فصل: تفسير الآيات (28- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (27):

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
{القول الثابت} الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه، وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر.
وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر.
وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}».
{وَيُضِلُّ الله الظالمين} الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنآ ءابآءَنَا} [الزخرف: 22- 23] وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء، وهم في الآخرة أضل وأذل {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآء} أي ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تابعة للحكمة، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم.

.تفسير الآيات (28- 30):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
{بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله} أي شكر نعمة الله {كُفْراً} لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً، ونحوه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82] أي شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر: وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة: أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوّام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم، وعن عمر رضي الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل: هم متنصرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ} ممن تابعهم على الكفر {دَارَ البوار} دار الهلاك. وعطف {جَهَنَّمَ} على دار البوار عطف بيان قرئ: {ليضلوا} بفتح الياء وضمها.
فإن قلت: الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمني، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضاً، على طريق التشبيه والتقريب {تَمَتَّعُواْ} إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه، وهو أمر الشهوة. والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} [الزمر: 8].

.تفسير الآية رقم (31):

{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}
المقول محذوف، لأن جواب {قُل} يدل عليه، وتقديره {قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ} أقيموا الصلاة وأنفقوا {يُقِيمُواْ الصلاوة وَيُنْفِقُواْ} وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا، بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا: وإنما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الذي هو {قُل} عوض منه، ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز فإن قلت: علام انتصب {سِرّا وَعَلاَنِيَةً}؟ قلت: على الحال، أي: ذوي سرّ وعلانية، بمعنى: مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أي وقتي سر وعلانية، أو على المصدر، أي: إنفاق سر وإنفاق علانية، و المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب. والخلال: المخالة.
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} قلت: من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيراً منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله تعالى: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تَجْزِى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى} [الليل: 19- 20] فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله، وقرئ: {لا بيع فيه ولا خلالُ} بالرفع.

.تفسير الآيات (32- 34):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}
{الله} مبتدأ، و{الذى خَلَقَ} خبره، و{مِنَ الثمرات} بيان للرزق، أي: أخرج به رزقاً هو ثمرات. ويجوز أن يكون {مِنَ الثمرات} مفعول أخرج، و{رِزْقاً} حالاً من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق {بِأَمْرِهِ} بقوله كن {دآئِبَينَ} يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات {وَسَخَّر لَكُمُ الَّيْلَ والنَّهَارَ} يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم {وءاتاكم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ} من للتبعيض، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ: {من كلّ} بالتنوين، وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون {مَا} موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال {لاَ تُحْصُوهَا} لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله {لَظَلُومٌ} يظلم النعمة بإغفال شكرها {كَفَّارٌ} شديد الكفران لها.
وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.

.تفسير الآيات (35- 36):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}
{هذا البلد} يعني البلد الحرام، زاده الله أمناً، وكفاه كل باغ وظالم، وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام {ءَامِناً} ذا أمن.
فإن قلت: أي فرق بين قوله: {اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] وبين قوله: {اجعل هذا البلد ءَامِنًا}؟ قلت: قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً {واجنبنى} وقرئ: {وأجنبني}، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه؛ فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد جنبني وأجنبني، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها {وَبَنِىَّ} أراد بنيه من صلبه وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً، واحتج بقوله: {واجنبني وبني} {أَن نَّعْبُدَ الأصنام} إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا: البيت حجر، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} فأعوذ بك أن تعصمني وبنيَّ من ذلك، وإنما جعلن مضلات؛ لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ، فكأنهنّ أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها {فَمَن تَبِعَنِى} على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي {فَإِنَّهُ مِنِّى} أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي، وكذلك قوله: «من غشنا فليس منا» أي ليس بعض المؤمنين، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم {وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك.

.تفسير الآية رقم (37):

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
{مِن ذُرّيَّتِى} بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه {بِوَادٍ} هو وادي مكة {غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} لا يكون فيه شيء من زرع قط، كقوله: {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} [الزمر: 28] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير.
وقيل للبيت المحرم، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرماً لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار، كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها، أو لأنه حرّم على الطوفان أي منع منه، كما سُمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه {لِيُقِيمُواْ الصلاة} اللام متعلقة بأسكنت، أي: ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روي عن مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل: لو لم يقل {مِّنَ} لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون {مِّنَ} للابتداء، كقولك: القلب مني سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. وقرئ: {آفدة}، بوزن عاقدة. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون من القلب كقولك: آدر، في أدؤر.
والثاني: أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ: {أفدة}، وفيه وجهان: أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً من قوله:
يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ

وقرئ: {تُهْوَى إليهم}، على البناء للمفعول، من هوى إليه وأهواه غيره. وتهوى إليهم، من هوى يهوي إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته {وارزقهم مّنَ الثمرات} مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً تجبى إليه. ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفاً من سلامة ذلك القلب السليم.

.تفسير الآيات (38- 39):

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى {إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك، وتخشعاً لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقاراً إلى ما عندك، واستعجالاً لنيل أياديك، وولهاً إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، رغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة.
وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: ما تخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق، وما نعلن: يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْء} من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام، كقوله: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] أو من كلام إبراهيم، يعني: وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. {ومن} للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما. {عَلَى} في قوله: {عَلَى الكبر} بمعنى مع كقوله:
إنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى ** أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ

وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين.
وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم {إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء} كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه.
قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه: سمع الله لمن حمده وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيداً، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي. والمراد سماع الله.