْتَةٌ).
وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا ربي} أَيِ الشَّخْصُ أَوِ الطَّالِعُ.
وَقَوْلِهِ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بينة من ربكم} أَيْ بَيَانٌ وَدَلِيلٌ وَبُرْهَانٌ.
وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عليهم مدرارا}.
وَإِنَّمَا يُتْرَكُ التَّأْنِيثُ كَمَا يُتْرَكُ فِي صِفَاتِ الْمُذَكَّرِ لَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مِعْطَارٌ لِأَنَّ السَّمَاءَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ مُذَكَّرٌ قَالَ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ** رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْمِيَةٍ وَسُمِّيٍّ قَالَ الْعَجَّاجُ:
تَلُفُّهُ الْأَرْوَاحُ وَالسُّمِّيُّ

وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إلى قوله: {فارزقوهم منه} ذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْقِسْمَةِ إِلَى الْمَقْسُومِ.
وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مما في بطونه} ذَهَبَ بِالْأَنْعَامِ إِلَى مَعْنَى النَّعَمِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قريب من المحسنين}، وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ذُكِّرَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْعَرَبَ تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَكَانِ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ قَرِيبَتِي مِنَ النَّسَبِ وَقَرِيبِي مِنَ الْمَكَانِ فَعَلُوا ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ قُرْبِ النَّسَبِ وَالْمَكَانِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا قَرُبَ مِنْ مَكَانٍ وَنَسَبٍ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ الْقُرْبَ مِنَ الْمَكَانِ قُلْتَ زَيْدٌ قَرِيبٌ مِنْ عَمْرٍو وَهِنْدٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْعَبَّاسِ فَكَذَا فِي النَّسَبِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذُكِّرَ (قَرِيبٌ) لِتَذْكِيرِ الْمَكَانِ أَيْ مَكَانًا قَرِيبًا. وَرَدَّهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَنُصِبَ (قَرِيبٌ) عَلَى الظَّرْفِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَقْتَضِيهِ فَحُمِلَ الْمُذَكَّرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغُفْرَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقِيلَ لِأَنَّهَا وَالرَّحِمَ سَوَاءٌ.
وَمِنْهُ: {وَأَقْرَبَ رحما} فَحَمَلُوا الْخَبَرَ عَلَى الْمَعْنَى وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هذا رحمة من ربي}.
وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ كَمَا لَا تُجْمَعُ لَا تُؤَنَّثُ.
وَقِيلَ: (قَرِيبٌ) عَلَى وَزْنِ (فَعِيلٌ) (وفعيل) يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ حَقِيقِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهِيَ رَمِيمٌ}.
وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَحْذُوفِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّ مَكَانَ رَحْمَةِ اللَّهِ قَرِيبٌ ثُمَّ حَذَفَ الْمَكَانَ وَأَعْطَى الرَّحْمَةَ إِعْرَابَهُ وَتَذْكِيرَهُ.
وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ أَيْ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَيْءٌ قَرِيبٌ أَوْ لَطِيفٌ أَوْ بِرٌّ أَوْ إِحْسَانٌ.
وَقِيلَ: مِنْ بَابِ إِكْسَابِ الْمُضَافِ حُكْمَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَالِحًا لِلْحَذْفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالثَّانِي وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ كَقَوْلِهِ:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ** أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ

فَقَالَ: تَسَفَّهَتْ وَالْفَاعِلُ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ تَأْنِيثًا مِنَ الرِّيَاحِ إِذِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ جَائِزٌ وَإِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا تُعْطِي الْمُضَافَ تَأْنِيثًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَلَأَنْ تُعْطِيَهُ تَذْكِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى لِأَنَّ التَّذْكِيرَ أَوْلَى وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهُ.
وَقِيلَ: مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لِكَوْنِ الْآخَرِ تَبَعًا لَهُ وَمَعْنًى من معاينة.
وَمِنْهُ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أعناقهم لها خاضعين} فَاسْتُغْنِيَ عَنْ خَبَرِ الْأَعْنَاقِ بِخَبَرِ أَصْحَابِهَا وَالْأَصْلُ هُنَا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَاسْتُغْنِيَ بِخَبَرِ الْمَحْذُوفِ عَنْ خَبَرِ الْمَوْجُودِ وَسَوَّغَ ظُهُورَ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَمَجَازَهَا الْوَقْتُ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {بريح صرصر عاتية} وَلَمْ يَقُلْ: (صَرْصَرَةٍ) كَمَا قَالَ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتية} لِأَنَّ الصَّرْصَرَ وَصْفٌ مَخْصُوصٌ بِالرِّيحِ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهَا فَأَشْبَهَ بَابَ (حَائِضٍ) وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ (عَاتِيَةٍ) فَإِنَّ غَيْرَ الرِّيحِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ يُوصَفُ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ به} فَفِي تَذْكِيرِ (مُنْفَطِرٌ) خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْفَرَّاءِ أَنَّ السَّمَاءَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ فَجَاءَ (مُنْفَطِرٌ) عَلَى التَّذْكِيرِ.
وَالثَّانِي: لِأَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ التَّاءُ مُفْرَدُهُ سَمَاءَةٌ وَاسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ نَحْوَ: {أعجاز نخل منقعر}.
وَالثَّالِثُ: لِلْكِسَائِيِّ أَنَّهُ ذُكِّرَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى السَّقْفِ.
وَالرَّابِعُ: لِأَبِي عَلِيٍّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ انْفِطَارٍ كَقَوْلِهِمْ امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ أَيْ ذَاتُ رِضَاعٍ.
وَالْخَامِسُ: لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ صِفَةٌ لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُذَكَّرٍ أَيْ شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ.
وَسَأَلَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ بِحَضْرَةِ الْمُتَوَكِّلِ قَوْمًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ قَادِمٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بغيا}: كيف جاء بغيرها.
وَنَحْنُ نَقُولُ: امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَاعِلُ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ (الْقَتِيلِ) الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى (الْمَفْعُولِ)؟ فَأَجَابَ ابْنُ قَادِمٍ وَخَلَطَ فَقَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: أَخْطَأْتَ قُلْ يَا بَكْرُ لِلْمَازِنِيِّ قَالَ: بَغِيٌّ لَيْسَ لِـ: (فَعِيلٍ) وَإِنَّمَا هُوَ (فَعُولٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ (بَغُويٌ) فَلَمَّا الْتَقَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وسبقت إحدهما بِالسُّكُونِ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَقِيلَ: (بَغِيٌّ) كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ صَبُورٌ بِغَيْرِ هَاءٍ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى صَابِرَةٍ فَهَذَا حُكْمُ فَعُولٍ إِذَا عَدَلَ عَنْ فَاعِلِهِ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ مَفْعُولِهِ جَاءَ بِالْهَاءِ كَمَا قَالَ.
مِنْهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً

بِمَعْنَى (مَحْلُوبَةٍ) حَكَاهُ التَّوْحِيدِيُّ فِي (الْبَصَائِرِ).
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {من يحيي العظام وهي رميم} وَلَمْ يَقُلْ: (رَمِيمَةٌ) لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلِهِ وَكُلَّمَا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ وَوَزْنِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ فَاعِلِهِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بغيا} أَسْقَطَ الْهَاءَ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ عَنْ (بَاغِيَةٍ).
وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إِنَّ الضَّمِيرَ فِي ذَلِكَ يَعُودُ لِلرَّحْمَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَ: (لِتِلْكَ) لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ ربي} وَلَمْ يَقُلْ (هَذِهِ) عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {إِلَّا من رحم} كَمَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ (يرحم) ويجوز رجوع الكتابة إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَ وَالتَّذْكِيرُ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَلِذَلِكَ خلقهم} كِنَايَةً عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَكَوْنِهِمْ فِيهِ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لِهَذَا خَلَقَهُمْ.
وَيُطَابِقُ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إلا ليعبدون}، قال: فأما قوله: {ولا يزالون مختلفين} فَمَعْنَاهُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ وَالذَّهَابُ عَنِ الْحَقِّ فيه.
بِالْهَوَى وَالشُّبُهَاتِ. وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ فِيهِ مَعْنًى غَرِيبًا فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ خَلَفَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ يَخْلُفُ سَلَفَهُمْ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ قَوْلُكَ: خَلَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَوْلُكَ اخْتَلَفُوا كما سواء قولك: قتل بعضهم بعضا وقولهم: اقْتَتَلُوا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا أَفْعَلُهُ مَا اخْتَلَفَ العصران، (والجديدان)، أَيْ جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْآخَرِ.
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لعبرة نسقيكم مما في بطونه}، فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ مِنْ بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَكَّرَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى يَعْنِي مَعْنَى النَّعَمِ وَقِيلَ: الْأَنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ الْبَعْضَ أَيْ مِنْ بُطُونِ أَيِّهَا كَانَ ذَا لَبَنٍ.
وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ تَذْكِيرَ الْأَنْعَامِ لَكِنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى النَّعَمِ.

.تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هم فيها} فَأَنَّثَ (الْفِرْدَوْسَ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَنَّةِ.
وَقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالها}، فَأَنَّثَ (عَشْرُ) حَيْثُ جُرِّدَتْ مِنَ الْهَاءِ مَعَ إِضَافَتِهِ إِلَى الْأَمْثَالِ وَوَاحِدُهَا مُذَكَّرٌ وَفِيهِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّثَ لِإِضَافَةِ الْأَمْثَالِ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَاتِ وَالْمُضَافُ يَكْتَسِبُ أَحْكَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فتكون كقوله: {يلتقطه بعض السيارة}.
وَالثَّانِي: هُوَ مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَمْثَالَ فِي الْمَعْنَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ لَا مَحَالَةَ فَلَمَّا أُرِيدَ تَوْكِيدُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُطِيعِ وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ شَيْءٌ مِنْ علمه كَأَنَّ الْحَسَنَةَ الْمُنْتَظَرَةَ وَاقِعَةٌ جُعِلَ التَّأْنِيثُ فِي أَمْثَالِهَا مُنَبِّهَةً عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ وَإِشَارَةً إِلَيْهِ كما جعلت الهاء في قولهم: رواية وَعَلَّامَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَعْنَى الْمُؤَنَّثِ الْمُرَادِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالنِّهَايَةُ وَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْمَثَلَ هُنَا تَوْكِيدًا لِتَصْوِيرِ الْحَسَنَةِ فِي نَفْسِ الْمُطِيعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا حُذِفَ وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ وَرُوعِيَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كَمَا يُرَاعَى الْمُضَافُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}، أَيْ أَوْ (كَذِي ظُلُمَاتٍ) وَرَاعَاهُ فِي قَوْلِهِ: {يغشاه موج}، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ.
وَأَمَّا ابْنُ جِنِّيٍّ فَذَكَرَ فِي (الْمُحْتَسِبِ) الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فهلا حملته.
عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: (فَلَهُ عَشْرُ حسنات وأمثالها)؟ قيل: حذف وإقامة الموصوف مَقَامَهُ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ فِي الْقِيَاسِ وَأَكْثَرُ مَا أَتَى فِي الشِّعْرِ وَلِذَلِكَ حُمِلَ {دَانِيَةً} مِنْ قوله: {ودانية عليهم ظلالها}، عَلَى أَنَّهُ وَصْفُ جَنَّةٍ أَوْ (وَجَنَّةً دَانِيَةً) عطف على (جنة) من قولهم: {وجزاهم بما صبروا جنة}، لَمَّا قَدَّرَ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةَ الصِّفَةِ مَقَامَهُ حَتَّى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك} فَكَانَتْ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى حَالٍ.
وَفِي (كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ) لِلْأَصْبِهَانِيِّ: حَذْفُ الْمَوْصُوفِ هُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى حُسْنَ (ثَلَاثَةِ مُسْلِمِينَ)، بحذف الموصوف.
وقوله تعالى حكاية عن لقمان: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة} فَأَنَّثَ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ لِـ: (مِثْقَالَ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَلَكِنْ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى (حَبَّةٍ) اكْتَسَبَ مِنْهُ التَّأْنِيثَ فَسَاغَ تَأْنِيثُ فِعْلِهِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أَنَّ التَّأْنِيثَ فِي (ذَائِقَةُ) بِاعْتِبَارِ مَعْنَى (كُلُّ) لِأَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْنِيثُ قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ نُفُوسٌ وَلَوْ ذَكَّرَ عَلَى لَفْظِ (كُلُّ) جَازَ يَعْنِي- أَنَّهُ لَوْ قِيلَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقٌ جَازَ.
وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ (كُلُّ) إِذَا كَانَتْ نَكِرَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْإِبْدَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكم}، فَذَكَّرَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى الْإِخْفَاءِ وَلَوْ قَصَدَ الصَّدَقَاتِ لَقَالَ: (فَهِيَ) وَإِنَّمَا أَنَّثَ (هِيَ) وَالَّذِي عَادَ إِلَيْهِ مُذَكَّرٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَإِبْدَاؤُهَا نِعْمَ مَا هِيَ كَقَوْلِهِ: الْقَرْيَةَ اسْأَلْهَا.
ومنه: {سعيرا} وهو مذكر، ثم قال: {إذا رأتهم} فَحَمَلَهُ عَلَى النَّارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}، فَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي اللَّفْظِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّمَا قَالَ: {خَلَقَهُنَّ}، بِالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ أُجْرِيَ عَلَى طَرِيقِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ وَلَمْ يُجْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ فِيمَا لَا يَعْقِلُ.
وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: {الذي خلقكم من نفس واحدة}: إِنَّ الْمُرَادَ آدَمُ فَأَنَّثَهُ رَدًّا إِلَى النَّفْسِ. وقد قرئ شَاذًّا (مِنْ نَفْسِ وَاحِدٍ).
وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ (اقْتَرَبَ) بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْمُبَرِّدِ، سُئِلَ عَنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، مِنْهَا: مَا الْفَرْقُ بين قوله تعالى: {جاءتها ريح عاصف} وقوله: {ولسليمان الريح عاصفة} وقوله: {أعجاز نخل خاوية} و: {كأنهم أعجاز نخل منقعر}، فَقَالَ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَلَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا وَلَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثًا وَهَذَا مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ تَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَتَارَةً يُلْحَظُ مَعْنَى الْجِنْسِ فَيُذَكَّرُ وَتَارَةً مَعْنَى الْجَمَاعَةِ فَيُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شعيب: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة}، وفي قصة صالح: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة}. وقال: {إن البقر تشابه علينا} وَقُرِئَ: (تَشَابَهَتْ).
وَأَبْدَى السُّهَيْلِيُّ لِلْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ مَعْنًى حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّمَا حُذِفَتْ مِنْهُ لِأَنَّ (الصَّيْحَةَ) فِيهَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ إِذْ كَانَتْ مُنْتَظِمَةً بقوله: {ومن خزي يومئذ} فَقَوِيَ التَّذْكِيرُ بِخِلَافِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا ذَلِكَ.
وَأَجَابَ غَيْرُهُ: بِأَنَّ الصَّيْحَةَ يُرَادُ بِهَا الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الصِّيَاحِ فَيَجِيءُ فِيهَا التَّذْكِيرُ فَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَحْدَةُ مِنَ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ التَّأْنِيثُ أَحْسَنَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْعَذَابِ الَّذِي أَصَابَ بِهِ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ كُلُّهَا مُفْرَدَةُ اللَّفْظِ:
أَحَدُهَا: الرَّجْفَةُ فِي قوله: {فأخذتهم الرجفة}.
وَالثَّانِي: الظُّلَّةُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة}.
وَالثَّالِثُ: الصَّيْحَةُ وَجَمَعَ لَهُمُ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ الرَّجْفَةَ بَدَأَتْ بِهِمْ فَأَصْحَرُوا فِي الْفَضَاءِ خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ عَلَيْهِمْ فَضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ بِحَرِّهَا وَرُفِعَتْ لَهُمُ الظُّلَّةُ فَهُرِعُوا إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنَ الشمس فنزل عليهم العذاب وفيه الصيحة فكان ذكر الصيحةمع الرَّجْفَةِ وَالظُّلَّةِ أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِ الصِّيَاحِ فَكَانَ ذِكْرُ التَّاءِ أَحْسَنَ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عليه الضلالة} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة}.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ:
أَمَّا اللَّفْظِيُّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْفِعْلِ والفاعل في قوله: {حق عليهم الضلالة}، أكثر منها في قوله: {حقت عليه الضلالة} وَالْحَذْفُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَوَاجِزِ أَحْسَنُ.
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ، فَهُوَ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حقت عليه الضلالة} رَاجِعَةٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا، بِدَلِيلِ {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا}، ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}، أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ وَلَوْ قَالَ: (ضَلَّتْ) لَتَعَيَّنَتِ التَّاءُ- وَالْكَلَامَانِ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا- فَكَانَ إِثْبَاتُ التَّاءِ أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِهَا لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيمَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُتَأَخِّرِ.
وَأَمَّا {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة}، فَالْفَرِيقُ مُذَكَّرٌ وَلَوْ قَالَ: (ضَلُّوا) لَكَانَ بِغَيْرِ تاء وقوله: {حق عليهم الضلالة} فِي مَعْنَاهُ، فَجَاءَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَهَذَا أُسْلُوبٌ لطيف من أساليب العرب أن يدعو حُكْمَ اللَّفْظِ الْوَاجِبِ فِي قِيَاسِ لُغَتِهِمْ إِذَا كَانَ فِي مُرَكَّبِهِ كَلِمَةٌ لَا يَجِبُ لَهَا حُكْمُ ذَلِكَ الْحُكْمِ.