فصل: تفسير الآيات (39- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (35):

{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
المكاء: فعال بوزن الثغاء والرغاء، من مكا يمكو إذا صفر: ومنه المكاء، كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه. وأصله الصفة، نحو الوضاء والفراء. وقرئ: (مكا) بالقصر. ونظيرهما البكي والبكاء. والتصدية: التصفيق، تفعلة من الصدى أو من صدَّ يصدّ، {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] وقرأ الأعمش: {وما كان صلاتهم} بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه، فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله:
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُه ** أدَاهَمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْراً

والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه {فَذُوقُواْ} عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.

.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر. وقيل: قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر. وقيل: نزلت في أبي سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً {لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]. {والذين كَفَرُواْ} والكافرون منهم {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه {لِيَمِيزَ الله الخبيث} الفريق الخبيث من الكفار {مِنَ} الفريق {الطيب} من المؤمنين، فيجعل الفريق {الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله تعالى: {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} يعني لفرط ازدحامهم {أولئك} إشارة إلى الفريق الخبيث، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبي بكر وعثمان في نصرته {فَيَرْكُمَهُ} فيجعله في جهنم في جملة ما يعذّبون به، كقوله: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ} الآية [التوبة: 35]، واللام على هذا متعلقة بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} وعلى الأوّل يحشرون، وأولئك: إشارة إلى الذين كفروا. وقرئ: ليميز على التخفيف.

.تفسير الآية رقم (38):

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)}
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} من أبي سفيان وأصحابه. أي قل لأجلهم هذا القول وهو {إِن يَنتَهُواْ} ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود. ونحوه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة {وَإِن يَعُودُواْ} لقتاله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يجب ما قبله» وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط. وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين. وبه احتجّ أبو حنيفة رحمه الله في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة. وقبلها؛ وفسر {وَإِن يَعُودُواْ} بالارتداد. وقرئ {يغفر لهم} على أن الضمير لله عز وجل.

.تفسير الآيات (39- 40):

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
{وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر وأسلموا {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ: {تعملون}، بالتاء، فيكون المعنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام {بَصِيرٌ} يجازيكم عليه أحسن الجزاء {وَإِن تَوَلَّوْاْ} ولم ينتهوا {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} أي ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
{أَنَّمَا غَنِمْتُم} ما موصولة. و{مِن شَيْء} بيانه. قيل: من شيء حتى الخيط والمخيط، {فَأَنَّ للَّهِ} مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فحق، أو فواجب أن لله خمسه. وروى الجعفي عن أبي عمرو، فإن لله بالكسر. وتقويه قراءة النخعي: {فللَّه خمسة}. والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه، و لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت واجب حق لازم؛ وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد، وقرئ {خمسه} بالسكون فإن قلت: كيف قسمة الخمس؟ قلت: عند أبي حنيفة رحمه الله أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بني هاشم وبني المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، استحقوه حينئذٍ بالنصرة والمظاهرة، لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما، أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة: فقال صلى الله عليه وسلم: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه وثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين، وابن السبيل. وأمّا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وأمّا عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين: كعدّة الغزاة من السلاح والكراع ونحو ذلك. وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الانثيين. والباقي للفرق الثلاث. وعند مالك بن أنس رحمه الله: الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم.
فإن قلت: ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه قلت: يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وأن يراد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب. وأن يراد بقوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة، تفضيلاً لها على غيرها.
كقوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين. وعلى الثاني ما قال أبو العالية: أنه يقسم على ستة أسهم: سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة. وعنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى. ثم يقسم ما بقي على خمسة. وقيل: إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث مذهب مالك بن أنس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة. وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء.
وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاً، ولا يتيم موسر.
وعن زيد بن علي رضي الله عنه: كذلك قال، ليس لنا أن نبني منه قصوراً، ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة.
وعن علي رضي الله عنه أنه قيل له: إنّ الله تعالى قال: {واليتامى والمساكين} [البقرة: 83] فقال: أيتامنا ومساكيننا.
وعن الحسن رضي الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولي الأمر من بعده.
وعن الكلبي رضي الله عنه أنّ الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة.
فإن قلت: بم تعلق قوله: {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بالله}؟ قلت: بمحذوف يدل عليه {واعلموا} المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على {للَّهِ} أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل: {على عَبْدِنَا} وقرئ {عبدنا} كقوله: {وَعَبَدَ الطاغوت} [المائدة: 60] بضمتين {يَوْمَ الفرقان} يوم بدر. و{الجمعان} الفريقان من المسلمين والكافرين. والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.

.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}
{إِذْ} بدل من يوم الفرقان. والعدوة: شط الوادي بالكسر والضم والفتح. وقرئ بهنّ و{بالعدية} على قلب الواو ياء، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية. والدنيا والقصوى: تأنيث الأدنى والأقصى.
فإن قلت: كلتاهما (فعلى) من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟ قلت: القياس هو قلب الواو ياء كالعليا. وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل. وقد جاء القصيا، إلا أنّ استعمال القصوى أكثر، كما كثر استعمال (استصوب) مع مجيء (استصاب) و (أغيلت) مع (أغالت) والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعني الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. وأسفل: نصب على الظرف، معناه: مكاناً أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل؛ لأنه خبر المبتدأ.
فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين (وأن العير كانت أسفل منهم)؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته، وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل، ولا يمش فيها إلا بتعب ومشقة. وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها، تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر. ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه القتال، لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له {لّيَقْضِيَ} متعلق بمحذوف، أي ليقضي أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك.
وقوله: {لِيَهْلِكَ} بدل منه. واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها. وقرئ: {ليهلك} بفتح اللام وحي، بإظهار التضعيف {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم. أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.