فصل: أنزه الموجودات وأشرفها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.من معاني العبودية:

وفي التحقيق بمعنى قوله: «إني عبدك» التزام عبوديته من الذل، وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه واللجوء إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وعياذ العبد به وعياذه به، وألا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاء.
وفيه أيضاً أني عبد من جميع الوجوه صغيراً وكبيراً، حيًّا وميتاً، مطيعاً وعاصياً، معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.
وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك، فإن العبد وما يملك لسيده.
وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك.
وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وأني لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة.
ثم قال: ْ «ناصيتي بيدك»، أي أنت المتصرف فيَّ، تصرفني كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي، وكيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته، ولهذا قال هود لقومه: {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} الآية: 56 من سورة هود.
وقوله: «ماض فيَّ حكمك عدل في قضاؤك» تضمن هذا الكلام أمرين:
أحدهما: مضاء حكمه في عبده.
ثانيهما: يتضمن حمده وعدله، وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وهذا معنى قول نبيه هود: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} الآية: 56 من سورة هود، ثم قال: {إن ربي على صراط مستقيم} الآية: 56 من سورة هود، أي مع كونه مالكاً قاهراً متصرفاً في عباده نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم: في قوله وفعله، وقضاءه وقدره، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسده، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله ورحمته.

.القضاء والحكم والفرق بينهما:

وفرق بين الحكم والقضاء وجعل المضاء للحكم والعدل للقضاء، فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكوني القدري، والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه. شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه.
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيه ونفوذه، قال: «عدل فيَّ قضاؤك» أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه، وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان كونيًّا: فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه، فهو سبحانه يقضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمراً ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والإمضاء.
وقوله: «عدل فيَّ قضاؤك» يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك.
قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} الآية: 30 من سورة الشورى، وقال: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} الآية: 48 من سورة الشورى، فكل ما يقضي على العبد فهو عدل فيه.
فإن قيل: فالمعصية عندكم بقضائه وقدره، فما وجه العدل في قضائها؟ فإن العدل في العقوبة عليها غير ظاهر.
قيل: هذا سؤال له شأن ومن أجله زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا: لأن الظلم هو المتصرف في ملك الغير والله له كل شيء، فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلاً.
وقالت طائفة: بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم إما في الدنيا وإما في الآخرة.
وصعب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل. ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات، فزعموا أنه لا يمكنهم إثبات التوحيد إلا بإنكار الصفات، فصار توحيدهم تعطيلاً وعدلهم تكذيباً بالقدر.
وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية وألغى على من شاء فذلك محض العدل فيه لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله. ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان:
أحدهما: ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه وتناسي ذكره وشكره فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.
ثانيهما: ألا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليه، ولا يثني عليه بها ولا يحبها فلا يشاؤها له لعدم صلاحيته محله.
قال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} الآية: 53 من سورة الأنعام، وقال: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} الآية: 23 من سورة الأنفال، فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان في محض العدل، كما إذا قضى على الحية بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور كان ذلك عدلاً فيه، وإن كان مخلوقاً على هذه الصفة.
وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر.
والمقصود: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ماض في حكمك عدل في قضاؤك» رد على الطائفتين: القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عباده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره، ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون كل مقدور عدل فلا يبقى لقوله: «عدل في قضاؤك» فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال: ماض ونافذ فيَّ قضاؤك، وهذا هو.
وقوله: «أسألك بكل اسم...» إلى آخره، توسل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم، وهذه أحب الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.
وقوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري» الربيع: المطر الذي يحيي الأرض. شبه القرآن به لحياة القلوب به، وكذلك شبهه الله بالمطر وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة والنور الذي تحصل به الإضاءة والإشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية...} الآية: 17 من سورة الرعد، في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} الآية: 17 من سورة البقرة، ثم قال: {أو كصيب من السماء} الآية: 19 من سورة البقرة، وفي قوله: {الله نور السموات الأرض مثل نوره...} الآيات الآية: 35 من سورة النور، ثم قال: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه} الآيات الآية: 43 من سورة النور.
فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وأن ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور.
وقال تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الآية: 122 من سورة الأنعام.
ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب؛ لأنه قد حصل لما هو أوسع منه، ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها، ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى ألا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم، والله أعلم.

.أنزه الموجودات وأشرفها:

أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتاً وقدراً وأوسعها: عرش الرحمن جل جلاله، لذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنات وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير. وخلق الله القلوب وجعلها محلاًّ لمعرفته ومحبته وإرادته فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبته وإرادته.
قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} الآية: 60 من سورة النحل.وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} الآية: 27 من سورة الروم، وقال تعالى: {ليس كمثله شيء} الآية: 11 من سورة الشورى، فهذا من المثل الأعلى وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه.
وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها، فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل مغموم في الحال.
وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح»، قالوا: «فما علامة ذلك يا رسول الله؟» قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله»، والنور الذي يدخل القلب إنما هو آثار المثل الأعلى، فلذلك ينفسح وينشرح، وإذا لم يكن فيه معرفة الله ومحبته فحظه الظلمة والضيق.

.عظمته سبحانه وتعالى:

تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد كله، أزِمَّة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه. فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أولياءه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، أنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين. ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم. والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جميلاً، هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل سواه، وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها وداؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت، ولم تنتفع بحياتها.

.قبول المحل لما يوضع مرهون بأن يفرغ من ضده:

قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره. ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.
وسر ذلك: أن صفاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه. كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان. ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يَرِيَهُ خير له من أن يملأ شعراً» فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات، ونحوها، وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً فتعدته وجاوزته إلى محل سواه.
كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة، ولذلك قيل:
نزه فؤادك من سوانا تلقنا ** فجنابنا حل لكل منزه

والصبر طلسم لكنز وصالنا ** من حل ذا الطلسم فاز بكنزه

وبالله التوفيق.

.الكلام في ألهاكم التكاثر:

قوله تعالى: {ألهاكم التكاثر} الآية الأولى من سورة التكاثر إلى آخرها.
أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى: {ألهاكم} أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه. فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه. فإن كان بقصده فيه فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة: «إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي» رواه الشيخان كان صاحبه معذوراً وهو نوع من النسيان، وفي الحديث فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي أي ذهل عنه، ويقال: لَهَا بالشيء: أي اشتغل به، ولها عنه: إذا انصرف عنه.
واللهو للقلب، واللعب للجوارح؛ ولهذا يجمع بينهما، ولهذا كان قوله: {ألهاكم التكاثر} أبلغ في الذم من شغلكم، فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به، فاللهو هو ذهول وإعراض، والتكاثر تفاعل من الكثرة، أي مكاثرة بعضكم لبعض، وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه، وأن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذه التكاثر.
فالتكاثر كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم، ولا سيما إذا لم يحتج إليه.
والتكاثر في الكتب: التصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها.
والتكاثر: أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذموم إلا فيما يقرب إلى الله.
فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومسابقة إليها. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر} قال: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت».

.من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه:

من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه، للعبد ستر بينه وبين الله وبينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس.
للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه.
إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة فكيف بغم العمر.
محبوب اليوم يعقب المكروه غدا، ومكروه اليوم يعقب المحبوب غدا.
أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل الوقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها.
كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة.
يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه.
المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه، والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه.
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهِمَّة. فإن لم تدافعها صارت فعلا.