فصل: تفسير الآيات (115- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (109- 111):

{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}
في حرف أبيّ: {أنه كان فريق} بالفتح، بمعنى: لأنه.
السخريّ- بالضم والكسر-: مصدر سخر كالسخر، إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل، كما قيل الخصوصية في الخصوص.
وعن الكسائي والفراء: أنّ المكسور من الهزء، والمضموم من السخرة والعبودية، أي: تسخروهم واستعبدوهم، والأوّل مذهب الخليل وسيبويه. قيل: هم الصحابة وقيل: أهل الصفة خاصة. ومعناه: اتخذتموهم هزؤاً وتشاغلتم بهم ساخرين {حتى أَنسَوْكُمْ} بتشاغلكم بهم على تلك الصفة {ذِكْرِى} فتركتموه، أي: تركتم أن تذكروني فتخافوني في أوليائي. وقرئ: {أَنَّهُمْ} بالفتح، والكسر استئناف، أي: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء. وبالفتح على أنه مفعول جزيتهم، كقولك جزيتهم فوزهم.

.تفسير الآيات (112- 114):

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}
{قال} في مصاحف أهل الكوفة. وقل: في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام؛ ففي {قَالَ} ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، وفي {قَل} ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.
استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها، لأنّ الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور، وأيام السرور قصار، أو لأنّ المنقضي في حكم ما لم يكن، وصدقهم الله في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ: {فسل العادّين} والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين إلاّ أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم؛ لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدّها كم هي، فسل من فيه أن يعدّ، ومن يقدر أن يلقي إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وقرئ: {العادين} بالتخفيف، أي: الظلمة، فإنهم يقولون كما نقول. وقرئ: {العاديين} أي: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

.تفسير الآيات (115- 118):

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}
{عَبَثاً} حال، أي: عابثين، كقوله: {لاَعِبِينَ} أو مفعول له، أي: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلاّ حكمة اقتضت ذلك، وهي: أن نتعبكم ونكلفكم المشاقّ من الطاعات وترك المعاصي، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} معطوف على {أَنَّمَا خلقناكم} ويجوز أن يكون معطوفاً على {عَبَثاً} أي: للعبث، ولترككم غير مرجوعين. وقرئ: {ترجعون} بفتح التاء {الحق} الذي يحق له الملك؛ لأنّ كل شيء منه وإليه. أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه. وصف العرش بالكرم لأنّ الرحمة تنزل منه والخير والبركة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كراماً. وقرئ: الكريم، بالرفع. ونحوه: {ذُو العرش المجيد} [البروج: 15]. {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كقوله: {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} [آل عمران: 115] وهي صفة لازمة، نحو قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء؛ كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه، فالله مثيبه. وقرئ: أنه لا يفلح بفتح الهمزة. ومعناه: حسابه عدم الفلاح، والأصل: حسابه أنه لا يفلح هو، فوضع الكافرون موضع الضمير لأنّ {مِنْ يَدُعُّ} في معنى الجمع، وكذلك (حِسَابُهُ.... إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ) في معنى: (حسابهم أنهم لا يفلحون).
جعل فاتحة السورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} وأورد في خاتمتها: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ سورةَ المؤمنونَ بشّرتْهُ الملائكةُ بالروحِ والريحانِ وما تقرُّ به عينُه عند نزولِ ملكِ الموتِ»
وروي: أنّ أوّل سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أوّلها، واتعظ بأربع آيات من آخرها: فقد نجا وأفلح.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عنده دويّ كدويّ النحل، فمكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال: «اللَّهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا» ثم قال: «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة»، ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} حتى ختم العشر.

.سورة النور:

.تفسير الآية رقم (1):

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}
{سُورَةٌ} خبر مبتدأ محذوف. و{أنزلناها} صفة. أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أي: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيداً ضربته، ولا محلّ لأنزلناها، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة أو اتل سورة وأنزلناها: صفة. ومعنى: {وفرضناها} فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أي: جعلناها واجبة مقطوعاً بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأنّ فيها فرائض شتى، وأنك تقول: فرضت الفريضة، وفرضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وتخفيفها، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم.

.تفسير الآية رقم (2):

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}
{الزانية والزانى} أي جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: {فاجلدوا}، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط، تقديره: التي زنت، والذي زنى فاجلدوهما، كما تقول: من زنى فاجلدوه، وكقوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم} [النور: 4]. وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر. وقرئ: {والزان} بلا ياء. والجلد: ضرب الجلد، يقال: جلده، كقولك: ظهره وبطنه ورأسه.
فإن قلت: أهذا حكم جميع الزناة والزواني، أم حكم بعضهم؟ قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإنّ المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول. إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجَم يهودِيّين زَنياً. وحجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَشرَكَ باللَّهِ فليسَ بمحصنٍ» فإن قلت: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لأن قوله: {الزانية والزانى} عام في الجميع، يتناول المحصن وغير المحصن.
قلت: الزانية والزاني يدلاّن على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكلّ والبعض جميعاً، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}. وقرئ: {ولا يأخذكم} بالياء. ورأفة، بفتح الهمزة. ورآفة على فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجدّ والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده. وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة في ذلك حيث قال: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» وقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وقيل: لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضرباً. وفي الحديث: «يُؤتى بوالٍ نقصَ مِنَ الحدّ سوطاً، فيقولُ: رحمةٌ لعبادِك، فيقالُ لَهُ: أأنتَ أرحمُ بهم مِنِّي، فيؤمرُ به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطاً فيقولُ لينتهوا عَنْ معاصِيك فيؤمرُ به إلى النار»، وعن أبي هريرة: «إقامة حدّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة» وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائماً على مجرّده ليس عليه إلاّ إزاره؛ ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً، مفرّقاً على الأعضاء كلها لا يستثنى منها إلاّ ثلاثاً: الوجه والرأس، والفرج، وفي لفظ الجلد: إشارة إلى أنه ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. والمرأة تجلد قاعدة، ولا ينزع من ثيابها إلاّ الحشو والفرو، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حدّ غير المحصن بلا تغريب.
وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وما يروى عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفوا؛ منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية، أو محمول على وجه التعزيز، والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحرّ واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنة كالحرّ، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس والأذى في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} [النساء: 15]، وقوله تعالى: {فَآذوهما}. قيل: تسميته عذاباً دليل على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذاباً، لأنه يمنع من المعاودة كما سمي نكالاً.
الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة؛ وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء.
وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله.
وعن الحسن: عشرة.
وعن قتادة: ثلاثة فصاعداً.
وعن عكرمة: رجلان فصاعداً.
وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأنّ الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحدّ والصحيح أن هذه الكبيرة من أمّهات الكبائر، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله: {وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68]، وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ الناسِ اتقُوا الزنَى فإنَّ فيهِ ستُّ خصالٍ: ثلاثٌ في الدُّنيا، وثلاثٌ في الآخرة. فأمّا اللاَّتي في الدُنيا: فيَذهبُ البهاء: ويورثُ الفقرَ، وينقصُ العمرَ، وأما اللاتي في الآخرة: فيُوجبُ السخطةَ، وسوءَ الحسابِ، والخلودَ في النار» ولذلك وفّى الله فيه عقد المائة بكماله، بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر. وشرع فيه القتلة الهولة وهي الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه. وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل. ويشهد له قول ابن عباس رضي الله عنهما: إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله.

.تفسير الآية رقم (3):

{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة، كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين. ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى: محرّم عليه محظور؛ لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد. ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب؛ وقد نبه على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] وقيل: كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهنّ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت.
وعن عائشة رضي الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة، ليس له أن يتزوجها لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانياً. وقد أجازه ابن عباس رضي الله عنهما وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك؟ فقالَ: «أولُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نكاحٌ، والحرامُ لا يحرمُ الحلال»، وقيل: المراد بالنكاح الوطء، وليس بقول لأمرين، أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلاّ في معنى العقد.
والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزني إلاّ بزانية والزانية لا يزني بها إلاّ زان. وقيل: كان نكاح الزانية محرّماً في أول الإسلام ثم نسخ، والناسخ قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32]. وقيل: الإجماع، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه.
فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان.
فإن قلت: كيف قدمت الزانية على الزاني أولاً، ثم قدم عليها ثانياً؟ قلت: سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن. فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بديء بذكرها. وأمّا الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب، ومنه يبدأ الطلب.
وعن عمرو بن عبيد رضي الله عنه: لا ينكح، بالجزم على النهي. والمرفوع فيه أيضاً معنى النهي، ولكن أبلغ وآكد، كما أن (رحمك الله) و (يرحمك) أبلغ من (ليرحمك) ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى: أن عادتهم جارية على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصوّن عنها. وقرئ: {وحَرم} بفتح الحاء.