فصل: تفسير الآيات (33- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (33- 34):

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
وقرئ: {السجن} بالفتح على المصدر. وقال {يَدْعُونَنِى} على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً، لأنهنّ تنصحن له وزينّ له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلي من ركوب المعصية.
فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ} فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إليهنّ. والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا؛ لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وقرئ: {أصب إليهنّ} من الصبابة {مِنَ الجاهلين} من الذين لا يعملون بما يعلمون. لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح. وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء، لأنّ قوله {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى} فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف {السميع} لدعوات الملتجئين إليه {العليم} بأحوالهم وما يصلحهم.

.تفسير الآية رقم (35):

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
{بَدَا لَهُمْ} فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو: ليسجننه، والمعنى: بدالهم بداء، أي: ظهر لهم رأي ليسجننه، والضمير في {لَهُمْ} للعزيز وأهله {مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعة لها وجميلاً ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أوعدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن: {لتسجننه} بالتاء على الخطاب: خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم {حتى حِينٍ} إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود {عتى حين} وهي لغة هذيل، وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ: {عتى حين} فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود فكتب إليه: إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربياً وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
{مَّعَ} يدل على معنى الصحبة واستحداثها، تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحباً له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له {فَتَيَانَ} عبدان للملك: خبازه وشرابيه: رقي إليه أنهما يسمانه، فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام {إِنّى أَرَانِى} يعني في المنام، وهي حكاية حال ماضية {أَعْصِرُ خَمْرًا} يعني عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل: الخمر- بلغة عمان-: اسم للعنب. وفي قراءة ابن مسعود {أعصر عنباً} {مّنَ المحسنين} من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أي: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم. أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روي أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له.
وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا اصبروا تؤجروا، إنّ لهذا لأجراً، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك، ولكني أحسن جوارك، فكن في أي بيوت السجن شئت.
وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشدكما بالله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل عليّ من حبها بلاء، فلا تحباني- بارك الله فيكما- وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي؛ إني أراني في بستان، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها.
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}؟ قلت: إلى ما قصا عليه. والضمير يجري مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك.

.تفسير الآيات (37- 38):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، وفيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزيكة {بِتَأْوِيلِهِ} ببيان ماهيته وكيفيته؛ لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه {ذلكما} إشارة لهما إلى التأويل، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات {مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} وأوحي به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجم {إِنّى تَرَكْتُ} يجوزأن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلاً لما قبله. أي علمني ذلك وأوحي إليّ؛ لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء، ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مني به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبيّ يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله: {مَا كَانَ لَنَا} ما صحّ لنا معشر الأنبياء {أَن نُّشْرِكَ بالله} أي شيء كان من ملك أو جنيّ أو إنسيّ، فضلاً عن أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر، ثم قال {ذلك} التوحيد {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} أي على الرسل وعلى المرسل إليهم؛ لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه {ولكن أَكْثَرَ الناس} المبعوث إليهم {لاَ يَشْكُرُونَ} فضل الله فيشركون ولا ينتبهون وقيل: إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعاً لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.

.تفسير الآيات (39- 40):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}
{ياصاحبى السجن} يريد يا صاحبيَّ في السجن، فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك: يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق، ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول رجلا صدق، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك. ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله: {أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20] {ءَأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ} يريد التفرّق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أرباب شتى، يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا {خَيْرٌ} لكما {أَمِ} أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو {القهار} الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام {مَا تَعْبُدُونَ} خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر {إِلاَّ أَسْمَاء} يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى {سَمَّيْتُمُوهَا} سميتم بها. يقال: سميته بزيد، وسميته زيداً {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا} أي بتسميتها {مّن سلطان} من حجة {إِنِ الحكم} في أمر العبادة والدين {أَلاَ لِلَّهِ} ثم بين ما حكم به فقال {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم} الثابت الذي دلت عليه البراهين.

.تفسير الآية رقم (41):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)}
{أَمَّا أَحَدُكُمَا} يريد الشرابي {فَيَسْقِى رَبَّهُ} سيده.
وقرأ عكرمة {فيسقي ربه} أي يسقي ما يروي به على البناء للمفعول. روي أنه قال للأوّل: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده؛ وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل {قُضِىَ الأمر} قطع وتم ما {تَسْتَفْتِيَانِ} فيه من أمركما وشأنكما.
فإن قلت: ما استفتيا في أمر واحد، بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله، وظناً أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك، فقال لهما: قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، أي: ما يجرّ إليه من العاقبة، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر. وقيل: جحدا وقالا: ما رأينا شيئاً، على ما روي أنهما تحالما له، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
{ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ} الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي، ويكون الظنّ بمعنى اليقين {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} صفني عند الملك بصفتي، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشني من هذه الورطة {فَأَنْسَاهُ الشيطان} فأنسى الشرابي {ذِكْرَ رَبّهِ} أن يذكره لربه.
وقيل فأنسي يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره {بِضْعَ سِنِينَ} البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين.
فإن قلت: كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت: يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره، وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106].
فإن قلت: ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت: قد لابسه في قولك: فأنساه الشيطان ذكر ربه، أو عند ربه فجازت إضافته إليه، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة. أو على تقدير: فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه، فحذف المضاف الذي هو الإخبار.
فإن قلت: لم أنكر على يوسف الاستعانة بغير الله في كشف ما كان فيه، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} [المائدة: 2] وقال حكاية عن عيسى عليه السلام {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} [آل عمران: 52] وفي الحديث: «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم».
«من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة».
وعن عائشة رضي الله عنها: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه» وهل ذلك إلا مثل التداوي بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة. وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ؟ قلت: كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد إلا به، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً؛ لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا.
وعن الحسن أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.