فصل: وَضْعُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مدا}.
وقوله: {قل أنفقوا طوعا أو كرها}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.
وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العالمين يا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ} فَقَوْلُهُ: {وَأَلْقِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {أَنْ بُورِكَ} فَـ: (أَلْقِ) وَإِنْ كَانَ إِنْشَاءً لَفْظًا لَكِنَّهُ خَبَرٌ مَعْنًى. وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَهَا قِيلَ: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَقِيلَ: أَلْقِ.
وَالْمُوجِبُ لِهَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ إِنَّ أَنْ هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لَا تأتي إلا بعد فعل في معنى القول وَإِذَا قِيلَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَنِ ارْجِعْ وَنَادَانِي أن قم كله بمنزلة: قلت له وَقَالَ لِي قُمْ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ بُورِكَ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَهُوَ إِنْشَاءٌ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّقْدِيرَ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ فتكون مثل {لا تعبدون إلا الله}.
وقوله: {يا ليتنا نرد ولا نكذب} إلى قوله: {وإنهم لكاذبون} فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ وَرَدَ التَّمَنِّي عَلَى التَّكْذِيبِ وهو إنشاء؟.
وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْعِدَةِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى مِنَ الشَّرْطِ والخبر كأنه قيل: إن زددنا لَمْ نُكَذِّبْ وَآمَنَّا وَالشَّرْطُ خَبَرٌ فَصَحَّ وُرُودُ التَّكْذِيبِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أَيْ وَنَحْنُ حَامِلُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُ: {أَسْمِعْ بهم وأبصر} تَقْدِيرُهُ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ! لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا ظُهُورُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْأَوَّلِ وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُبْرَزُ فَاعِلُهُ أَبَدًا.
وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْأَمْرَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ دَاعِيَةً لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَذَلِكَ فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْخَبَرِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالدَّاعِيَةِ فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ وَصِدْقُهُ أَقْرَبَ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِكَلَامِ الْعَرَبِ لَا لِكَلَامِ اللَّهِ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ الدَّاعِيَةُ لِلْفِعْلِ.
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَبْلَغُ؟ هَذَا الْقِسْمُ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ؟.
قَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مدا} الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ نَحْوُ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْبُدُونَ إلا الله} وُرُودُ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَأَنَّهُ سُورِعَ فِيهِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ (مُسْلِمٍ) فِي بَابِ تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ»، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ولا يسوم بالواو ولا يَخْطُبُ بِالرَّفْعِ وَكِلَاهُمَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ لِأَنَّ خَبَرَ الشَّارِعِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ خِلَافِهِ وَالنَّهْيُ قَدْ يَقَعُ مُخَالَفَتُهُ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَامِلُوا هَذَا النَّهْيَ مُعَامَلَةَ خَبَرِ الْحَتْمِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا» يَجُوزُ فِي تَسْأَلُ الرَّفْعُ وَالْكَسْرُ وَالْأَوَّلُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: «لَا يَخْطُبُ وَلَا يَسُومُ» وَالثَّانِي عَلَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ. انْتَهَى.

.وضع النداء موضع التعجب:

كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد} قال الفراء: معناه: فيالها مِنْ حَسْرَةٍ وَالْحَسْرَةُ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ النَّدَمِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَبْقَى حَسِيرًا.
وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ: (الْمُبْتَدَأِ) عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَصْعَبِ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ لَا تُنَادَى وَإِنَّمَا تُنَادَى الْأَشْخَاصُ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّنْبِيهُ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ كقوله: يا عجبا لم فعلت! {يا حسرتى على ما فرطت} وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: الْعَجَبُ. قِيلَ: فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ يَا عَجَبًا احْضُرْ يَا حَسْرَةً احْضُرِي!.
وقرأ الحسن {يا حسرة العباد}.
ومنهم قَالَ: الْأَصْلُ (يَا حَسْرَتَاهُ) ثُمَّ أَسْقَطُوا الْهَاءَ تَخْفِيفًا وَلِهَذَا قَرَأَ عَاصِمٌ {يَا أَسَفَاهُ عَلَى يُوسُفَ}.
وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِ: (الْفَسْرِ): مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نِدَاؤُهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا بشرى}، فَقَالُوا: مَعْنَى النِّدَاءِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَوْكِيدُ الْقِصَّةِ فَإِذَا قُلْتَ يَا عَجَبًا! فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: اعْجَبُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا قَوْمُ أَبْشِرُوا.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي: (الْخَاطِرِيَّاتِ): وَقَدْ توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع لمفعول به، كقوله تعالى: {ولكم فيها منافع} بعد قوله: {لذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها} الْمَعْنَى: وَلِتَنْتَفِعُوا بِهَا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {لِتَرْكَبُوا منها} وَعَلَى هَذَا قَالَ: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صدوركم}. وكذلك قوله: {ومنها تأكلون} أَيْ وَلِتَأْكُلُوا مِنْهَا وَلِذَلِكَ أَتَى وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تحملون فَعَطَفَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة واحدة وأنا ربكم} أَيْ وَلِأَنِّي رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَوَضَعَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ لَهُ.
وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَعَلُّقُ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المشركين ورسوله} وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ تَقْدِيرِ وَأَذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ وَبِأَنَّ رسوله كذلك.

.وَضْعُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ:

لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِلْقِلَّةِ وَغُرَفُ الْجَنَّةِ لَا تُحْصَى.
وَقَوْلِهِ: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} وَرُتَبُ النَّاسِ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَشْرَةِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}.
وقوله: {واستيقنتها أنفسهم} وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْثِيرًا لَهَا وَكَانَ دُخُولُهَا عَلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِهَا عَلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ إِشَارَةً إِلَى قِلَّةِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ!.
وَقَدْ نص سبحانه على قتلهم بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فَيَكُونُ التَّكْثِيرُ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِي الغرفات} لَا مِنْ جِهَةِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا اقْتَضَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمُوعَ التَّكْثِيرِ الْأَرْبَعَةَ وَجَمْعَيِ التَّصْحِيحِ- أَعْنِي جَمْعَ التَّأْنِيثِ وَجَمْعَ التَّذْكِيرِ- كُلُّ ذَلِكَ لِلْقِلَّةِ أَمَّا جُمُوعُ التَّكْسِيرِ فَبِالْوَضْعِ وَأَمَّا جَمْعَا التَّصْحِيحِ، فَلِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى التَّثْنِيَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمُشَابِهُ لَهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْقِلَّةِ وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْجُمُوعِ فَيَرِدُ تَارَةً لِلْقِلَّةِ وَتَارَةً لِلْكَثْرَةِ بِحَسْبِ الْقَرَائِنِ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضالين}. {هدى للمتقين}. {وأولئك هم المفلحون}، {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}. {إنما نحن مستهزئون} {وما كانوا مهتدين} {وكنتم أمواتا} {وعلم آدم الأسماء كلها} {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بسمعهم وأبصارهم} {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} {إذا طلقتم النساء} {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} {وبينات من الهدى} {واتقون يا أولي الألباب} {باللغو في أيمانكم} {أن ينكحن أزواجهن} {حافظوا على الصلوات} فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ هَذَا مِنْهُ بَلْ هِيَ لِلْقِلَّةِ لِأَنَّهَا خَمْسٌ.
قُلْتُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النساء}.
{فيما عرضتم به من خطبة النساء} فَالْمُرَادُ مِنْهَا وَاحِدٌ وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَدِهِمَا الْجَوَابُ عَنِ الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {إن تبدوا الصدقات} {الصابرين والصادقين} الآية. {والمؤمنين والمؤمنات} الْآيَةَ. وَلَا تُحْصَى كَثْرَةً.
وَمِنْ شَوَاهِدِ مَجِيءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وَحُكِيَ أَنَّ النَّابِغَةَ قَالَ لَهُ:
قَدْ قَلَّلْتَ جفتاك وَأَسْيَافَكَ

وَطَعَنَ الْفَارِسِيُّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِوُجُودِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ فِيمَا لَهُ جمع كثرة وفيما لا جمع له كثرة فِي كَلَامِهِمْ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ قَالَ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِحَسَّانَ تَجَنُّبُ اللَّفْظِ الَّذِي أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِلَّةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي اللِّسَانِ وَضْعُهُ لِقَرِينَةٍ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ مَدْحٍ أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقِلَّةُ لِمَعْنَى الْكَثْرَةِ لَكِنْ لَيْسَ فِي كُلِّ مَقَامٍ.
وَمِنَ الْمُشْكِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كثيرة} فَإِنَّ أَضْعَافًا جَمْعُ قِلَّةٍ فَكَيْفَ جَاءَ بَعْدَ كَثْرَةٍ!.
وَالْجَوَابُ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ وَهَذَا مِنْهُ.

.تَنْبِيهَانِ:

.الْأَوَّلُ:

إِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ لَهُ جمع كثرة فإن لم يكن فلا.
كقوله: {أياما معدودات} فَإِنَّ أَيَّامًا أَفْعَالٌ مَعَ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ لَكِنْ لَيْسَ لِلْيَوْمِ جَمْعٌ غَيْرُهُ وَمِنْ ثَمَّ أَفْرَدَ السَّمْعَ وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم} لِأَنَّ فَعْلًا سَاكِنَ الْعَيْنِ صَحِيحَهَا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ غَالِبًا وَلَيْسَ لَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمْعِ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنْفُسَكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا فِي الْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ {وإذا النفوس زوجت} وحكمته هنا ظاهرة لأن المراد استعياب جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي الْمَحْشَرِ.
وَنَظِيرُهُ: {مِنْ كُلِّ الثمرات} لإمكان الثمار وليس رأس آية.
منه: {آيات محكمات} لِإِمْكَانِ آيٍ وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ لِطَلَبِ الْمُشَاكَلَةِ فقد قال تعالى بعده: {وأخر متشابهات} فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْمُشَاكَلَةِ لِإِمْكَانِ أُخْرَيَاتٌ.
وَكَذَلِكَ قوله: {تجري من تحتها الأنهار} وَلَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ وَلَا فِيهِ مُشَاكَلَةٌ لِإِمْكَانِ الْأَنْهُرِ.
وَقَدْ جَاءَ أَنْفُسُ لِلْقِلَّةِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَنْفُسَنَا وأنفسكم} وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسَانِ مِنْ بَابِ: {فَقَدْ صَغَتْ قلوبكما}.

.الثَّانِي:

إِنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُنَكَّرِ أَمَّا الْمُعَرَّفُ فَيُسْتَغْنَى بِالْعُمُومِ عَنْ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَخْدِشُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا سَبَقَ جَعْلُهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الثمرات}: إِنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ وُضِعَ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ (الْ) فِي الثَّمَرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَصِيرُ كَالثِّمَارِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ارْتِكَابِ وَضْعِ جَمْعِ قِلَّةٍ مَوْضِعَ جَمْعِ كَثْرَةٍ وَكَذَلِكَ بَيْتُ حسان السابق فإن الجفنات معرفة (أل) وأسيافنا مضاف ليعم.