فصل: تَنْبِيهَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَنْبِيهَانِ:

.الْأَوَّلُ:

الْأَكْثَرُ أَنْ يُرَاعَى فِي التَّعْدِيَةِ مَا ضُمِّنَ مِنْهُ وَهُوَ الْمَحْذُوفُ لَا الْمَذْكُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّفَثُ إلى نسائكم} أَيِ الْإِفْضَاءُ.
وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أَيْ يُرْوَى بِهَا وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ.
وَلَمْ أَجِدْ مُرَاعَاةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} عَلَى قَوْلِ ابْنِ الضَّائِعِ أَنَّهُ ضُمِّنَ (يُقَالُ) مَعْنَى (يُنَادَى) وَ: (إِبْرَاهِيمُ) نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ كَيْفَ عُدِّيَ بِاللَّامِ وَالنِّدَاءُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: قُلْتُ لَهُ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْمُرْضِعِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ضُمِّنَ (حَرَّمَ) الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الْمَنْعُ. فَاعْتُرِضَ كَيْفَ عُدِّيَ بِـ: (عَلَى) وَالْمَنْعُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ صُورَةُ اللَّفْظِ.

.الثَّانِي:

أَنَّ التَّضْمِينَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ مَا سَبَقَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ: (إِعْجَازِ الْقُرْآنِ) هُوَ حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ من غير ذكره لَهُ بِاسْمٍ (أَوْ صِفَةٍ) هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ ثُمَّ قَسَّمَهُ إِلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يُفْهَمُ مِنَ الْبِنْيَةِ كَقَوْلِكَ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ.
وَالثَّانِي مِنْ مَعْنَى العبارة (من حيث لا يصح إلا به) كَالصِّفَةِ فَضَارِبٌ يَدُلُّ عَلَى مَضْرُوبٍ.
قَالَ: وَالتَّضْمِينُ كُلُّهُ إِيجَازٌ، قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ في كتاب: (المعاني المتبدعة) أن التضمين واقع في القرآن خلافا لماأجمع عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيَانِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأولين لكنا عباد الله المخلصين}.
وَيُطْلَقُ التَّضْمِينُ أَيْضًا عَلَى إِدْرَاجِ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى، أَوْ لِتَرْتِيبِ النَّظْمِ وَيُسَمَّى الْإِبْدَاعَ كَإِبْدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا من يفسد فيها ويسفك الدماء}.
وَمِثْلُ مَا حَكَاهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {قَالُوا إِنَّمَا نحن مصلحون}.
وقوله: {أنؤمن كما آمن السفهاء}.
{وقالت اليهود}.
{وقالت النصارى}. وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ مَا أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ.
وَيَقْرُبُ مِنَ التَّضْمِينِ فِي إِيقَاعِ فِعْلٍ مَوْقِعَ آخَرَ إِيقَاعُ الظَّنِّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم}.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فئة قليلة}.
{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها}.
{وظن داود أنما فتناه}.
{وظنوا ما لهم من محيص}.
وَشَرَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ حِسِّيًّا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ يَرَى حَاضِرًا: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ بَعْدُ كالآيات السابقة.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي (الذَّرِيعَةِ): الظَّنُّ إِصَابَةُ الْمَطْلُوبِ بِضَرْبٍ مِنَ الْإِمَارَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ يَقِينٍ وَشَكٍّ فَيَقْرُبُ تَارَةً مِنْ طَرَفِ الْيَقِينِ وَتَارَةً مِنْ طَرَفِ الشَّكِّ فَصَارَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَهُ بِهِمَا فَمَتَى رُئِيَ إِلَى طَرَفِ الْيَقِينِ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ أَنَّ الْمُثَقَّلَةُ وَالْمُخَفَّفَةُ فِيهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الذين يظنون أنهم ملاقو الله} {وظنوا أنه واقع بهم}. وَمَتَى رُئِيَ إِلَى الشَّكِّ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ أَنْ الَّتِي لِلْمَعْدُومِينَ مِنَ الْفِعْلِ نَحْوَ ظَنَنْتُ أَنْ يَخْرُجَ.
قَالَ: وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو ربهم} لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَالظَّنِّ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فِي الدُّنْيَا لَا يَكَادُ يَحْصُلُ إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} وَالظَّنُّ مَتَى كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ قَوِيَّةٍ فَإِنَّهُ يُمْدَحُ بِهِ وَمَتَى كَانَ عَنْ تَخْمِينٍ لَمْ يُمْدَحْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظن إثم}.
وَجَوَّزَ أَبُو الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا يَظُنُّ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْيَقِينُ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى أَيْ فَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمُ فَكَيْفَ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فَهَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِهِ: (يَكْفِيكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ) أَيْ لَوْ تَوَهَّمَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَمَا هُنَاكَ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّتِهِ لَاجْتَنَبَ الْمَعَاصِيَ فَكَيْفَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ! وَهَذَا أَبْلَغُ.
وَقِيلَ: آيَتَا الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالْبَاقِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ بِخِلَافِ الْيَقِينِ وَإِنِ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي وُجُوبِ الجزم بهما.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}.
وَقَدْ جَاءَ عَكْسُهُ وَهُوَ التَّجَوُّزُ عَنِ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا علمنا}، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا بَلِ اعْتِقَادًا ظَنِّيًّا.
وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَكَانَ يَحْكُمُ بِالظَّنِّ وَبِالظَّاهِرِ.
وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالِامْتِحَانِ فِي الْحُكْمِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنَّ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الرُّجْحَانُ فَتَجُوزُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ.
وضع الخبر موضع الطلب فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن}.
{والمطلقات يتربصن}.
{سلام عليكم}.
{اليوم يغفر الله لكم}.
وقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الْآيَةَ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَاجِبِ.
{فلا رفث ولا فسوق} على قراءة نافع أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا.
{وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابتغاء وجه الله}، قَالُوا: هُوَ خَبَرٌ وَتَأْوِيلُهُ نَهْيٌ أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {لَا يمسه إلا المطهرون} وكقوله: {لا تضار والدة بولدها} عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَقِيلَ إِنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ أعني – قوله: {لا يمسه}- وَلَكِنْ ضُمَّتْ إِتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ».
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لا تعبدون إلا الله} ضُمِّنَ {لَا تَعْبُدُونَ} مَعْنَى: لَا تَعْبُدُوا، بِدَلِيلِ قوله بعده: {وقولوا للناس حسنا} وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الخبر لكن إن كان حسنا معمولا لأحسنوا فعطف (قُولُوا) عَلَيْهِ أَوْلَى لِاتِّفَاقِهِمَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: (وَيُحْسِنُونَ) فَهُوَ الَّذِي قَبْلَهُ وَالْعَطْفُ على القريب أولى. وقيل: {لَا تَعْبُدُونَ} أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ يُسَارِعُ إِلَى الانتهاء فهو مخبر عَنْهُ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تسفكون دماءكم} فِي مَوْضِعِ (لَا تَسْفِكُوا).
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الصف: {وبشر المؤمنين} عطفا على قوله: {تؤمنون بالله ورسوله} وَلِهَذَا جُزِمَ الْجَوَابُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم في شغل فاكهون} إلى قوله: {وامتازوا اليوم} فَإِنَّ الْمَقَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَضْمِينِ (إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم) مَعْنَى الطَّلَبِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ: {فَالْيَوْمَ لَا تظلم نفس شيئا} فإنه كلام وقت الحشر لوروده ومعطوفا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} وَعَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {لَا تُظْلَمُ نفس شيئا} وَإِنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تعملون} خِطَابٌ عَامٌّ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {إِنَّ أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} إلى قوله: {أيها المجرمون} مُقَيَّدًا بِهَذَا الْخِطَابِ لِكَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ: {ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} وَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَحْشَرِ ثُمَّ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شغل فاكهون} يُقَالُ لَهُمْ حِينَ يُسَاقُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِتَنْزِيلِ مَا هُوَ لِلتَّكْوِينِ مَنْزِلَةَ الْكَائِنِ أَيْ أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤول حالهم إلى أسعد حال والتقدير حينئذ: فامتازوا عَنْكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي (الْمِفْتَاحِ).
قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ طَلَبِيَّةً وَمَعْنَاهَا أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالذَّهَابِ إِلَى الْجَنَّةِ فَلْيَكُنِ الْخِطَابُ مَعَهُمْ لَا مَعَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَضْمِينَ أَصْحَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلطَّلَبِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ نَفْسَهَا طَلَبِيَّةٌ بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ يُقَدَّرَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ بَعْدَهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ جَاءَ الْجَزْمُ فِي جَوَابِ الْخَبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ جَازَ ذَلِكَ إِذِ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجَاهِدُوا.
وقال ابن جني: لا يكون (يغفر) جوابا لـ: (هل أدلكم) وإن كان أبو العباس قد قاله لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلاة. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ الدَّلَالَةُ: سَبَبُ السَّبَبِ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِيءُ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ الْحَاصِلِ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَلَا بُدَّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَفِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى نُقِلَتْ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ حَقِيقَةً غَيْرُ مَصْرُوفٍ عَنْ جِهَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ لَيْسَ خَبَرًا عَنِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِشْكَالِ وَهُوَ احْتِمَالُ عَدَمِ وُقُوعِ مُخْبَرِهِ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ الْخَبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ أَمَّا الْخَبَرُ عَنِ الْحُكْمِ فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ خِلَافُهُ أصلا.