فصل: قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْمُحَاذَاةُ:

ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُؤْتَى بِاللَّفْظِ عَلَى وَزْنِ الْآخَرِ لِأَجْلِ انْضِمَامِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ لَوِ اسْتُعْمِلَ مُنْفَرِدًا كَقَوْلِهِمْ: أَتَيْتُهُ الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا فَقَالُوا: الْغَدَايَا لِانْضِمَامِهَا إِلَى الْعَشَايَا.
قِيلَ: وَمِنْ هَذَا كتابة المصحف، كتبوا: {والليل إذا سجى} بِالْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ لَمَّا قُرِنَ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُكْتَبُ بِالْيَاءِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لسلطهم} فَاللَّامُ الَّتِي فِي (لَسَلَّطَهُمْ) جَوَابُ (لَوْ).
ثُمَّ قَالَ: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فَهَذِهِ حُوذِيَتْ بِتِلْكَ اللَّامِ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى: لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَقَاتَلُوكُمْ.
وَمِثْلُهُ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شديدا} فهما لاما قسم- ثم قال: أو {أو ليأتيني} فليس ذا موضع قسم لأنه عذر5 للهدهد فَلَمْ يَكُنْ لِيُقْسِمَ عَلَى الْهُدْهُدِ أَنْ يَأْتِيَ بِعُذْرٍ لَكِنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِهِ عَلَى أَثَرِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَسَمُ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ.
ومنه الجزاء عن الْفِعْلِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ نَحْوُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ.
وقوله: {ومكروا ومكر الله} {فيسخرون منهم سخر الله منهم}.
{وجزاء سيئة سيئة مثلها}.

.قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ:

قَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا زِيَادَاتٍ.
اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلصِّفَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلذَّاتِ. وَانْتِفَاءُ النَّهْيِ عَنِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الذَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الصِّفَةِ دُونَ الذَّوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحق} فَإِنَّهُ نَهَى عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقَالَ: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق}.
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حرم}، {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، أَيْ فَلَا يَكُونُ مَوْتُكُمْ إِلَّا عَلَى حَالِ كَوْنِكُمْ مَيِّتِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالنَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا تُصَلِّ إِلَّا وَأَنْتَ خَاشِعٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنِ الصَّلَاةِ بَلْ عَنْ تَرْكِ الْخُشُوعِ.
وَقَوْلُهُ: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الْآيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّفْيَ بِحَسْبِ مَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: بِنَفْيِ الْمُسْنَدِ نَحْوَ، مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ قَعَدَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فَالْمُرَادُ نَفْيُ السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ.
الثَّانِي: أَنْ يُنْفَى الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَنْتَفِيَ الْمُسْنَدُ، نَحْوُ مَا قَامَ زَيْدٌ إِذَا كَانَ زَيْدٌ غَيْرَ مَوْجُودٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ زَيْدٍ نَفْيُ الْقِيَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شفاعة الشافعين}، أَيْ لَا شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ شَفَاعَتُهُمْ.
وَمِنْهُ قول الشاعر:
على لاحب لا يهتدي لمناره

أَيْ: عَلَى طَرِيقٍ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَنَارَ فَيَنْتَفِيَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُنْفَى الْمُتَعَلِّقُ دُونَ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ نَحْوُ مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا.
الرَّابِعُ: أَنْ يُنْفَى قَيْدُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقِ نَحْوُ مَا جَاءَنِي رَجُلٌ كَاتِبٌ بَلْ شَاعِرٌ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَاتِبًا بَلْ شَاعِرًا، فَلَمَّا كَانَ النَّفْيُ قَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْمُسْنَدِ وَقَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْمُسْنَدِ إليه أو المعلق وَقَدْ يَنْصَبُّ عَلَى الْقَيْدِ احْتَمَلَ فِي قَوْلِنَا: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَاتِبًا أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْقَيْدَ فَيُفِيدُ الْكَلَامُ رُؤْيَةَ غَيْرِ الْكَاتِبِ وَهُوَ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ وَلَا يَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْمُسْنَدَ أَيِ الْفِعْلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ رُؤْيَةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى رَجُلٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الْمَرْجُوحِيَّةِ كَالَّذِي قَبْلَهُ.

.نَفَيُ الشَّيْءِ رَأْسًا:

لِأَنَّهُ عُدِمَ كَمَالُ وَصْفِهِ أَوْ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أهل النار: {لا يموت فيها ولا يحيى} فَنَفَى عَنْهُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْتٍ صَرِيحٍ وَنَفَى عَنْهُ الْحَيَاةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ وَلَا نَافِعَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وما هم بسكارى} أَيْ مَا هُمْ بِسُكَارَى مَشْرُوبٍ وَلَكِنْ سُكَارَى فَزَعٍ.
وَقَوْلِهِ: {لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} وهم قد نطقوا بقولهم: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا نَطَقُوا بِمَا لَمْ يَنْفَعْ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا.
وَقَوْلِهِ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بها}.
وَقَوْلِهِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كنا في أصحاب السعير}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ النَّظَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبْصَارَ، وَلَا يَلْزَمُ من قوله: {إلى ربها ناظرة} إِبْصَارٌ.
وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تُقَالُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحُسْبَانُ وَالثَّانِي الْعِلْمُ، وَالْآيَةُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ تَحْسَبُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ لِأَنَّ لَهُمْ أَعْيُنًا مَصْنُوعَةً بِأَجْفَانِهَا وَسَوَادِهَا يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِإِقْبَالِهَا عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ تُبْصِرُ شيئا.
وَمِنْهُ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لهم}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ القسمي ثم نفاه أخبر عَنْهُمْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ كَذَا قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ يَتَوَارَدِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ أَوَّلًا نَفْسُ الْعِلْمِ وَالْمَنْفِيَّ إِجْرَاءُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ. وَيَحْتَمِلُ حَذْفُ الْمَفْعُولَيْنِ أَوِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الضَّمِيرَيْنِ.
قَالَ: وَنَظِيرُهُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى}.
قُلْتُ: الْمَنْفِيُّ أَوَّلًا التَّأْثِيرُ وَالْمُثْبَتُ ثَانِيًا نَفْسُ الْفِعْلِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِمُقْتَضَى مَا بَلَّغْتَ فَأَنْتَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ كَقَوْلِكَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ تَعْمَلْ بِمَا عَلِمْتَ فَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ شَيْئًا أَيْ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَمِنْهُ نَفْيُ الشَّيْءِ مُقَيَّدًا وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ يَقْصِدُونَ بِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ وَتَأْكِيدَهُ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا لَا يُرْجَى غَرَضُهُمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَمِنْهُ: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بغير حق} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ وَصَفَ الْقَتْلَ بِمَا لا بد أن يكون مِنَ الصِّفَةِ وَهِيَ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا برهان له به} إِنَّهَا وَصْفٌ لِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا أول كافر به}، تَغْلِيظٌ وَتَأْكِيدٌ فِي تَحْذِيرِهِمُ الْكُفْرَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا}، لِأَنَّ كُلَّ ثَمَنٍ لَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا فَصَارَ نَفْيُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ نَفْيًا لِكُلِّ ثَمَنٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْحَقِيقَةُ نَفْيُ الْمَسْأَلَةِ الْبَتَّةَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ بِدَلِيلِ قوله: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}، وَمَنْ لَا يَسْأَلُ لَا يُلْحِفُ قَطْعًا ضَرُورَةَ أَنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يطاع}، لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الشَّفِيعِ بِقَيْدِ الطَّاعَةِ بَلْ نَفْيُهُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَنْكِيلٌ بِالْكُفَّارِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِذَا شَفَعَ يُشَفَّعُ لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ نَفْيُ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِهِ لِأَضْدَادِهِمْ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يُنَاظِرُ شَخْصًا ذَا صَدِيقٍ نَافِعٍ لَقَدْ حَدَّثْتَ صَدِيقًا نَافِعًا وَإِنَّمَا تُرِيدُ التَّنْوِيهَ بِمَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ لَهُ صَدِيقًا وَلَمْ يَنْفَعْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ اللَّازِمَ لِلْمَوْصُوفِ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقْيِيدِ بَلْ يَدُلُّ لِأَغْرَاضٍ مِنْ تَحْسِينِهِ أَوْ تَقْبِيحِهِ نَحْوِ لَهُ مَالٌ يَتَمَتَّعُ بِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها} {ولهم عذاب أليم}.
الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ الشَّفِيعُ غَيْرَ مُطَاعٍ فِي بَعْضِ الشَّفَاعَاتِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ مَا يُوهِمُ صُورَةَ الشَّفَاعَةِ مِنْ غَيْرِ إِجَابَةٍ كَحَدِيثِ الْخَلِيلِ مَعَ وَالِدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ دَلِيلُ الشَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يكن له ولي من الذل} أَيْ مِنْ خَوْفِ الذُّلِّ فَنَفْيُ الْوَلِيِّ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الذُّلِّ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلِيِّ فَرْعٌ عَنْ خوف الذل وسبب عنه.
وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم}، نَفْيُ الْغَلَبَةِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَصْلِ النَّوْمِ وَالسِّنَةِ عَنْ ذَاتِهِ فَفِي الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ النَّوْمِ وُقُوعًا وَجَوَازًا أَمَّا وُقُوعًا فَبِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سنة ولا نوم} وَأَمَّا جَوَازًا فَبِقَوْلِهِ: {الْقَيُّومُ} وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ».
وَقَوْلُهُ: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} أَيْ بِمَا لَا وُجُودَ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ وجد لعلمه بوجود الوجوب تعلق علم الله بِكُلِّ مَعْلُومٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، عَلَى قَوْلِ مَنْ نَفَى الْقَبُولَ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ التَّوْبَةُ لَا يُوجَدُ تَوْبَةٌ فَيُوجَدُ قَبُولٌ.
وعكسه: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد}، فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِوِجْدَانِ الْعَهْدِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ.
وَقَوْلُهُ: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بها من سلطان}، أَيْ مِنْ حُجَّةٍ أَيْ لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا فَيَسْتَحِيلُ إِذَنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا حُجَّةٌ.
وَنَظِيرُهُ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدَّجَّالُ أَعْوَرُ وَاللَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»، أَيْ بذي جوارح كوامل بتخيل جوارح له نَوَاقِصَ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أن تنفد كلمات ربي} ليس المراد أن كلمات الله تنفذ بعد نفاذ البحر بل لا تنفذ أبدا لا قبل نفاذ البحر، ولا بعده وحاصل الكلام لنفذ البحر ولا تنفذ كَلِمَاتُ رَبِّي.
وَوَقَعَ فِي شِعْرِ جَرِيرٍ قَوْلُهُ:
فيالك يَوْمًا خَيْرُهُ قَبْلَ شَرِّهِ ** تَغَيَّبَ وَاشِيهِ وَأَقْصَرَ عَاذِلُهُ

قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَنْشَدْتُهُ كَذَلِكَ لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ فقال: أصلحه:
فيالك يَوْمًا خَيْرُهُ دُونَ شَرِّهِ

فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ لِخَيْرٍ بَعْدَهُ شَرٌّ وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يُصْلِحُونَ أَشْعَارَ الْعَرَبِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَرْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا كَمَا أَوْصَيْتَنِي.
نَقَلَ ابْنُ رَشِيقٍ هَذِهِ الْحِكَايَةَ فِي الْعُمْدَةِ وَصَوَّبَهَا.
قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: وَوَقَعَ لِي أَنَّ الأصمعي وخلف الْأَحْمَرَ وَابْنَ رَشِيقٍ أَخْطَئُوا جَمِيعًا وَأَصَابَ جَرِيرٌ وحده لأنه لم يرد إلا (فيالك يَوْمُ خَيْرٍ لَا شَرَّ فِيهِ) وَأَطْلَقَ (قَبْلَ) لِلنَّفْيِ كَمَا قُلْنَاهَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنَفِدَ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عمد ترونها} وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لهم آذان يسمعون بها}، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْحَقِيقَةُ تُوجِبُ نَفْيَ الْآيَةِ عَمَّنْ يَكُونُ لَهُ فَضْلًا عَمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم}، فَالْمُرَادُ لَا ذَاكَ وَلَا عِلْمَكَ بِهِ أَيْ كِلَاهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ.
وَقَوْلُهُ: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لم ينزل به سلطانا}، أَيْ شُرَكَاءَ لَا ثُبُوتَ لَهَا أَصْلًا وَلَا أنزل الله بإشراكها حجة وَإِنْزَالُ الْحُجَّةِ كِلَاهُمَا مُنْتَفٍ.
وَقَوْلُهُ: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بما لا يعلم}، أي ما لاثبوت لَهُ وَلَا عِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ نَفْيًا لِلْمَلْزُومِ وَهُوَ النِّيَابَةُ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لِلْعَالِمِ بِالذَّاتِ لَوْ كَانَ لَهُ ثُبُوتٌ بِأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تقبل توبتهم}.
أَصْلُهُ لَنْ يَتُوبُوا فَلَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَبُولُ تَوْبَةٍ فَأُوثِرَ الْإِلْحَاقُ ذَهَابًا إِلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ قَبُولُ التَّوْبَةِ الْوَاجِبُ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على البغاء إن أردن تحصنا}، معلوم أَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الْفَاحِشَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ تَحَصُّنًا لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
ونظيره: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة}، وَأَكْلُ الرِّبَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَلِيلًا وَكَثِيرًا لَكِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مَقَامُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ بِالْكَثِيرِ أَلْيَقُ.
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} الْآيَةَ، الْمَعْنَى آمَنَّا بِاللَّهِ دُونَ الْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ دُونَهَا إِلَّا أَنَّهُمْ نَفَوُا الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِهَذَا إِنَّهُ لَمَّا رَدَّ بِقَوْلِهِ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} بَعْدَ إِثْبَاتِهِ إِيمَانَهُمْ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ أَوْجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِنَفْيِ أُمُورٍ يُرَاعَى فِيهَا الْحَصْرُ وَالتَّقْيِيدُ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فَإِنَّهُ لَمْ يُقَدِّمِ الْمَفْعُولَ فِي (آمَنَّا) حَيْثُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَرُكِّبَ تَرْكِيبًا يُوهِمُ إِفْرَادَ الْإِيمَانِ بِالرَّحْمَنِ عَنْ سَائِرِ مَا يَلْزَمُ من الإيمان.
وقوله: {يتكبرون في الأرض بغير الحق}، فَقِيلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَقِيلَ التَّكَبُّرُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالدَّنَايَا وَالتَّبَاعُدُ مِنْ فِعْلِهَا.
وَأَمَّا قوله: {والإثم والبغي بغير الحق} فَإِنْ أُرِيدَ بِالْبَغْيِ الظُّلْمُ كَانَ قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تَأْكِيدًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الطَّلَبُ كَانَ قيدا.