فصل: كيف تصلح حالك؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.حلاوة التوكل على الله:

من ترك الاختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم، وعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبر به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدَّم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخَّر، فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات.
وحمل كله وحوائجه ومصالحه ومن لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها، فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ولا اهتمام منه؛ لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه وفرغ قلبه منها، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه. وإن أبى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه، دون حق ربه، خلاه وما اختاره وولاه ما تولى، فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب وكسف البال وسوء الحال، فلا قلب يصفو ولا عمل يزكو ولا أمل يحصل ولا راحة يفوز بها ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه، فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد، والله سبحانه قد أمر العبد بأمر وضمن له ضمانا، فإن قام بأمره بالنصح والصدق والإخلاص والاجتهاد، فإنه سبحانه ضمن الرزق لمن عبده، والنصر لمن توكل عليه واستنصر به، والكفاية لمن كان هو همه ومراده، والمغفرة لمن استغفره، وقضاء الحوائج لمن صَدَقَه في طلبها ووثق به وقوي رجاؤه وطمعه في فضله وجوده. فالفطن الكيس إنما يهتم بأمره وإقامته وتوفيقه لا بضمانه، فإنه الوفي الصادق، ومن أوفى بعهده من الله. فمن علامات السعادة صرف اهتمامه إلى أمر الله دون ضمانه. ومن علامات الحرمان فراغ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه، والله المستعان.
قال بشر بن الحارث: أهل الآخرة ثلاثة: عابد وزاهد وصِدِّيق، فالعابد يعبد الله مع العلائق، والزاهد يعبده على ترك العلائق، والصديق يعبده على الرضا والموافقة، إن أراه أخذ الدنيا أخذها وإن أراه تركها تركها.

.المشاقة والمحادة:

إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يفضي إلى المشاقة والمحادة، وهذا أصلها ومنه اشتقاقها، فإن المشاقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق، والمحادة أن يكون في حد وهو في حد، ولا تستسهل هذا فإن مبادئه تجر إلى غايته، وقليله يدعو إلى كثيره، وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته، وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، ولا سيما إذا قويت الرغبة والرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحدا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، بل يعده الناس ناقص العقل سيئ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرسل فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر، ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينا له لا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومة من لامه، ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وليس شيء أصعب على الإنسان من ذلك في بادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشرته من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا، وذلك الألم لذة، فإن الرب شكور، فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه إلى الله وإلى رسوله ويريه كرامة ذلك فيشتد به سروره وغبطته ويبتهج به قلبه ويظفر بقوته وفرحه وسروره ويبقى من كان محاربا له على ذلك بين هائب له ومسالم له ومساعد وتارك، ويقوى جنده ويضعف جند العدو.
ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك. وأعظم الأعوان لك على هذا _ بعد عون الله _ التجرد من الطمع والفزع، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز إلى الله ورسوله، وكنت دائما في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام بك الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر ولا تحدث نفسك به. فإن قلت: فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع؟
قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء.

.كيف تصلح حالك؟

هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها. وذلك أنك في وقت بين وقتين وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق، إنما هو عمل قلب. وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس في الجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاحك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم. وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها. وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن اتخذت إليها سبيلا إلى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد، وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب انقضت عنك بسرعة وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفته الهوى لأجله.

.علامة صحة الإرادة:

علامة صحة الإرادة أن يكون هم المريد رضا ربه واستعداده للقائه وحزنه على وقت مر في غير مرضاته وأسفه على قربة والأنس به. وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره.

.الزهد في الدنيا:

إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا على ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة.
قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان، فقال له رجل: إني أكثر البكاء، فقال: إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك، وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه.

.أقسام الزهد:

الزهد أقسام: زهد في الحرام وهو فرض عين. وزهد في الشبهات وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن التحقن بالواجب وإن ضعفت كان مستحبا. وزهد في الفضول. وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره. وزهد في الناس. وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله. وزهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما شغلك عنه.
وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ. والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
قال يحيى بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يرائي في عمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمله لله، ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه ولا يقرضه منه شيئا، ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم، والله يدعوه إلى صحبته ومودته.

.مخالفة الأمر أعظم من عمل المنهي عنه:

قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه.
قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة:
أحدها: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس.
الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنا وسرق.
الثالث: أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي، كما دل على ذلك النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها» رواه مسلم في كتاب الإيمان وقوله: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: «بلى يا رسول الله»، قال: «ذكر الله». وقوله: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» رواه ابن ماجة في كتاب الأدب الباب 53. ورواه الترمذي: الدعوات / 6. والنسائي: الإيمان/ 1.وغير ذلك من النصوص.
وترك المناهي عمل فإنه كف النفس عن الفعل، ولهذا علق سبحانه المحبة بفعل الأوامر كقوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا} سورة الصف، الآية رقم 4 {والله يحب المحسنين} آل عمران: 134. وقوله {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} الحجرات: 9 {والله يحب الصابرين} آل عمران: 146.
وأما في جانب المناهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة كقوله: {والله لا يحب الفساد} البقرة: 205 وقوله: {والله لا يحب كل مختال فخور} الحديد: 23 ونظائره.
وأخيرا في موضع آخر أنه يكرهها ويسخطها، كقوله: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} البقرة: 190 وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله} النساء: 36
إذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات. ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب، كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء وحصول التوبة من العبد والتضرع إليه والاستكانة وإظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه، وحصول الموالاة والمعاداة لأجله، وغير ذلك من الآثار التي وجودها بسبب تقديره ما يكره أحب إليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها، وهو سبحانه لا يقدر ما يحب لإفضائه إلى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه لإفضائه إلى ما يحبه، فعلم أن ما يحبه أحب إليه مما يكرهه.
يوضحه الوجه الرابع: أن فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور، فهو منهي عنه لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه وينقصه، كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة. فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها، فالنهي عنها من باب المقصود لغيره، والأمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه.
يوضحه الوجه الخامس: أن فعل المأمورات من باب حفظ الإيمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان ويخرجها عن الاعتدال، وحفظ القوة مقدم على الحمية، فإن القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة، فالحمية مرادة لغيرها وهو حفظ القوة وزيادتها وبقاؤها، ولهذا كلما قويت قوة الإيمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها، وإذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة، فتأمل هذا الوجه.
الوجه السادس: أن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقوة عينه ولذته ونعيمه، وترك المنهيات بدون ذلك لا يحصل له شيئا من ذلك، فإنه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك الترك شيئا وكان خالدا مخلدا في النار.
وهذا يتبين بالوجه السابع: أن من فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج مطلقا إن غلبت حسناته سيئاته، وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله إلى النجاة وذلك بفعل المأمور.
ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج ولا ينجو إلا بفعل المأمور هو التوحيد.
فإن قيل: فهو إنما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك، قيل: يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به وإن لم يأت بضد وجودي من الشرك، بل متى خلا قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وإن لم يعبد معه غيره، فإذا انضاف إليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به وفعل الشرك المنهي عنه.
يوضحه الوجه الثامن: أن المدعو إلى الإيمان إذا قال: لا أصدق ولا أكذب ولا أحب ولا أبغض ولا أعبده ولا أعبد غيره، كان كافرا بمجرد الترك والإعراض، بخلاف ما إذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني، ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن لا صبر لي عنه، فهذا لا يعد كافرا بذلك، ولا حكمه حكم الأول، فإن هذا مطيع من وجه، وتارك المأمور جملة لا يعد مطيعا بوجه.
يوضحه الوجه التاسع: أن الطاعة والمعصية إنما تتعلق بالأمر أصلا وبالنهي تبعا، فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور. قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم} سورة التحريم، الآية رقم 6 ـ وقال موسى لأخيه: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا إلا تتبعن أفعصيت أمري} طه: 93،وقال عمرو بن العاص عند موته: أنا الذي أمرتني فعصيت، ولكن لا إله إلا أنت. وقال الشاعر: أمرتك أمرا جازما فعصيتني.
والمقصود من إرسال الرسل طاعة المرسل ولا تحصل إلا بامتثال أوامره واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه. ولذا لو اجتنب المناهي ولم يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا، بخلاف ما لو أتى بالمأمورات وارتكب المناهي. فإنه وإن عد عاصيا مذنبا فإنه مطيع بامتثال الأمر عاص بارتكاب النهي، بخلاف تارك الأمر فإنه لا يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة.
الوجه العاشر: أن امتثال الأمر عبودية وتقرب وخدمة، وتلك العبادة التي خلق لأجلها الخلق كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} سورة الذاريات، الآية: 56، فأخبر سبحانه أنه أتم خلقهم للعبادة، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه. فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف امتثال المأمور فإنه أمر وجودي مطلوب الحصول.
وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر: وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر عدمي، والمطلوب بالأمر إيجاد فعل وهو أمر وجودي،ومتعلق النهي الإعدام أو العدم وهو أمر لا كمال فيه إلا إذا تضمن أمرا وجوديا، فإن العدم من حيث هو عدم لا كمال فيه ولا مصلحة إلا إذا تضمن أمرا وجوديا مطلقا، وذلك الأمر الوجودي مطلوب مأمور به فعادت حقيقة النهي إلى الأمر، وأن المطلوب به ما في ضمن النهي من الأمر الوجودي المطلوب به.
وهذا يتضح بالوجه الثاني عشر: وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال: أحدها: أن المطلوب به كف النفس عن الفعل وحبسها عنه وهو أمر وجودي، قالوا: لأن التكليف إنما يتعلق بالمقدور، والعدم المحض غير، وهذا قول الجمهور.
وقال أبو هاشم وغيره: بل المطلوب عدم الفعل، ولذا يحصل المقصود من بقائه على العدم وإن لم يخطر بباله الفعل، فضلا أن يقصد الكف عنه. ولو كان المطلوب الكف لكان عاصيا إذا لم يأت به، ولأن الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه. وهذا أحد قولي القاضي أبي بكر ولأجله التزم أن عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحت الكسب، قال: والمقصود بالنهي الإبقاء على العدم الأصلي وهو مقدور. وقالت طائفة: المطلوب بالنهي فعل الضد فإنه هو المقدور وهو المقصود للناهي، فإنه إنما نهاه عن الفاحشة طلبا للعفة وهي المأمور بها، ونهاه عن الظلم طلبا للعدل المأمور به، وعن الكذب طلبا للصدق المأمور به، وهكذا جميع المنهيات، فعند هؤلاء أن حقيقة النهي الطلب لضد المنهي عنه فعاد الأمر إلى أن الطلب إنما تعلق بفعل المأمور.
والتحقيق: أن المطلوب نوعان: مطلوب لنفسه وهو المأمور به، ومطلوب إعدامه لمضادته المأمور به وهو المنهي عنه، لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به. فإذا لم يخطر ببال المكلف ولا دعته نفسه إليه بل استمر على العدم الأصلي لم يثبت على تركه، وإن خطر بباله وكف نفسه عنه لله وتركه اختيارا أثيب على كف نفسه وامتناعه، فإنه فعل وجودي والثواب إنما يقع على الأمر الوجودي دون العدم المحضي وإن تركه مع عزمه الجازم على فعله لكن تركه عجزا، فهذا وإن لم يعاقب عقوبة الفاعل لكن يعاقب على عزمه وإرادته الجازمة التي إنما تخلف مرادها عجزا.
وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة فلا يلتفت إلى ما خلفها، كقوله تعالى: {وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} سورة البقرة، الآية: 284 وقوله في كاتم الشهادة: {فإنه آثم قلبه} البقرة: 283، وقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} سورة البقرة، الآية 283 وقوله: {يوم تبلى السرائر} الطارق: 9، وقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، قالوا: «هذا القاتل، فما بال المقتول؟» قال: «إنه أراد قتل صاحبه» رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن حنبل بألفاظ مختلفة. وقوله في الحديث الآخر: «ورجل قال لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد بألفاظ مختلفة.
وقول من قال: إن المطلوب بالنهي فعل الضد ليس كذلك، فإن المقصود عدم الفعل والتلبس بالضدين، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو غير مقصود بالقصد الأول، وإن كان المقصود بالقصد الأول المأمور الذي نهي عما يمنعه ويضعفه، فالمنهي عنه مطلوب إعدامه طلب الوسائل والذرائع، والمأمور به مطلوب إيجاده طلب المقاصد والغايات.
وقول أبي هاشم: إن تارك القبائح يحمد وإن لم يخطر بباله كف النفس، فإن أراد بحمده أنه لا يذم فصحيح، وإن أراد أن يثني عليه بذلك ويحب عليه ويستحق الثواب فغير صحيح. فإن الناس لا يحمدون المحبوب على ترك الزنا ولا الأخرس على عدم الغيبة والسب، وإنما يحمدون القادر الممتنع عن قدرة وداع إلى الفعل.
وقول القاضي: الإبقاء على العدم الأصلي مقدور، فإن أراد به كف النفس ومنعها فصحيح، وإن أراد مجرد العدم فليس كذلك.
وهذا يتبين بالوجه الثالث عشر: وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده عن طريق اللزوم العقلي لا القصد الطلبي، فإن الأمر إنما مقصوده فعل المأمور. فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره، وهذا هو الصواب في مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا؟ فهو نهي عنه من جهة اللزوم لا من جهة القصد والطلب. وكذلك النهي عن الشيء، مقصود الناهي بالقصد الأول الانتهاء عن المنهي عنه وكونه مشغلا بضده جاء من جهة اللزوم العقلي، لكن إنما نهي عما يضاد ما أمر به كما تقدم، فكان المأمور به هو المقصود بالقصد الأول في الموضعين.
وحرف المسألة أن طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم والنهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللزوم والمطلوب في الموضوعين فعل وكف، وكلاهما أمر وجودي.
الوجه الرابع عشر: أن الأمر والنهي في باب الطلب نظير النفي والإثبات في باب الخبر، والمدح والثناء لا يحصلان بالنفي المحض إن لم يتضمن ثبوتا، فإن النفي كاسمه عدم لا كمال فيه ولا مدح، فإذا تضمن ثبوتا صح المدح به كنفي النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه، ونفي اللغوب والإعياء والتعب المستلزم لكمال القوة والقدرة. ونفي السنة والنوم المستلزم لكمال الحياة والقيومية. ونفي الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والربوبية. ونفي الشريك والولي والشفيع بدون الإذن المستلزم لكمال التوحيد والتفرد بالكمال والإلهية والملك. ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل ونفي إدراك الأبصار له المتضمن لعظمته وأنه أجلّ من أن يدرك وإن رأته الأبصار. وإلا فليس في كونه لا يرى، مدح بوجه من الوجوه، فإن العدم المحض كذلك.
وإذا عرف هذا فالمنهي عنه إن لم يتضمن أمرا وجوديا ثبوتيا لم يمدح بتركه ولم يستحق الثواب والثناء بمجرد الترك كما لا يستحق المدح والثناء بمجرد الوصف العدمي.
الوجه الخامس عشر: أن الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة أمثال فعلها، وجزاء المنهيات مثل واحد، وهذا يدل على أن فعل ما أَمَر به أحب إليه من ترك ما نهى عنه ولو كان الأمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة والحسنة بواحدة أو تساويا.
الوجه السادس عشر: أن المنهي عنه المقصود إعدامه، وألا يدخل في الوجود، سواء نوى ذلك أو لم ينوه، وسواء خطر بباله أو لم يخطر. فالمقصود ألا يكون، وأما المأمور به فالمقصود كونه وإيجاده والتقرب به نية وفعلا.
وسر المسألة: أن وجود ما طلب إيجاده أحب إليه من عدم ما طلب إعدامه، وعدم ما أحبه أكره إليه من وجود ما يبغضه، فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من كراهته لفعل ما نهى عنه.
يوضحه الوجه السابع عشر: أن فعل ما يحبه والإعانة عليه وجزاؤه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمته وفعل ما يكرهه وجزاؤه وما يترتب عليه من الذم والألم والعقاب من غضبه. ورحمته سابقة على غضبه غالبة له، وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب، فإنه سبحانه لا يكون إلا رحيما، ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه، فيستحيل أن يكون غضبان دائما غضبا لا يتصور انفكاكه، بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة: «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» رواه البخاري في الأنبياء، والترمذي في القيامة، ومسلم في الإيمان.ورحمته وسعت كل شيء وغضبه لم يسع كل شيء. وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب، ووسع كل شيء رحمة وعلما ولم يسع كل شيء غضبا وانتقاماً.
فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب وما كان منه وآثاره. فوجود ما كان بالرحمة أحب إليه من وجود ما كان من لوازم الغضب. ولهذا كانت الرحمة أحب إليه من العذاب والعفو أحب إليه من الانتقام. فوجود محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، ولا سيما إذا كان في فوات مكروهه فوات ما يحبه من لوازمه، فإنه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزوم المكروه.
الوجه الثامن عشر: أن آثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه، فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز، وتزول بالتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب المكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن السيئات، لو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا، ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة، وهو سبحانه يغفر الذنوب وإن تعاظمت ولا يبالي، فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل، وما ذاك إلا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده، فدل على أن وجود ذلك أحب إليه وأرضى له.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات. فإنه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرحه بتوبة العبد مثلا ليس في المفروح به أبلغ منه، وهذا الفرح العظيم الذي وجوده أحب إليه من فواته، ووجوده بدون لازمه ممتنع، فدل على أن وجود ما يحب أحب إليه من فوات كل فرد مما يكره حتى تكون ركعتا الضحى أحب إليه من فوات قتل المسلم، وإنما المراد أن جنس فعل المأمور أفضل من جنس ترك المحظورات، كما إذا فضل الذكر على الأنثى والإنسي على الملك، فالمراد الجنس لا عموم الأعيان.
والمقصود أن هذا الفرح الذي لا فرح يشبهه بفعل مأمور التوبة يدل على أن هذا المأمور أحب إليه من فوات المحظور الذي تفوت به التوبة وأثرها ومقتضاها.
فإن قيل: إنما فرح بالتوبة لأنها ترك للمنهي فكان الفرح بالترك، قيل: ليس كذلك، فإن الترك المحض لا يوجب هذا الفرح بل ولا الثواب ولا المدح، وليست التوبة تركا، وإن كان الترك من لوازمها، وإنما هي فعل وجودي يتضمن إقبال التائب على ربه وإنابته إليه والتزام طاعته، ومن لوازم ذلك ترك ما نهي عنه ولهذا قال تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} سورة هود: الآية رقم: 3.فالتوبة رجوع مما يكره إلى ما يحب وليست مجرد الترك، فإن من ترك الذنب تركا مجردا ولم يرجع منه إلى ما يحبه الرب تعالى لم يكن تائبا، فالتوبة رجوع وإقبال وإنابة لا ترك محض.
الوجه العشرون: أن المأمور به إذا فات فاتت الحياة المطلوبة للعبد، وهي التي قال تعالى فيها: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} الأنفال: الآية رقم: 24، وقال: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلناه له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} الأنعام: الآية رقم: 122، وقال في حق الكفار: {أموات غير أحياء} النحل: الآية رقم: 21 وقال: {إنك لا تسمع الموتى} سورة النمل: الآية رقم 80، وأما المنهي عنه فإذا وجد فغايته أن يوجد المرض، وحياة مع السقم خير من موت.
فإن قيل: ومن المنهي عنه ما يوجب الهلاك وهو الشرك، قيل: الهلاك إنما حصل بعدم التوحيد المأمور به الذي به الحياة، فلما فقد حصل الهلاك، فما هلك إلا من عدم إتيانه بالمأمور به.
وهذا وجه حاد وعشرون في المسألة: وهو أن في المأمورات ما يوجب فواته الهلاك والشقاء الدائم، وليس في المنهيات ما يقتضي ذلك.
الوجه الثاني والعشرون: أن فعل المأمور يقتضي ترك المنهي عنه إذا فعل على وجهه من الإخلاص والمتابعة والنصح لله فيه. قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت: 45.ومجرد ترك المنهي لا يقتضي فعل المأمور ولا يستلزمه.
الوجه الثالث والعشرون: أن ما يحبه من المأمورات فهو متعلق بصفاته وما يكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعولاته، وهذا وجه دقيق يحتاج إلى بيان فنقول:
المنهيات شرور وتفضي إلى الشرور، والمأمورات خير وتفضي إلى الخيرات والخير بيديه سبحانه والشر ليس إليه، فإن الشر لا يدخل في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، وإنما هو في المفعولات مع أنه شر بالإضافة والنسبة إلى العبد، وإلا من حيث إضافته ونسبته إلى الخالق سبحانه فليس بشر من هذه الجهة. فغاية ارتكاب المنهي أن يوجب شرا بالإضافة إلى العبد مع أنه نفسه ليس بشر. وأما فوات المأمور فيفوت به الخير الذي بفواته يحصل ضده من الشر، وكلما كان المأمور أحب إلى الله سبحانه كان الشر بفواته أعظم كالتوحيد والإيمان.
وسر هذه الوجه أن المأمور به محبوبه، والمنهي مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من وفوات مكروهه، وفوات محبوبة أكره إليه من وقوع مكروهه والله أعلم.