فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (28):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
النجس: مصدر، يقال: نجس نجساً، قذر قذراً. ومعناه ذوو نجس؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنّهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير.
وعن الحسن: من صافح مشركاً توضأ. وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. وقرئ: {نجس}، بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل: إنما المشركون جنس نجس، أو ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعاً لرجس وهو تخفيف نجس، نحو: كبد، في كبد {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} بعد حجّ عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ويدلّ عليه قول عليّ كرمّ الله وجهه حين نادى ببراءة: ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم. وعند الشافعي: يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك: يمنعون منه ومن غيره من المساجد.
وعن عطاء رضي الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام: الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه، وقيل: المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحة ويعزلوا عن ذلك {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً بسبب منع المشركين من الحجّ وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدراراً، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم وأسلم أهل تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال: من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية. وقيل: بفتح البلاد والغنائم. وقرئ: {عائلة}، بمعنى المصدر كالعافية، أو حالاً عائلة. ومعنى قوله: {إِن شَاء} الله. إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ} لا يعطي ولا يمنع إلاّ عن حكمة وصواب.

.تفسير الآية رقم (29):

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
{مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للذين مع ما في حيزه. نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرّم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة.
وعن أبي روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل. وقيل: دين الله، يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده. سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل {عَن يَدٍ} إما أن يراد يد المعطي أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد: أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده. إذا انقاد وأصحب. ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثاً على يد أحد. ولكن عن يد المعطي إلى يد الأخذ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم. لأنّ قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم {وَهُمْ صاغرون} أي تؤخذ منهم على الصغار والذل. وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم- والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه، وتسقط بالإسلام عند أبي حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض. واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبي حنيفة: تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابئ وحربي، إلاّ على مشركي العرب وحدهم. روى الزهري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلاّ من كان من العرب وقال لأهل مكّة: «هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية»، وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم. والمأخوذ عند أبي حنيفة في أوّل سنة من الفقير الذي له كسب: اثنا عشر درهماً. ومن المتوسط في الغني: ضعفها، ومن المكثر: ضعف الضعف ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له. وعند الشافعي: يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيراً كان أو غنياً، كان له كسب أو لم يكن.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}
{عُزَيْرٌ ابن الله} مبتدأ وخبر، كقوله: المسيح ابن الله، وعزير: اسم أعجمي كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه: امتنع صرفه. ومن نوّن فقد جعله عربياً. وأمّا قول من قال: سقوط التنوين للالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ: {أحد الله} أو لأنّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا، فتمحل عنه مندوحة، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضي الله عنه: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بنِ مشْكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا ذلك. وقيل: قاله فنحاص. وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم فحفظه التوراة. فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلاّ لأنه ابنه. والدليل على أنّ هذا القول كان فيهم: أنّ الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا؛ مع تهالكهم على التكذيب.
فإن قلت: كل قول يقال بالفم فما معنى قوله: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم}؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. وما لا معنى له مقول بالفم لا غير.
والثاني: أن يراد بالقول المذهب، كقولهم: قول أبي حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد {يضاهون} لابد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه؛ فانقلب مرفوعاً. والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل: الضمير للنصارى، أي يضاهي قولهم: المسيح ابن الله، قول اليهود: عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم. وقرئ: {يضاهؤن} بالهمز من قولهم: امرأة ضهيأ على فعيل: وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة كما في عرقىء {قاتلهم الله} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق؟.

.تفسير الآية رقم (31):

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
اتخاذهم أرباباً: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرَّم الله وتحريم ما حلّله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. ونحوه تسميه أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، بل كانوا يعبدون الجنّ {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} [مريم: 44] وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه، ويحلّون ما حرّمه الله فتحلونه»؟ قلت: بلى. قال: «فتلك عبادتهم».
وعن فضيل رضي الله عنه. ما أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأمّا المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة. ألا ترى إلى قوله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81]. {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} أمرتهم بذلك أدلّة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام: أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة {سبحانه} تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في {وَمَا أُمِرُواْ} للمتخذين أرباباً، أي: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلاّ ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصحّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.

.تفسير الآيات (32- 33):

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة. ليطفئه بنفخة ويطمسه {لِيُظْهِرَهُ} ليظهر الرسول عليه السلام {عَلَى الدين كُلّهِ} على أهل الأديان كلهم. أو ليظهر دين الحق على كل دين.
فإن قلت: كيف جاز، أبى الله إلاّ كذا، ولا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ قلت: قد أجرى (أبى) مجرى (لم يرد) ألا ترى كيف قوبل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله: {ويأبى الله} وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره.

.تفسير الآيات (34- 35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ. ألا ترى إلى قولهم: أخد الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأحوال يؤكل بها فهي سبب الأكل. ومنه قوله:
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا ** يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا

يريد: علفاً يشترى بثمن إكاف. ومعنى أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع {والذين يَكْنِزُونَ} يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى، تغليظاً ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله: سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز. وقيل: هي ثابتة، وإنما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً» وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز وعن ابن عمر رضي الله عنهما: كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن أبي الجعد رضي الله عنهم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تباً للذهب تباً للفضة» قالها ثلاثاً. فقالوا له: أيّ مال نتخذ؟ قال: «لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تعين أحدكم على دينه» وبقوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها».
وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال: «كيتان» قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه، ويؤدّي عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل، وإلاّ دخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ.
وما روي عن علي رضي الله عنه: أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز. كلام في الأفضل.
فإن قلت: لم قيل: ولا ينفقونها، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ: لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} وقيل: ذهب به إلى الكنوز، وقيل: إلى الأموال. وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، كما أن معنى قوله:
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

وقيار كذلك.
فإن قلت: لم خصّا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلاّ من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما، فإن قلت: ما معنى قوله: {يُحْمَى عَلَيْهَا}؟ وهلا قيل: تحمى، من قولك: حمى الميسم وأحميته، ولا تقول: أحميت على الحديد؟ قلت: معناه أن النار تحمى عليها، أي توقد ذات حمى وحرّ شديد، من قوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 11] ولو قيل: يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى.
فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله: يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل: يحمى عليها، لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها، كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير وعن ابن عامر أنه قرأ: {تحمى} بالتاء.
وقرأ أبو حيوة: {فيكوى} بالياء.
فإن قلت: لم خصّت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلاّ الأغراضَ الدنيوية، ومن وجاهة عند الناس، وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم. وقيل: معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول. وقوله: {لأَنفُسِكُمْ} أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}. وقرئ: {تكنزون} بضم النون أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين.