فصل: تفسير الآيات (1- 2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.سورة الممتحنة:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}
روي: أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أفمهاجرة جئت؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعني: قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد- وكانوا فرساناً- وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله، وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة: هي أحدهم، فاستحضر رسول الله حاطباً وقال: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم؛ ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش. وروى: عزيزاً فيهم، أي: غريباً، ولم أكن من أنفسها، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه. وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، فنزلت، عدّى (اتخذ) إلى مفعوليه، وهما عدوي، وأولياء. والعدوّ: فعول، من عدا؛ كعفوّ من عفا؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد.
فإن قلت: {تُلْقُونَ} بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره؛ وبأولياء صفة له. ويجوز أن يكون استئنافاً.
فإن قلت: إذا جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله، فأين الضمير البارز وهو قولك: تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ قلت: ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال، لو قيل: أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف.
لما كان بد من الضمير البارز؛ والإلقاء عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم: يقال ألقى إليه خراشي صدره، وأفضى إليه بقشوره. والباء في {بالمودة} إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة التي بينكم وبينهم. وكذلك قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أي: تفضون إليهم بمودتكم سراً. أو تسرّون إليهم إسرار رسول الله بسبب المودّة. التي بينكم وبينهم فإن قلت: {وَقَدْ كَفَرُواْ} حال مماذا؟ قلت: إما من {لاَ تَتَّخِذُواْ} وإما من {تُلْقُونَ} أي: لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم. و{يُخْرِجُونَ} استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم. أو حال من كفروا. و{أَن تُؤْمِنُواْ} تعليل ليخرجون، أي يخرجونكم لإيمانكم، و{إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بلا تتخذوا، يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله: هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. و{تُسِرُّونَ} استئناف، ومعناه: أيّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون {وَمَن يَفْعَلْهُ} ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
وقرأ الجحدري {لما جاءكم} أي: كفروا لأجل ما جاءكم، بمعنى: أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سبباً لكفرهم. {إِن يَثْقَفُوكُمْ} إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً} خالصي العداوة، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} بالقتال والشتم، وتمنوا لو ترتدّون عن دينكم، فإذن مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ثم قال {وَوَدُّواْ} بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعاً: من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردّكم كفاراً أسبق المضارّ عندهم وأوّلها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذَّالون لها دونه، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.

.تفسير الآية رقم (3):

{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
{لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم} أي قراباتكم {وَلاَ أولادكم} الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم، ثم قال: {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وبين أقاربكم وأولادكم {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ...} [عبس: 34] الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً: خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً. قرئ: {يُفصَل ويُفصَّل}، على البناء للمفعول. ويَفصِل ويُفصِّل، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل. ونفصل ونفصل، بالنون.

.تفسير الآيات (4- 5):

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}
وقرئ: {أسوة وإسوة} وهو اسم المؤتسى به، أي كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى به ويتبع أثره، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا، وأظهروا البغضاء والمقت، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله؛ ومادام هذا السبب قائماً كانت العداوة قائمة، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاة، والبغضاء محبة، والمقت مقة، فأفصحوا عن محض الإخلاص. ومعنى {كَفَرْنَا بِكُمْ} وبما تعبدون من دون الله: أنا لا نعتدّ بشأنكم ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شيء.
فإن قلت: مم استثني قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم}؟ قلت: من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لأنه أراد بالأسوة الحسنة: قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها.
فإن قلت: فإن كان قوله {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة، فما بال قوله: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْء} وهو غير حقيق بالاستثناء. ألا ترى إلى قوله {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} [المائدة: 17] قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبنيّ عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار.
فإن قلت: بم اتصل قوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}؟ قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليماً منه لهم تتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم. وقرى: {برآء} كشركاء. وبراء كظراف. وبراء على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. وبراء على الوصف بالمصدر. والبراء والبراءة كالظماء والظماءة.

.تفسير الآية رقم (6):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم، ولذلك جاء به مصدّراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل عن قوله: {لَكُمْ} قوله: {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} وعقبه بقوله: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به.

.تفسير الآية رقم (7):

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}
ولما نزلت هذه الآيات: تشدَّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة. رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم، فأسلم قومهم، وتمّ بينهم من التحاب والتصافي ما تمّ. وقيل: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة، فتنصر وأرادها على النصرانية، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يُقْدَعُ أنفه. و{عَسَى} وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل: فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين، والله قدير على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أسلم من المشركين.

.تفسير الآيات (8- 9):

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
{أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من الذين لم يقاتلوكم. وكذلك {أَن تَوَلَّوْهُمْ} من الذين قاتلوكم: والمعنى: لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء. وهذا أيضاً رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
وعن مجاهد: هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا. وقيل: هم النساء والصبيان. وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول، فنزلت، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها.
وعن قتادة: نسختها آية القتال {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم. وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

.تفسير الآيات (10- 11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
{إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات} سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك. أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهم بالامتحان {فامتحنوهن} فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة: «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله» {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} منكم لأنكم لا تكسبون فيه علماً تطمئن معه نفوسكم، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن، وعند الله حقيقة العلم به {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين، لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك {وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} وأعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور، وذلك: أن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم، ومن أتى منكم مكة لم يردّ إليكم؛ وكتبوا بذلك كتاباً وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي.
وقيل صيفي بن الراهب فقال: يا محمد، أردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء.
وعن الضحاك: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد: أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك.
وعن قتادة: ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد براءة، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر.
فإن قلت: كيف سمى الظنّ علماً في قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ}؟ قلت: إيذاناً بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فإن قلت: فما فائدة قوله: {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} وذلك معلوم لا شبهة فيه؟ قلت: فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن. فإنّ ذلك مما استأثر به علام الغيوب، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك، وأن تكليفكم لا يعدوه؛ ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ، لأن المهر أجر البضع، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لابد من إصداق، وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً: وقعت الفرقة، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملاً {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب، يعني: إياكم وإياهنّ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية.
قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه.
وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر.
وعن مجاهد: أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن {وَسْئَلُواْ مَآ أَنْفَقْتُم} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار {وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} من مهور نسائهم المهاجرات. وقرئ: {ولا تمسكوا} بالتخفيف. ولا تمسكوا بالتثقيل. ولا تمسكوا. أي: ولا تتمسكوا {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله} يعني جميع ما ذكر في هذه الآية {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف. أو حال من حكم الله على حذف الضمير، أي: يحكمه الله. أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة. روى أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله: {وَإِن فَاتَكُمْ} وإن سبقكم وانفلت منكم {شَيْءٌ} من أزواجكم: أحد منهن إلى الكفار، وهو في قراءة ابن مسعود: أحد.
فإن قلت: هل لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه: أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه {فعاقبتم} من العقبة وهي التوبة: شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر، فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري: يعطي من صداق من لحق بهم. وقرئ: {فأعقبتم} فعقبتم بالتشديد. فعقبتم بالتخفيف، بفتح القاف وكسرها، فمعنى أعقبتم: دخلتم في العقبة، وعقبتم: من عقبه إذا قفاه، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه، وكذلك عقبتم بالتخفيف، يقال: عقبه يعقبه.
وعقبتم نحو تبعتم. وقال الزجاج: فعاقبتم فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، والذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم، أي: فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم. وقيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص. وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.