فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (8):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}
الممنون: المقطوع. وقيل: لا يمنّ عليهم لأنه إنما يمن التفضل. فأما الأجر فحقّ أداؤه. وقيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى: إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر، كأصحّ ما كانوا يعملون.

.تفسير الآيات (9- 12):

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}
{أَئِنَّكُمْ} بهمزتين: الثانية بين بين. و {ءائنكم} بألف وبين همزتين {ذَلِكَ} الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو {رَبُّ العالمين... رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت.
فإن قلت: ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِهَا} وهل اقتصر على قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات} [المرسلات: 27]، {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِىَ} [الأنبياء: 31]، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} [النمل: 61]؟ قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مركوزة فيها كالمسامير: لمنعت من الميدان أيضاً، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة محصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لابد لها منه، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته {وبارك فِيهَا} وأكثر خيرها وأنماه {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود. وقسم فيها أقواتها {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء} فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل: خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الإثنين، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج: في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. وقرئ: {سواء} بالحركات الثلاث: الجر على الوصف والنصب على: استوت سواء، أي: استواء: والرفع على: هي سواء.
فإن قلت: بم تعلق قوله {لّلسَّائِلِينَ}؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر: أي: قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين. وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج.
فإن قلت: هلا قيل في يومين؟ وأي فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت: إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين، علم أن ما فيها خلق في يومين، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين، وهي الدلالة على أنها كانت أياماً كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال: في يومين- وقد يطلق اليومان على أكثرهما- لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} من قولك: استوى إلى مكان كذا، إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه. ومنه قوله تعالى: {فاستقيموا إِلَيْهِ} [فصلت: 6] والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل: كان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع.
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الأمر المطاع، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلاً ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا: أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير؛ من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني، فلم يتركني، ورائي الحجر الذي ورائي.
فإن قلت: لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوّة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف: ائتي يا أرض مدحوّة قراراً ومهاداً لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفاً لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما تقول: أتى عمله مرضياً، وجاء مقبولاً. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة والتدبير: من كون الأرض قراراً للسماء، وكون السماء سقفاً للأرض. وتنصره قراءة من قرأ: {آتيا} وآتينا: من المؤاتاة وهي الموافقة: أي: لتؤات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا: واقفنا وساعدنا. ويحتمل وافقاً أمري ومشيئتي ولا تمتنعا.
فإن قلت: ما معنى طوعاً أو كرهاً؟ قلت: هو مثل للزوم وتأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال؛ كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً. وانتصابهما على الحال، بمعنى: طائعتين أو مكرهتين.
فإن قلت: هلا قيل: طائعتين على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى؟ لأنها سموات وأرضون.
قلت: لما جعلن مخاطبات ومجيبات، ووصفن بالطوع والكره قيل: طائعين، في موضع: طائعات. نحو قوله: (ساجدين). {فقضاهن} يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال: {طَائِعِينَ} ونحوه: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال، والثاني: على التمييز، قيل: خلق الله السموات وما فيها في يومين: في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت لك، من أنه لو قيل: في يومين في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان.
فإن قلت: فلو قيل: خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين. أو قيل: بعد ذكر اليومين: تلك أربعة سواء؟ قلت: الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقاً لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك الركب، ليتميز الفاضل من الناقص، والمتقدم من الناكص، وترتفع الدرجات، ويتضاعف الثواب، {أَمْرِهَا} ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها {وَحِفْظاً} وحفظناها حفظاً، يعني من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً.

.تفسير الآيات (13- 14):

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة، أي: عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. وقرئ: {صعقة} (مثل) صعقة عاد وثمود: وهي المرة من الصعق أو الصعق. يقال: صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً، وهو من باب: فعلته ففعل {مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي: أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلاّ العتوّ والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان: {لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] يعني لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة، وتقول: استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة.
وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة؛ لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. وقيل: معناه إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم.
فإن قلت: الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاؤهم، وكيف يخاطبونهم بقولهم: (إنا بما أرسلتم به كافرون)؟ قلت: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم، أي: من قبلهم وممن يجيء من خلفهم، أي: من بعدهم؛ فكان الرسل جميعاً قد جاؤهم. وقولهم: (إنا بما أرسلتم به كافرون) خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. أن في {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} بمعنى أي، أو مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا، ومفعول شاء محذوف أي: {لَوْ شَاء رَبُّنَا} إرسال الرسل {لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} معناه: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقولهم: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكم، كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. روى: [985] أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً، وما يخفى عليّ، فأتاه فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضلّلنا، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت؛ فلما فرغ قال: بسم الله الرحمن الرحيم {حم} إلى قوله:
{صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلاّ قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلاّ أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود: أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.

.تفسير الآيات (15- 16):

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}
{فاستكبروا فِي الأرض} أي: تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوّة وعظم الأَجرام. أو استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده.
فإن قلت: القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية، وهي نقيضة الضعف. وأما القدرة فما لأجله يصحّ الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنيه وهي نقيضة العجز والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلاّ على معنى القدرة، فكيف صحّ قوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وإنما يصحّ إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية، وحقيقتها: زيادة القدرة، فكما صحّ أن يقال: الله أقدر منهم، جاز أن يقال: أقوى منهم، على معنى: أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم {يَجْحَدُونَ} كانوا يعرفون أنها حق، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف على فاستكبروا، أي: كانوا كفرة فسقة. الصرصر: العاصفة التي تصرصر، أي: تصوّت في هبوبها. وقيل: الباردة التي تحرق بشدّة بردها، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أي: يجمع ويقبض {نحسات} قرئ بكسر الحاء وسكونها. ونحس نحساً: نقيض سعد سعداً، وهو نحس. وأما نحس، فإمّا مخفف نحس، أو صفة على فعل، كالضخم وشبهه. أو وصف بمصدر. وقرئ: {لتذيقهم} على أنّ الإذاقة للريح أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزي، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيء، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى} وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي: أبلغ من وصفهم به. ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر.

.تفسير الآيات (17- 18):

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)}
وقرئ: {ثمود} بالرفع والنصب منوّناً وغير متنون، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء. وقرئ بضم الثاء {فهديناهم} فدللناهم على طريق الضلالة والرشد، كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10]. {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى: تحصيل البغية وحصولها، كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يُبق له عذراً ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها {صاعقة العذاب} داهية العذاب وقارعة العذاب. و{الهون} الهوان، وصف به العذاب مبالغة، أو أبدله منه، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم- وكفى به شاهداً- إلاّ هذه الآية، لكفى بها حجة.