فصل: تفسير الآيات (40- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (38- 39):

{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}
{رِئَآءَ الناس} للفخار، وليقال: ما أسخاهم وما أجودهم! لا ابتغاء وجه الله. وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَسَاء قِرِيناً} حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر. ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله، والمراد الذم والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك. وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت. وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت باراً. وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزأة في العفو والبر. ولكنه ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} وعيد.

.تفسير الآيات (40- 42):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}
الذرّة النملة الصغيرة. وفي قراءة عبد الله: {مثقال نملة}، وعن ابن عباس: أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة. وفيه دليل على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء وأصغره، أو زاد في العقاب لكان ظلماً، وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} وإن يكن مثقال ذرّة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى مؤنث. وقرئ- بالرفع- على كان التامة {يضاعفها} يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية.
وعن أبي عثمان النهدي أنه قال لأبي هريرة: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة: لا، بل سمعته يقول: إن الله تعالى يعطيه ألفي ألف حسنة ثم تلا هذه الآية. والمراد: الكثرة لا التحديد {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيماً وسماه (أجراً) لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. وقرئ: {يضعفها} بالتشديد والتخفيف، من أضعف وضعف: وقرأ ابن هرمز: {نضاعفها} بالنون {فَكَيْفَ} يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم {إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117]. {وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ} المكذبين {شَهِيداً} وعن ابن مسعود: أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: {وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {حسبنا} {لَوْ تسوى بِهِمُ الارض} لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. وقيل: يودّون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء وقيل: تصير البهائم تراباً، فيودّون حالها {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم.
وقيل الواو للحال، أي يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون الله حديثاً. ولا يكذبون في قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]، لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض: وقرئ: {تسوى}، بحذف التاء من تتسوى. يقال: سويته فتسوّى نحو: لويته فتلوى. وتسوى بإدغام التاء في السين، كقوله: {يسمعون} [الصافات: 8]، وماضيه أسوى كأزكى.

.تفسير الآية رقم (43):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
روي: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون. ثم نزل تحريمها. ومعنى {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة} لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها. كقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا} [الإسراء: 32]، {لا تَقْرَبُواْ الفواحش} [الأنعام: 51]، وقيل معناه: ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»، وقيل: هو سكر النعاس وغلبة النوم، كقوله:
............ وَرَانُوا ** بِسُكْرِ سِنَاتِهِمْ كُلَّ الرُّيُونِ

وقرئ: {سكارى}، بفتح السين، {وسكرى}، على أن يكون جمعاً، نحو: هلكى، وجوعى، لأن السكر علة تلحق العقل. أو مفرداً بمعنى: وأنتم جماعة سكرى، كقولك: امرأة سكرى، وسكرى بضم السين كحبلى. على أن تكون صفة للجماعة. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى، بالفتح والضم {وَلاَ جُنُباً} عطف على قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً. والجنب: يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} استثناء من عامة أحوال المخاطبين. وانتصابه على الحال.
فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها، وهي حال السفر. وعبور السبيل: عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالاً ولكن صفة، لقوله (جنباً) أي ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل، أي جنباً مقيمين غير معذورين، فإن قلت: كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب: الذين لم يغتسلوا كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين. حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين. وقال: من فسر الصلاة بالمسجد معناه: لا تقربوا المسجد جنباً إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه أو احتلمتم فيه. وقيل: إن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد، فرخص لهم.
وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمرّ فيه وهو جنب إلا لعلي رضي الله عنه. لأن بيته كان في المسجد فإن قلت: أدخل في حكم الشرط أربعة: وهم المرضى، والمسافرون، والمحدثون، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم.
قلت: الظاهر أنه تعلق بهم جميعاً وأنّ المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا. وكذلك السفر إذا عدموه. لبعده. والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب. وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، تراباً كان أو غيره. وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح. لكان ذلك طهوره. وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه.
فإن قلت: فما يصنع بقوله تعالى في سورة المائدة: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْه} [المائدة: 6] أي بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت: قالوا إنّ (من) لابتداء الغاية.
فإن قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف. ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب، إلا معنى التبعيض.
قلت: هو كما تقول. والإذعان للحق أحق من المراء {إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} كناية عن الترخيص والتيسير. لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسراً غير معسر.
فإن قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء. والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب، فخص أوّل من بينهم مرضاهم وسفرهم، لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استسقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر. وقرئ: {من غيط}، قيل هو تخفيف غيط، كهين في هين، والغيط بمعنى الغائط.

.تفسير الآيات (44- 45):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)}
{أَلَمْ تَرَ} من رؤية القلب، وعدى بإلى، على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ أو بمعنى: ألم تنظر إليهم؟ {أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب} حظاً من علم التوراة، وهم أحبار اليهود {يَشْتَرُونَ الضلالة} يستبدلونها بالهدى وهو البقاء على اليهودية. بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ} أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، وتنخرطوا في سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم؛ بل يحبون أن يضل معهم غيرهم. وقرئ: {أن يضلوا}، بالياء بفتح الضاد وكسرها {والله أَعْلَمُ} منكم {بِأَعْدَائِكُمْ} وقد أخبركم بعداوة هؤلاء، وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون بكم؛ فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم {وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً} فثقوا بولايته ونصرته دونهم. أو لا تبالوا بهم، فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.

.تفسير الآية رقم (46):

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
{مّنَ الذين هَادُواْ} بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب: لأنهم يهود ونصارى. وقوله: {والله أَعْلَمُ}، {وكفى بالله}، {وكفى بالله} جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً، أي ينصركم من الذين هادوا، كقوله: {ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ} [الأنبياء: 77] ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، على أن {يُحَرِّفُونَ} صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. كقوله:
وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ** أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ

أي فمنهما تارة أموت فيها {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يميلونه عنها ويزيلونه؛ لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها الله فيها، وأزالوه عنها، وذلك نحو تحريفهم (أسمر ربعة) عن موضعه في التوراة بوضعهم (آدم طوال) مكانه، ونحو تحريفهم (الرجم) بوضعهم (الحدّ) بدله: فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عن مواضعه) وفي المائدة {من بعد مواضعه} [المائدة: 41] قلت: أمّا (عن مواضعه) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا {من بعد مواضعه} فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان. وقرئ: {يحرفون الكلام}. والكلم بكسر الكاف وسكون اللام: جمع كلمة تخفيف كلمة. قولهم: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} حال من المخاطب، أي اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذمّ أي اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع. قالوا ذلك اتكالاً على أنّ قولهم لا سمعت دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئاً. أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون (غير مسمع) مفعول اسمع، أي اسمع كلاماً غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوًّا عنه. ويحتمل المدح، أي اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلاناً إذا سبه. وكذلك قولهم: {راعنا} يحتمل راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} فتلا بها وتحريفاً، أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعناً) موضع (انظرنا) و(غير مسمع) موضع: لا أسمعت مكروهاً.
أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً.
فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم. ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به.
وقرأ أبيّ: {وأنظرنا}، من الإنظار وهو الإمهال.
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} قلت: إلى (أنهم قالوا) لأن المعنى. ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا. لكان قولهم ذلك خيراً لهم {وَأَقْوَمَ} وأعدل وأسدّ {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي خذلهم بسبب كفرهم، وأبعدهم عن ألطافه {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ} إيماناً {قَلِيلاً} أي ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره، أو أراد بالقلة العدم، كقوله:
قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ

أي عديم التشكي، أو إلا قليلاً منهم قد آمنوا.