فصل: تفسير الآيات (103- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (91- 93):

{فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)}
{فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ} فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، إلى آلهتهم: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله تعالى: {أين شركائي} [النحل: 27] {أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فأقبل عليهم مستخفياً، كأنه قال: فضربهم {ضَرْباً} لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم. أو فراغ عليهم يضربهم ضرباً. أو فراغ عليهم ضرباً بمعنى ضارباً. وقرئ: {صفقا} و {سفقا}، ومعناهما: الضرب. ومعنى ضرباً {باليمين} ضرباً شديداً قوياً؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما. وقيل: بالقوّة والمتانة، وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله: {تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم}.

.تفسير الآية رقم (94):

{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)}
{يَزِفُّونَ} يسرعون، من زفيف النعام. ويزفون: من أزفّ، إذا دخل في الزفيف. أو من أزفه، إذا حمله على الزفيف، أي: يزفّ بعضهم بعضاً. ويزفون، على البناء للمفعول، أي: يحملون على الزفيف. ويزفون، من وزف يزف إذا أسرع. ويزفون: من زفاه إذا حداه كأنّ بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه، فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} [الأنبياء: 59- 60] كالتناقض حيث ذكر هاهنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر؛ ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر.
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفراً منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية التعريض بقولهم {سمعنا فتى يذكرهم} لبعض الصوارف.
والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر. وقولهم: {قالوا: فأتوا به على أعين الناس} [الأنبياء: 61].

.تفسير الآيات (95- 96):

{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}
{والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعني خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، كقوله: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذى فطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] أي فطر الأصنام.
فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً لله معمولاً لهم، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعاً؟ قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعاملوا أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه.
فإن قلت: فما أنكرت أن تكون ما مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: والله خلقكم وعملكم، كما تقول المجبرة؟ قلت؛ أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب: أن معنى الآية يأباه إباء جلياً، وينبو عنه نبوّاً ظاهراً، وذلك أن الله عزّ وجلّ قد احتج عليهم بأنّ العابد والمعبود جميعاً خلق الله، فكيف يعبد المخلوق المخلوق، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها، ولو قلت: والله خلقكم وخلق عملكم، ولم يكن محتجاً عليهم ولا كان لكلامك طباق. وشيء آخر: وهو أن قوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} ترجمة عن قوله: {مَا تَنْحِتُونَ} و(ما) في {مَا تَنْحِتُونَ} موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلاّ متعسف متعصب لمذهبه، من غير نظر في علم البيان، ولا تبصر لنظم القرآن.
فإن قلت: اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم.
قلت: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلاّ الإذعان للحق، وذلك أنك جعلتها موصولة، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين، كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضاً فأنك قاطع بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون، حتى تخالف بين المرادين بهما؛ فتزيد بما تنحتون: الأعيان التي هي الأصنام، وبما تعملون: المعاني التي هي الأعمال؛ وفي ذلك فك النظم وتبتيره؛ كما إذا جعلتها مصدرية.

.تفسير الآيات (97- 98):

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}
{الجحيم} النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم. والمعنى: أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعاً، وأذلهم بين يديه: أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم فمالوا إلى المكر، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه.

.تفسير الآيات (99- 101):

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}
أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام؛ كما قال: {إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] {سَيَهْدِينِ}؟ سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفقني، كما قال موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] كأن الله وعده وقال له: سأهديك، فأجرى كلامه على سنن موعد ربه. أو بناء على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده. أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله. ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى عليه السلام: {عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} [القصص: 22]. {هَبْ لِى مِنَ الصالحين} هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً} [مريم: 53] قال عزّ وجلّ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} [الأنبياء: 90] وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم- حين هنأه بولده عليّ أبي الأملاك-: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب وموهب، وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليماً، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، ثم استسلم لذلك. وقيل: ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم وذلك لعزة وجوده ولقد نفت الله. به إبراهيم في قوله: {إِنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، {إِنَّ إبراهيم لحليم أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 75] لأنّ الحادثة شهدت بحلمهما جميعاً.

.تفسير الآية رقم (102):

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}
فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه.
فإن قلت: {مَعَهُ} بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ، أو بالسعي، أو بمحذوف، فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حدّ السعي، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقي أن يكون بياناً، كأنه لما قال: فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل: مع من؟ فقال مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم: أتي في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، فلهذا قال: {إِنّى أرى فِي المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة، وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له: إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فسمي يوم النحر. وقيل: إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حدّ السعي معه قيل له: أوف بنذرك {فانظر مَاذَا ترى} من الرأي على وجه المشاورة. وقرئ: {ماذا ترى}، أي: ماذا تبصر من رأيك وتبديه. وماذا ترى، على البناء للمفعول: أي: ماذا تريك نفسك من الرأي {افعل مَا تُؤمَرُ} أي ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ

أوأمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمراً. وقرئ: {ما تؤمر به} فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله، لأنّ المغافصة بالذبح مما يستمسج وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك.
فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحي إلى أبيه، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين؛ لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.

.تفسير الآيات (103- 111):

{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)}
يقال: سلم لأمر الله وأسلم، واستسلم بمعنى واحد. وقد قرئ بهنّ جميعاً إذا انقاد له، وخضع، وأصلها من قولك: سلم هذا لفلان إذا خلص له. ومعناه: سلم من أن ينازع فيه، وقولهم: سلم لأمر الله، وأسلم له منقولان منه، وحقيقة معناهما: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى: استسلم: استخلص نفسه لله.
وعن قتادة في {أَسْلَمَا} أسلم هذا ابنه وهذا نفسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه على شقه، فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعاً على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان. وروى أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى.
وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: هو محذوف تقديره: فلما أسلما وتله للجبين {وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما، وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما، من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب، وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرج بعد الشدّة، والظفر بالبغية بعد اليأس {البلاء المبين} الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. الذبح: اسم ما يذبح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو الكبش الذي قرّبه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل.
وعن الحسن: فدى بوعل أهبط عليه من ثبير.
وعن ابن عباس: لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم {عظِيمٌ} ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحي.
وقوله عليه السلام: «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» وقيل: لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم. وروى أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه، فبقيت سنة في الرمي، وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده. وروى أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلاّ الله والله أكبر، فقال إبراهيم عليه السلام: الله أكبر ولله الحمد، فبقي سنة: وحكي في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر. فقال له اشدد رباطي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي حتى تجهز عليّ، ليكون أهون فإنّ الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن تردّ قميصي على أمي، فافعل، فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه فلم تعمل.
لأنّ الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه، فقال له: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح، فكبر جبريل والكبش، وإبراهيم وابنه، وأتى المنحر من منى فذبحه. وقيل: لما وصل موضع السجود منه إلى الأرض جاء الفرج. وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده: أنه يلزمه ذبح شاة، فإن قلت: من كان الذبيح من ولديه؟ قلت: قد اختلف فيه؛ فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين: أنه إسماعيل. والحجة فيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين، فتبسم، فسئل عن ذلك فقال: إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله: لئن سهل الله له أمرها ليذبحنّ أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل، وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان مجتهد بني إسرائيل يقول إذا دعا: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، فقال موسى عليه السلام: يا رب، ما لمجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، وأنا بين أظهرهم فقد أسمعتني كلامك واصطفيتني برسالتك؟ قال: يا موسى، لم يحبني أحد حبّ إبراهيم قط، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني. وأمّا إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه. وأمّا إسرائيل، فإنه لم ييأس من روحي في شدّة نزلت به قط، ويدل عليه أنّ الله تعالى لما أتمّ قصة الذبيح قال: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً} [الصافات: 112] وعن محمد بن كعب أنه قال لعمر بن عبد العزيز: هو إسماعيل، فقال عمر: إنّ هذا شيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى يهودي قد أسلم فسأله، فقال: إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت.
وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وأنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة، ومما يدلّ عليه أنّ الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله:
{وإسماعيل واليسع وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} [مريم: 54] لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به، ولأنّ الله بشّره بإسحاق وولده يعقوب في قوله: {فَضَحِكَتْ فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} [هود: 71] فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفاً للموعد في يعقوب، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين: أنه إسحاق. والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به. ويدلّ عليه كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله.
فإن قلت: قد أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: {قد صدقت الرؤيا}، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذبح، ولم يصحّ قلت: قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح: من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام، ألا ترى أنه لا يسمى عاصياً ولا مفرطاً، بل يسمى مطيعاً ومجتهداً، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ولا قبل أوان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه.
فإن قلت: الله تعالى هو المفتدى منه: لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون فادياً حتى قال: {وفديناه}؟ قلت: الفادي هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والله عزّ وجلّ وهب له الكبش ليفدى به وإنما قال: {وفديناه} إسناداً للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته.
فإن قلت: فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح. فما معنى الفداء، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل؟ قلت: قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فرى الأوداج وإنهار الدم، فوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل، ولكن في نفس الكبش بدلاً منه.
فإن قلت: فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة، وقد استغنى عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان؟ قلت: الفائدة في ذلك أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه.
فإن قلت: لم قيل هاهنا {كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} وفي غيرها من القصص: إنا كذلك؟ قلت: قد سبقه في هذه القصة: {إنا كذلك}، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية.