فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.سورة المسد:

.تفسير الآيات (1- 5):

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}
التباب: الهلاك. ومنه قولهم: أشابة أم تابة؟ أي: هالكة من الهرم والتعجيز. والمعنى: هلكت يداه، لأنه فيما يروى: أخذ حجراً ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَتَبَّ} وهلك كله. أو جعلت يداه هالكتين. والمراد: هلاك جملته، كقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] ومعنى: {وَتَبَّ}: وكان ذلك وحصل، كقوله:
جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِه ** جَزَاءَ الْكلاَبِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ

ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود: {وقد تب} وروي: أنه لما نزل {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] رقى الصفا وقال: يا صباحاه، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال: «يا بني عبد المطلب، با بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقيَّ»؟ قالوا: نعم؛ قال: «فإني نذير لكم بين يدي الساعة»؛ فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت.
فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما، ولذلك تجري الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء، وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ {يدا أبو لهب}، كما قيل: علي بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله- بالجرّ، والآخر عبد الله بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله- بجرّة الدال، لا يعرف إلاّ هكذا.
والثاني: أنه كان اسمه عبد العزّى، فعدّل عنه إلى كنيته. والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديراً بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب: أبا صفرة، بصفرة في وجهه. وقيل: كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به، وبافتخاره بذلك. وقرئ: {أبي لهب} بالسكون. وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس بن مالك بالضم {مَا أغنى} استفهام في معنى الإنكار، ومحله النصب أو نفي {وَمَا كَسَبَ} مرفوع. وما موصولة أو مصدرية بمعنى: ومكسوبه. أو: وكسبه. والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعني: رأس المال والأرباح. أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها، وكان ذا سابياء. أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه. أو ماله التالد والطارف.
وعن ابن عباس: ما كسب ولده. وحكي أن بني أبي لهب احتكموا إليه، فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع فغضب، فقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
«إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وعن الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث، يعني كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن قتادة: عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء، كقوله: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23] وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي {سيصلى} قرئ: بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً، والسين للوعيد، أي: هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته {وامرأته} هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت تمشى بالنميمة ويقال: للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم النائرة ويورث الشرّ. قال:
مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لَأْمَةٍ ** وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بالْحَطَبِ الرَّطْبِ

جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ، ورفعت عطفاً على الضمير في {سيصلى} أي: سيصلى هو وامرأته. و{فِى جِيدِهَا} في موضع الحال، أو على الابتداء، وفي جيدها: الخبر. وقرئ: {حمالة الحطب} بالنصب على الشتم؛ وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل: من أحب شتم أم جميل. وقرئ: {حمالة الحطب} و {حمالة للحطب}: بالتنوين، بالرفع والنصب. وقرئ: {ومريته} بالتصغير. المسد: الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. قال:
وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ

ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون: تخسيساً لحالها، وتحقيراً لها، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن، لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها؛ وهما في بيت العزّ والشرف. وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عيّر بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال:
مَاذَا أَرَدْتَ إلَى شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ** أَمْ مَا تَعَيَّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَب

غَرَّاءَ شَادِخَةٍ فِي الْمَجْدِ غُرَّتُهَا ** كَانَتْ سَلِيلَةَ شَيْخٍ نَاقِبِ الحَسَبِ

ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».

.سورة الإخلاص:

.تفسير الآيات (1- 4):

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
{هُوَ} ضمير الشأن، و{الله أَحَدٌ} هو الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، كأنه قيل: الشأن هذا، وهو أن الله واحد لا ثاني له.
فإن قلت: ما محل هو؟ قلت: الرفع على الابتداء والخبر الجملة.
فإن قلت: فالجملة الواقعة خبراً لابد فيها من راجع إلى المبتدأ، فأين الراجع؟ قلت: حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك: (زيد غلامك) في أنه هو المبتدأ في المعنى، وذلك أن قوله: {الله أَحَدٌ} هو الشأن الذي هو عبارة عنه، وليس كذلك (زيد أبوه منطلق) فإن زيداً والجملة يدلان على معنيين مختلفين، فلا بد مما يصل بينهما.
وعن ابن عباس: قالت قريش: يا محمد، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت: يعني: الذي سألتموني وصفه هو الله، وأحد: بدل من قوله، (الله). أو على: هو أحد، وهو بمعنى واحد، وأصله وحد.
وقرأ عبد الله وأبيّ: {هو الله أحد} بغير {قُلْ} وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: {الله أحد} بغير {قُلْ هُوَ} وقال من قرأ: الله أحد، كان بعدل القرآن.
وقرأ الأعمش: {قل هو الله الواحد}. وقرئ: {أحد الله} بغير تنوين: أسقط لملاقاته لام التعريف. ونحوه:
وَلاَ ذَاكِر اللَّهِ إلاّ قَلِيلاً

والجيد هو التنوين، وكسره لالتقاء الساكنين. و{الصمد} فعل بمعنى مفعول، من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج. والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه، وهو الغني عنهم {لَمْ يَلِدْ} لأنه لا يجانس، حتى يكون له من جنسه صاحبه فيتوالدا. وقد دلّ على هذا المعنى بقوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} [الأنعام: 101]. {وَلَمْ يُولَدْ} لأنّ كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس بجسم ولم يكافئه أحد، أي: لم يماثله ولم يشاكله. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفياً للصاحبة: سألوه أن يصفه لهم، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته، فقوله: {هُوَ الله} إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها، وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم؛ لأنّ الخلق يستدعي القدرة والعلم، لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام. وفي ذلك وصفه بأنه حيّ سميع بصير. وقوله: {أَحَدٌ} وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. وقوله: {الصمد} وصف بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه: فهو غني. وفي كونه غنياً مع كونه عالماً: أنه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه. وقوله: {لَمْ يُولَدْ} وصف بالقدم والأوّلية.
وقوله: {لَمْ يَلِدْ} نفي للشبه والمجانسة. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} تقرير لذلك وبت للحكم به، فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نصّ سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدّماً في أفصح كلام وأعربه؟ قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه، وأحقه بالتقدم وأحراه. وقرئ: {كفؤاً} بضم الكاف والفاء. وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء: فإن قلت: لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها؟ قلت: لأمر ما يسود من يسود، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى دليلاً من اعتراف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم: يشرف بشرفه، ويتضع بضعته؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله، وإنافته على كل علم، واستيلائه على قصب السبق دونه؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه، وقلة تعظيمه له، وخلوه من خشيته، وبعده من النظر لعاقبته. اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك، القائلين بعدلك وتوحيدك، الخائفين من وعيدك. وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين، وروى: أبيّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» يعني ما خلقت إلاّ لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سمع رجلاً يقرأ: قل هو الله أحد فقال: «وجبت». قيل: يا رسول الله وما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة».

.سورة الفلق:

.تفسير الآيات (1- 5):

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}
الفلق والفرق: الصبح، لأنّ الليل يفلق عنه ويفرق: فعل بمعنى مفعول. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ومنه قولهم: سطع الفرقان، إذا طلع الفجر. وقيل: هو كل ما يفلقه الله، كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك. وقيل: هو واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض، الفلق، والجمع: فلقان.
وعن بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالى، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه {مِن شَرّ مَا خَلَقَ} من شر خلقه. وشرّهم: ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارة بعضهم بعضاً من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغير ذلك، وما يفعله غير المكلفين منه من الأكل والنهش واللدع والعضّ كالسباع والحشرات، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. والغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى: {إلى غسق الليل} [الإسراء: 78] ومنه: غسقت العين امتلأت دمعاً، وغسقت الجراحة: امتلأت دماً. ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء، ويقال: وقبت الشمس إذا غابت. وفي الحديث: لما رأى الشمس قد وقبت قال: «هذا حين حلها، يعني صلاة المغرب» وقيل: هو القمر إذا امتلأ، وعن عائشة رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: «تعوّذي بالله من شرّ هذا، فإنه الغاسق إذا وقب» ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده. ويجوز أن يراد بالغاسق: الأسود من الحيات: ووقبه: ضربه ونقبه. والوقب: النقب. ومنه: وقبة الثريد؛ والتعوّذ من شرّ الليل؛ لأن انبثاثه فيه أكثر، والتحرّز منه أصعب. ومنه قولهم: الليل أخفى للويل. وقولهم: أغدر الليل؛ لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر وأسند الشرّ إليه لملابسته له من حدوثه فيه {النفاثات} النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين: والنفث النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلاّ إذا كان ثم إطعام شيء ضار، أو سقيه، أو إشمامه. أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه؛ ولكن الله عزّ وجلّ قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحقّ من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشوية والرعاع إليهنّ وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به، فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس عند نفثهن، ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات، من قوله: {إن كيدكن عظيم} [يوسف: 28] تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد. أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ومحاسنهنّ، كأنهنّ يسحرنهم بذلك {إِذَا حَسَدَ} إذا ظهر حسده، وعمل بمقتضاه: من بغي الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.
وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد. ويجوز أن يراد بشرّ الحاسد: إثمه وسماجة حاله في وقت حسده، وإظهاره أثره.
فإن قلت: قوله: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ} تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ قلت: قد خص شرّ هؤلاء من كلّ شر لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به. وقالوا: شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر.
فإن قلت: فلم عرّف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ قلت: عرفت النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق، لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضرّ. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حسد إلاّ في اثنتين» وقال أبو تمام:
وَمَا حَاسِدٌ فِي المَكْرُمَاتِ بِحَاسِدِ

وقال:
إنَّ الْعُلاَ حَسَنٌ فِي مِثْلِهَا الْحَسَدُ

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها».