فصل: تفسير الآيات (28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (17):

{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}
فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله:
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا

أو حمل الثاني على الأوّل لما في العصمة من معنى المنع.

.تفسير الآيات (18- 20):

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}
{المعوقين} المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون: كانوا يقولون {لإخوانهم} من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم و{هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي قربوا أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز: يسوّونَ فيه بين الواحد والجماعة. وأمّا تميم فيقولون: هلمّ يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمي به فعل متعدّ مثل احضر وقرب {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} [الأنعام: 15] {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا اتياناً قليلاً يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا تراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطرّوا إليه، كقوله: {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً}، {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً أو خوراً ولواذاً بك، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير- وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليهم. ونصب {أَشِحَّةً} على الحال أو على الذمّ. وقرئ: {أشحة}، بالرفع. و {صلقوكم} بالصاد.
فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا ولكنه تعليم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثوراً.
فإن قلت: ما معنى قوله: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف {يَحْسَبُونَ} أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} كرّة ثانية. تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب {يَسْئَلُونَ} كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال- لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة. وقرئ: {بدّي} على فعَّل جمع باد كغاز وغزَّي. وفي رواية صاحب الإقليد: {بديّ}، بوزن عديّ. ويساءلون، أي: يتساءلون. ومعناه: يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه: كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه.

.تفسير الآية رقم (21):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}
فإن قلت: فما حقيقة قوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وقرئ: {أسوة} بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أي: قدوة، وهو الموتسى به، أي: المقتدى به، كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد، أي: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد.
والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع. وهي المواساة بنفسه {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله} بدل من لكم، كقوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] يرجو الله واليوم الآخر: من قولك رجوت زيداً وفضله، أي: فضل زيد، أو يرجو أيام الله. واليوم الآخر خصوصاً. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف {وَذَكَرَ الله كَثِيراً} وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، والمؤتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان كذلك.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}
وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه، ويستنصروه في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214] فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} وأيقنوا بالجنة والنصر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً» أي: في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء {إيمانا} بالله وبمواعيده {وَتَسْلِيماً} لقضاياه وأقداره.

.تفسير الآيات (23- 27):

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضي الله عنهم: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يعني حمزة ومصعباً {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} يعني عثمان وطلحة. وفي الحديث: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» فإن قلت: ما قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حي لابد له من أن يموت. فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي: نذره. وقوله: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يحتمل موته شهيداً، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: فما حقيقة قوله: {صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ}؟ قلت: يقال: صدقني أخوك وكذبني، إذا قال لك الصدق والكذب. وأمّا المثل: صدقني سنّ بكره. فمعناه: صدقني في سن بكره، بطرح الجار وإيصال الفعل، فلا يخلو {مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقاً على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي بك، وهم وافون به فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوباً {وَمَا بَدَّلُواْ} العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة» وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب: جعل المنافقون، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما. ويعذبهم {إِن شَاء} إذا لم يتوبوا {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إذا تابوا {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} الأحزاب {بِغَيْظِهِمْ} مغيظين، كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20]. {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب. ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى أو استئنافاً {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالريح والملائكة {وَأَنزَلَ الذين} ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم. والصيصية ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبي: صيصية، ولشوكة الديك، وهي مخلبه التي في ساقه، لأنه يتحصن بها. روي أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال: ما هَذَا يا جبريلُ؟ قال: من متابعة قريش: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج، فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن اللَّهَ يأمرُكَ المسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس: أَنْ مَنْ كانَ سَامعاً مطيعاً فَلاَ يصلي العصرَ إلا في بني قريظةَ.
فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمي؟ فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً. وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وقرئ: {الرعب}، بسكون العين وضمها. وتأسرون، بضم السين.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: «إنكم في منازلكم»، وقال عمر رضي الله عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: «لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس» قال: رضينا بما صنع الله ورسوله {وَأَرْضاً لَّمْ} عن الحسن رضي الله عنه: فارس والروم.
وعن قتادة رضي الله عنه: كنا نحدث أنها مكة.
وعن مقاتل رضي الله عنه: هي خيبر.
وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم.

.تفسير الآيات (28- 29):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)}
أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. فبدأ بعائشة رضي الله عنها- وكانت أحبهنّ إليه- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ الله ذلك، فأنزل {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]. روي أنه قال لعائشة: «إنِّي ذاكرٌ لكَ أمراً، ولا عليك أنْ لا تعجلي فيه حتّى تستأمري أبويْكَ» ثم قرأَ عليها القرآنَ فقالَت: أفي هذا أستأمر أبويَّ، فإنِّي أريدُ الله ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ.
وروي أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنِّي اخترتك، فقال: «إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً» فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت نفسي. أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لابد من ذكر النفس في قول المخير أو المخيرة- وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود.
وعن الحسن وقتادة الزهري رضي الله عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار.
وعن عائشة رضي الله عنها: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقاً.
وروي: أفكان طلاقاً.
وعن عليّ رضي الله عنه. إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروي عنه أيضاً أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء. أصل تعال: أن يقوله من في المكان المرتفع، لمن في المكان المستوطيء، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى تعالين: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ. كما تقول: أقبل يخاصمني، وذهب يكلمني. وقام يهددني {أُمَتّعْكُنَّ} أعطكنّ متعة الطلاق.
فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبي حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضي الله عنه: متعتان، إحداهما: يقضي بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية: حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: المتعة حق مفروض.
وعن الحسن رضي الله عنه: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا تنقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها.
فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: {أمتعكنّ وأسرحكنّ} بالرفع؟ قلت: وجهه الاستئناف {سَرَاحاً جَمِيلاً} من غير ضرار طلاقاً بالسنة {مِنكُنَّ} للبيان لا للتبعيض.