فصل: قَاعِدَةٌ نَحْوِيَّةٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَنْبِيهٌ: (في الجموع):

جَمْعُ التَّكْسِيرِ يَشْمَلُ أُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ وَجَمْعُ السَّلَامَةِ يَخْتَصُّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بأولى الْعِلْمِ وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِهِمْ فَبِحُكْمِ الْإِلْحَاقِ وَالتَّشْبِيهِ كَقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}، وَعَلَى هَذَا فَأَشْرَفُ الْجَمْعَيْنِ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَمَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مِنْ مُذَكَّرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ قَدْ يُتْبَعُ بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَةِ مُؤَنَّثَةً بِالتَّاءِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْخَبَرِ تَقُولُ: حُقُوقٌ مَعْقُودَةٌ وَأَعْمَالٌ مَحْسُوبَةٌ قَالَ تَعَالَى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مبثوثة}.
وقال: {أياما معدودة}.
وَقَدْ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي غَيْرِ الْمُفْرَدِ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ إِلَّا أَنَّهُ فَصِيحٌ وَمِنْهُ {واذكروا الله في أيام معدودات}.

.قَاعِدَةٌ نَحْوِيَّةٌ:

نُونُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي جَمْعِ العلاقات سَوَاءٌ الْقِلَّةُ كَالْهِنْدَاتِ أَوِ الْكَثْرَةُ كَالْهُنُودِ فَتَقُولُ الْهِنْدَاتُ يَقُمْنَ وَالْهُنُودُ يَقُمْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يرضعن}: {والمطلقات يتربصن} هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بالإفراد قال تعالى: {وأزواج مطهرة} وَلَمْ يَقُلْ مُطَهَّرَاتٌ.
وَأَمَّا جَمْعُ غَيْرِ الْعَاقِلِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
إِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَتَيْتَ بِضَمِيرِهِ مفردا فقلت الجذوع انكسرت وإن كان القلة أتيت جَمْعًا وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتاب الله} إلى أن قال {منها أربعة حرم} فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا يَعُودُ إِلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُنَّ ثُمَّ قال سبحانه {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} فَهَذَا عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السِّرُّ فِي هَذَا حَيْثُ كَانَ يُؤْتَى مَعَ الْكَثْرَةِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَمَعَ الْقِلَّةِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهَلَّا عَكَسَ قُلْنَا ذَكَرَ الْفَرَّاءُ لَهُ سِرًّا لَطِيفًا فَقَالَ لَمَّا كَانَ الْمُمَيَّزُ مَعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَاحِدًا وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ وَاحِدًا وهو أندرهم وَأَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فَمُمَيَّزُهُ جَمْعٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ ثلاثة دراهم أربعة دراهم وهكذا إلى العشر تَمْيِيزُهُ جَمْعٌ فَلِهَذَا أَعَادَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ جَمْعًا وَإِفْرَادًا وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {سَبْعَةُ أبحر} فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ وَلَمْ يَقُلْ بُحُورٌ لِتُنَاسِبَ نَظْمَ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ فِي إِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَأَضَافَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْقُرُوءِ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ قَالَ الْحَرِيرِيُّ الْمَعْنَى لِتَتَرَبَّصَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَلَمَّا أَسْنَدَ إِلَى جَمَاعَتِهِنَّ وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةٌ أَتَى بِلَفْظِ قُرُوءٍ لِتَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُرَادَةِ وَالْمَعْنَى الْمَلْمُوحِ.

.قَاعِدَةٌ فِي الضَّمَائِرِ:

وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي بَيَانِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُجَلَّدَيْنِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: لِلْعُدُولِ إِلَى الضَّمَائِرِ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا وَهُوَ أَصْلُ وَصْفِهَا لِلِاخْتِصَارِ وَلِهَذَا قَامَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وأجرا عظيما} مقام خمسة وعشرين لَوْ أَتَى بِهَا مُظْهَرَةً.
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيٍّ أَنَّهُ لَيْسَ في كتاب آيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمَائِرَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا وَقَدْ قِيلَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا مَا بَيْنَ ضَمِيرٍ وَظَاهِرٍ وَمِنْهَا الْفَخَامَةُ بِشَأْنِ صَاحِبِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة الْقَدْرِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قلبك} وَمِنْهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.
وَمِنْهَا: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مبين} يَعْنِي الشَّيْطَانَ وَقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حيث لا ترونهم} {إنه ظن أن لن يحور}.
الثَّانِي: الْأَصْلُ أَنْ يُقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، بِدَلِيلِ الْأَكْثَرِيَّةِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بعضهم} فَأَخَرَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ.
وَقَدْ قَسَّمَ النَّحْوِيُّونَ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ إِلَى أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصْلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ نَحْوُ: {وعصى آدم ربه فغوى}.
{ونادى نوح ابنه}.
{إذا أخرج يده لم يكد يراها}.
وقوله: {يستمعون القرآن فلما حضروه}.
الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مُؤَخَّرٍ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٍ فِي النِّيَّةِ كقوله تعالى {فأوجس في نفسه خيفة}.
وقوله: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}.
وَقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان}.
الثَّالِثُ: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالتَّضَمُّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اعْدِلُوا.
وَقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عليه وإنه لفسق} فَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ لِلْأَكْلِ لِدَلَالَةِ تَأْكُلُوا.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حضر القسمة} إلى قوله: {فارزقوهم منه} أَيِ الْمَقْسُومُ لِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ كَإِضْمَارِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فلولا إذا بلغت الحلقوم} {كلا إذا بلغت التراقي} أَضْمَرَ النَّفْسَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْحُلْقُومِ وَالتَّرَاقِي عَلَيْهَا.
وقوله: {حتى توارت بالحجاب} يَعْنِي الشَّمْسَ.
وَقِيلَ: بَلْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهُوَ الْعَشِيُّ لِأَنَّ الْعَشِيَّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَالْمَعْنَى إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ.
وَقِيلَ: فَاعِلُ تَوَارَتْ ضَمِيرُ الصَّافِنَاتِ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفُتُوحَاتِ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ اتِّفَاقَ الضَّمَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَخَالُفِهَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي الثامن.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جمعا} قِيلَ الضَّمِيرُ لِمَكَانِ الْإِغَارَةِ بِدَلَالَةِ وَالْعَادِيَاتِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَكَانٍ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أنزلناه في ليلة الْقَدْرِ} أُضْمِرَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان} فَـ: (عُفِيَ) يَسْتَلْزِمُ عَافِيًا إِذْ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ وَأُعِيدَ الْهَاءُ مِنْ {إِلَيْهِ} عَلَيْهِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُضْمَرُ ثِقَةً بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله: {ما ترك على ظهرها من دابة} وقوله: {كل من عليها فان} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ الضَّمِيرَ لِلدُّنْيَا وَقَالَ وَإِنْ لم يقدم لَهَا ذِكْرٌ لَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا وَالْبَعْضُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تهجرون} يَعْنِي الْقُرْآنَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَوْلُهُ قَالَ {هي راودتني عن نفسي} {يا أبت استأجره} {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُوصِيكُمُ الله في أولادكم عُلِمَ أَنَّ ثَمَّ مَيِّتًا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وقوله: {وإذا حضر القسمة} ثم قال {فارزقوهم منه} أَيْ مِنَ الْمَوْرُوثِ وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ ما سبق.
وَقوله: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا} وَلَمْ يَقُلْ اتَّخَذَهُ رَدًّا لِلضَّمِيرِ إِلَى شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بَلْ كَانَ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ آيَاتِ اللَّهِ اسْتَهْزَأَ بِجَمِيعِهَا وَقِيلَ شَيْئًا بِمَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ آيَةٌ وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الصَّاحِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِاسْتِحْضَارِهِ بِالْمَذْكُورِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَهُ كَقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْأَيْدِي لِأَنَّهَا تُصَاحِبُ الْأَعْنَاقَ فِي الْأَغْلَالِ وَأَغْنَى ذِكْرُ الْأَغْلَالِ عَنْ ذِكْرِهَا.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا ينقص من عمره} أَيْ مِنْ عُمُرِ غَيْرِ الْمُعَمَّرِ فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ الْمُعَمَّرِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُعَمَّرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِتَقَابُلِهِمَا فَكَانَ يُصَاحِبُهُ الِاسْتِحْضَارُ الذِّهْنِيُّ.
وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ لَهُ كقوله تعالى {فإن كن نساء} بعد قوله: {يوصيكم الله في أولادكم}.
وقوله: {وبعولتهن أحق بردهن} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ مَعَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرُّجْعَى وَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ فِيهِ خِلَافٌ أُصُولِيٌّ وَقوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} فَإِنَّ الْفِضَّةَ بَعْضُ الْمَذْكُورِ فَأَغْنَى ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْجَمِيعِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} أَصْنَافُ مَا يُكْنَزُ.
وَقَدْ يَعُودُ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ دُونَ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُعَمَّرُ من معمر ولا ينقص من عمره} وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ.
وَقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرية من لقائه} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ {وَبُعُولَتُهُنَّ أحق بردهن} وَيُسْتَرَاحُ مِنْ إِلْزَامِ تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ {فَإِنْ كانتا اثنتين} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظٌ مُثَنًّى يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ كَانَتَا قَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّمَا يُثَنَّى لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَثَنَّى الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا فِي مَنْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا.
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يُفِيدُ الْعَدَدُ مُجَرَّدًا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ السَّادِسُ أَلَّا يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ وَلَا مَعْلُومٍ بِالسِّيَاقِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْهُولُ الذي يلزمه بالتفسير بِجُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ فَالْمُفْرَدُ فِي نِعْمَ وَبِئْسَ وَالْجُمْلَةُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ نَحْوُ هُوَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَيِ الشَّأْنُ اللَّهُ أَحَدٌ وَقوله: {لَكِنَّا هُوَ الله ربي}.
وقوله: {أنا الله}.
وقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار} وَقَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا إِذَا كَانَ عَائِدُهُ مُؤَنَّثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مجرما فإن له جهنم} فذكر الضَّمِيرَ مَعَ اشْتِمَالِ الْجُمْلَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ مؤنثة لأنها في حكم الفضلة إذا المعنى من يأت ربه مجرما يجز جَهَنَّمَ.

.تَنْبِيهٌ:

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْفَصْلَ يَكُونُ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ وَالْمُتَكَلِّمِ والمخاطب قال تعالى {هذا هو الحق} {كنت أنت الرقيب} {إن ترن أنا أقل منك مالا} وَيَكُونُ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ يَكُونُ إِلَّا غَائِبًا وَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ وَمَنْصُوبَهُ قال تعالى: {قل هو الله أحد} {وأنه لما قام عبد الله}.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تعالى {وأتوا به متشابها} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنَظِيرُهُ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَيْ بِجِنْسِ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ لِدَلَالَةِ قوله: {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} عَلَى الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمُتَكَلَّمِ بِهِ لَوَحَّدَهُ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَدْ يُذْكَرُ شَيْئَانِ وَيُعَادُ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ الْغَالِبُ كَوْنُهُ لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وإنها لكبيرة} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ.
وَقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نورا وقدره منازل} وَالْأَصْلُ: قَدَّرَهُمَا لَكِنِ اكْتَفَى بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ لِلْقَمَرِ لِوَجْهَيْنِ قُرْبِهِ مِنَ الضَّمِيرِ وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الشُّهُورُ وَيَكُونُ بِهِ حِسَابُهَا.
وَقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْفِضَّةِ لِقُرْبِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمَكْنُوزِ وَهُوَ يَشْمَلُهَا.
وَقوله: {وَاللَّهُ ورسوله أحق أن يرضوه} أَرَادَ يُرْضُوهُمَا فَخَصَّ الرَّسُولَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهُ هُوَ دَاعِي الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَالْمُخَاطِبُ لَهُمْ شِفَاهًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَذُكِرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ تَعْظِيمًا وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ الرَّسُولِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله ورسوله ليحكم بينهم} فَذُكِرَ اللَّهُ تَعْظِيمًا وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ رَسُولِهِ.
ومثله قوله تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عنه}.
وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إثما ثم يرم به بريئا} أَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْإِثْمِ لِقُرْبِهِ وَيَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى لَفْظِهَا بِتَأْوِيلِ وَمَنْ يَكْسِبُ إثما ثم يرم به.
وقال الْأَنْبَارِيِّ: وَلَمْ يُؤْثَرُ الْأَوَّلُ بِالْعَائِدِ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} معناه إِلَيْهِمَا فَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ الِانْفِضَاضِ عَنْهُ وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ فَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَإِنَّهَا تَارَةً تُؤْثِرُ الثَّانِيَ بِالْعَائِدِ وَتَارَةً الْأَوَّلَ فَتَقُولُ إِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلَةٌ وَإِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلٌ.
قُلْتُ: لَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يرم به بريئا} لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ لَفْظِهِ أَوْ هِيَ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَنْ جَعَلَهُ نَظِيرَ هَذَا فَلَمْ يُصِبْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةً لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا أَكْثَرُ مِنَ اللَّهْوِ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لِقُدُومِهَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَأَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذَكُّرِ.
الْخَامِسُ: قَدْ يَذْكُرُ شَيْئَانِ وَيَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ فِي المعنى كقوله تعالى {وكنا لحكمهم شاهدين} يعني حكم سليمان وداود وقوله: {أولئك مبرأون مما يقولون} فَأَوْقَعَ أُولَئِكَ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ.
الْبَحْثُ السَّادِسُ: قَدْ يُثَنَّى الضَّمِيرُ ويعود عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤلؤ والمرجان} قَالُوا: وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقوله: {نَسِيَا حوتهما} وَإِنَّمَا نَسِيَهُ الْفَتَى.
السَّابِعُ: قَدْ يَجِيءُ الضَّمِيرُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَهُوَ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي آدَمَ ثُمَّ قَالَ {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فَهَذَا لِوَلَدِهِ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء إن تبد لكم تسؤكم} قِيلَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ حُذَافَةَ حِينَ قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَبِي؟: قَالَ: «حُذَافَةُ» فَكَانَ نَسَبُهُ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ {لا تسألوا عن أشياء} وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَجِّ حِينَ قَالُوا أَفِي كل مرة ثم قال وإن تسألوا عنها يُرِيدُ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ دِينِكُمْ بِكُمْ إِلَى عِلْمِهَا حَاجَةٌ تَبْدُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ طَلَبَهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا طَلَبٌ فَلَيْسَتِ الْهَاءُ رَاجِعَةً لِأَشْيَاءَ مُتَقَدِّمَةٍ بَلْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ مَفْهُومَةٍ من قوله: {لا تسألوا عن أشياء} وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى أَشْيَاءَ مَذْكُورَةٍ لَتَعَدَّى إِلَيْهَا بِـ: (عَنْ) لَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين من قبل} يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ هو عائد لإبراهيم لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: {وَفِي هَذَا} رَاجِعٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا هُوَ قَالَهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْنِي {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبل} يَعْنِي فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْمَعْنَى جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَهُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَكُونُوا أَيْ سَمَّاكُمْ وَجَعَلَكُمْ مُسْلِمِينَ لِتَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقوله: {ملة أبيكم إبراهيم} منصوب بتقدير اتبعوا لأن هذا لناصب نَصَبَهُ قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي سُورَةِ يس مَوْضِعَانِ تَوَهَّمَ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هم مظلمون} فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهَارَ لَيْسَ مُظْلِمًا وَالثَّانِي أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَانِ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ إِنَّمَا الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ وَ: {مظلمون} داخلو الظلام كقولك مصبحون وممسون إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ العليم} يظن بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض وهو فاسد لوجهين أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِعَادَتَهُمَا بِابْتِدَائِهِمَا وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا إِعَادَةَ أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ لِيَتَحَقَّقَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ الثَّانِي لِتَبَيُّنِ الْمُرَادِ فِي قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى} فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَثْبَتَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ مِثْلِهِمْ لَا عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِمْ قُلْنَا الْمُرَادُ بِمِثْلِهِمْ هُمْ كَمَا في قوله: {ليس كمثله شيء} وَقَوْلِهِمْ مِثْلِي لَا يَفْعَلُ كَذَا أَيْ أَنَا وَبِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قَدْ يُتَوَهَّمُ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَنُصِبَ الْعَمَلُ كَمَا تَقُولُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرًا يَضْرِبُهُ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالْهَاءُ لِلْكَلِمِ قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي التذكرة الْمَنْصُوبُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ لِلْكَلِمِ لِأَنَّ الْكَلِمَ جَمْعُ كَلِمَةٍ قَالَ كَلِمٌ كَالشَّجَرِ فِي أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِالْمُفْرَدِ فِي قوله: {مِنَ الشَّجَرِ الأخضر} وَكَذَلِكَ وُصِفَ الْكَلِمُ بِالطَّيِّبِ وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدًا إِلَى الْعَمَلِ لَكَانَ مَنْصُوبًا فِي هَذَا الْوَجْهِ وَمَا جَاءَ التَّنْزِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أليما} وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى قوله: {يَصْعَدُ} وَيُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ نَاصِبٌ كَمَا أُضْمِرَتْ لِقوله: {وَالظَّالِمِينَ} وَالْمَعْنَى يَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ وَمَعْنَى يُرْفَعُ الْعَمَلُ أَنَّهُ لَا يُحْبَطُ ثَوَابُهُ فَيُرْفَعُ لِصَاحِبِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْعَمَلِ السيء الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ الْإِحْبَاطُ فَلَا يُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
الثَّامِنُ: إِذَا اجْتَمَعَ ضَمَائِرُ فَحَيْثُ أَمْكَنَ عَوْدُهَا لِوَاحِدٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهَا لِمُخْتَلِفٍ وَلِهَذَا لَمَّا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} إِلَخْ أَنَّ الضمير في {فاقذفيه في اليم} لـ: (لتابوت) وَمَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ لِمُوسَى عَابَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَهُ تَنَافُرًا وَمُخْرِجًا لِلْقُرْآنِ عَنْ إِعْجَازِهِ فَقَالَ وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لِمَا يؤدي إليه من تنافر النظر.
فَإِنْ قُلْتَ: الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ.
قُلْتُ: مَا ضَرَّكَ لَوْ جَعَلْتَ الْمَقْذُوفَ وَالْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ هُوَ مُوسَى فِي جَوْفِ التَّابُوتِ حَتَّى لَا تُفَرِّقَ الضَّمَائِرَ فَيَتَنَافَرَ عَلَيْكَ النَّظْمُ الذي هو قوام إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ انْتَهَى وَلَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ.
وَقَالَ فِي قوله: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} الضَّمَائِرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ بِتَعْزِيزِ اللَّهِ تَعْزِيزُ دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ فَرَّقَ الضَّمَائِرَ فَقَدْ أَبْعَدَ أَيْ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا لِلرَّسُولِ إِلَّا الْأَخِيرَ لَكِنْ قَدْ يَقْتَضِي الْمَعْنَى التَّخَالُفَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أحدا} الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي فِيهِمْ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مِنْهُمْ لِلْيَهُودِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} بعد قوله: {إنما سلطانه}.
وقوله: {وما بلغوا معشار ما آتيناهم}.
وقوله: {وعمروها أكثر مما عمروها} أَيْ عَمَرُوا الْأَرْضَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ قُرَيْشٍ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَتْهَا قُرَيْشٌ وَقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فقد نصره الله} الْآيَةُ فِيهَا اثْنَا عَشَرَ ضَمِيرًا، خَمْسَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ وَالثَّالِثُ ضَمِيرٌ فِي {الْغَارِ} لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ.
فَيَحْتَمِلُ ضَمِيرًا وَالرَّابِعُ: {صَاحِبُهُ} وَالْخَامِسُ: {لَا تَحْزَنْ} وَالسَّادِسُ: {مَعَنَا} وَالسَّابِعُ فِي {عَلَيْهِ} عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ السَّكِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ إذا كَانَ خُرُوجُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ أنزل الله سكينته على رسوله} فَالسَّكِينَةُ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى نَفْسِهِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا مِنْ أَجْلِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} قيل الضميران عائدان على يُوسُفَ قَالَ لِلنَّاجِي ذَكِّرِ الْمَلِكَ بِأَمْرِي.
وَرَجَّحَ ابْنُ السِّيدِ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِي نجا منهما وادكر بعد أمة} أَيْ بَعْدَ حِينٍ.
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ بَعْدَ (أَمَهٍ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ نِسْيَانٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ تَذَكُّرَ الْفَتَى بَعْدَ النِّسْيَانِ وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ وَيَكُونَ مَصْدَرَ ذَكَرْتُهُ ذِكْرًا فَالتَّقْدِيرُ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فَأَضَافَ الذِّكْرَ إِلَى الرَّبِّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ يُوسُفَ وَجَازَ ذَلِكَ لِمُلَاءَمَتِهِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يُخَالَفُ بَيْنَ الضَّمَائِرِ حَذَرًا مِنَ التَّنَافُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {منها أربعة حرم} كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ قال {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} لما أعاد عَلَى أَرْبَعَةٍ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ.
وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ عَوْدَهُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا بَلْ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَيُبِيحَ الظُّلْمَ فِي الثَّمَانِيَةِ بَلْ تَرْكُ الظُّلْمِ فِي الْكُلِّ وَاجِبٌ.
قُلْتُ: لَكِنْ يَجُوزُ التَّنْصِيصُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْحُرُمِ فَإِنَّ الظُّلْمَ قَبِيحٌ مُطْلَقًا وَفِيهِنَّ أَقْبَحُ فَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.
التَّاسِعُ: قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ الضَّمِيرِ أُمُورٌ:
مِنْهَا الْإِشَارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولا}.
وَمِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
وقوله: {نجب دعوتك ونتبع الرسل} أَيْ رُسُلَكَ.
وَقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أَصْلُ الْكَلَامِ أَجْرَهُ وَصَبْرَهُ وَلَمَّا كَانَ الْمُحْسِنُونَ جنسا ومن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ وَاحِدٌ تَحْتَهُ أَغْنَى عُمُومُهُ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ.
قَالَ: ابْنُ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} وزعم الزمخشري أَنَّ الْأَبْوَابَ بَدَلٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي مُفَتَّحَةً.
وَهَذَا تَكَلُّفٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَبْوَابُ مُرْتَفِعَةً بمفتحة الْمَذْكُورِ أَوْ بِمِثْلِهِ مُقَدَّرًا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مُفَتَّحَةً صَالِحٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَبْوَابِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْدَالٍ أَيْضًا.
وَمِنْهَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِضْمَارَ فَيُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّأْكِيدِ.
الْعَاشِرُ: الْأَصْلُ فِي الضَّمِيرِ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَلَنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا ضَمِيرٌ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ لَقِيتُ غُلَامَ زَيْدٍ فَأَكْرَمْتُهُ فَالضَّمِيرُ لِلْغُلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}.
وَعِنْدَ التَّعَارُضِ رَاعَى ابْنُ حَزْمٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ فَقَالَا إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: {أَوْ لحم خنزير فإنه رجس} يَعُودُ عَلَى الْخِنْزِيرِ دُونَ لَحْمِهِ لِقُرْبِهِ وَقَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَعُودُ إِلَى المضاف إليه كقوله تعالى {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون}.
وَكَذَا الصِّفَةُ فَإِنَّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إني أرى سبع بقرات سمان}.
وَلِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: وَكَذَا عَوْدُهُ لِلْأَقْرَبِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَقَدْ يَخْرُجُ عَنِ الْأَصْلِ لِدَلِيلٍ وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلَانِ تَسَاقَطَا وَنُظِرَ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ بَلْ قَدْ يُقَالُ عَوْدُهُ إِلَى مَا فِيهِ الْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى كَمَا يَقُولُهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَوْجُودٌ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لها خاضعين} فأخبر خَاضِعِينَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَلَوْ أَخْبَرَ عَنِ المضاف لقال خاضعة.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فقد عاد الضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُوسَى وَالظَّنُّ بِفِرْعَوْنَ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى نَفْسَهُ قَدْ غَلِطَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قوله: {إِلَهِ مُوسَى} اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا.
الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا عُطِفَ بِـ: (أَوْ) وَجَبَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ نَحْوَ إِنْ جَاءَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَأَكْرِمْهُ لِأَنَّ (أَوْ) لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بهما} فَقِيلَ إِنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ بَلِ الْمَعْنَى إِنْ يَكُنِ الْخَصْمَانِ فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْنَى.
وَقِيلَ: لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلْعَطْفِ وَعَكْسُ هَذَا إِذَا عُطِفَ بِالْوَاوِ وَجَبَ تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.