فصل: تفسير الآيات (122- 123):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (122- 123):

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال، بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} كمن صفته هذه وهي قوله: {فِى الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15] أي صفتها هذه، وهي قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ}. {زُيّنَ للكافرين} أي زينه الشيطان، أو الله عزّ وعلا على قوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} [النمل: 4] ويدل عليه قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا} يعني: وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك. ومعناه: خليناهم ليمكروا وما كففناهم عن المكر، وخصّ الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، كقوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] وقرئ: {أكبر مجرميها} على قولك: هم أكبر قومهم، وأكابر قومهم {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} لأنّ مكرهم يحيق بهم. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم. روي أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً.
وروي: أن أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت ونحوها قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُنَشَّرَة} [المدثر: 52].

.تفسير الآية رقم (124):

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
{الله أَعْلَمُ} كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفى للنبوة إلاّ من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} من أكابرها {صَغَارٌ} وقماءة بعد كبرهم وعظمتهم {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار.

.تفسير الآيات (125- 127):

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}
{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلاّ بمن له لطف {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحبّ الدخول فيه {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أن يخذله ويخليه وشأنه، وهو الذي لا لطف له {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} يمنعه ألطافه، حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الإيمان. وقرئ: {ضيقاً} بالتخفيف والتشديد: {حَرَجاً} بالكسر، حرجاً- بالفتح- وصفاً بالمصدر {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء} كأنما يزاول أمراً غير ممكن. لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقرئ: {يصعد}، وأصله يتصعد.
وقرأ عبد الله: {يتصعد}. و {يصاعد}. وأصله: يتصاعد ويصعد، من صعد، ويصعد من أصعد {يَجْعَلُ الله الرجس} يعني الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب. أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب {وهذا صراط رَبّكَ} وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان {مُّسْتَقِيماً} عادلاً مطرداً. وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91] {لَهُمْ} لقوم يذكرون {دَارُ السلام} دار الله، يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها أو دار السلامة من كل آفة وكدر {عِندَ رَبّهِمْ} في ضمانه كما تقول لفلان عندي حق لا ينسى، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، {وَهُوَ وَلِيُّهُم} مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون.

.تفسير الآية رقم (128):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} منصوب بمحذوف، أي واذكر يوم نحشرهم، أو يوم نحشرهم قلنا {يامعشر الجن} أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجنّ كان ما لا يوصف لفظاعته، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم. والجنّ هم الشياطين {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلان من الأشياع {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس} الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل: استمتاع الإنس بالجنّ ما في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} [الجن: 60] وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال: أعوذ بربّ هذا الوادي، يعني به كبير الجنّ. واستمتاع الجنّ والإنس: اعتراف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم إجارتهم لهم {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا} يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم {خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} أي يخلدون في عذاب النار الأبد كله، إلاّ ما شاء الله إلاّ الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه. أهلكني الله إن نفست عنك إلاّ إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلاّ التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلاّ إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} لا يفعل شيئاً إلاّ بموجب الحكمة {عَلِيمٌ} بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد.

.تفسير الآية رقم (129):

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)}
{نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو نجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.

.تفسير الآية رقم (130):

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} واختلف في أن الجنّ هل بعث إليهم رسل منهم، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل: رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وقيل: أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى: {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريراً لهم. وقولهم: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوجون بها.
فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؟ قلت: تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.
فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.

.تفسير الآيات (131- 132):

{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك. و{أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى} تعليل، أي الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن (إن) هي التي تنصب الأفعال، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلاً من ذلك، كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66]، {بِظُلْمٍ} بسبب ظلم قدموا عليه. أو ظالماً، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون ولم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماً، وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح {وَلِكُلٍّ} من المكلفين {درجات} منازل {مّمَّا عَمِلُواْ} من جزاء أعمالهم {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.

.تفسير الآيات (133- 134):

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}
{وَرَبُّكَ الغنى} عن عباده وعن عبادتهم {ذُو الرحمة} يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها العصاة {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء} من الخلق المطيع {كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ} من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.

.تفسير الآية رقم (135):

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
(المكانة) تكون مصدراً يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن. وبمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة ومقام ومقامة. وقوله: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله؛ على مكانتك يا فلان، أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه {إِنّى عامل} أي عامل على مكانتي التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلاّ الشرّ، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه، فإن قلت: ما موضع {مَن}؟ قلت: الرفع إذا كان بمعنى (أي) وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى (الذي) و{عاقبة الدار} العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأنّ المنذر محقّ والمنذر مبطل.

.تفسير الآية رقم (136):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)}
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله، وأشياء منها لآلهتهم؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنيّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها: وقوله: {مِمَّا ذَرَأَ} فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكيه {بِزَعْمِهِمْ} وقرئ: بالضم، أي قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة {فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله} أي لا يصلّ إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين {فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.