فصل: تفسير الآيات (41- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (27- 40):

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40)}
السدر: شجر النبق. والمخضود: الذي لا شوك له، كأنما خضد شوكه.
وعن مجاهد: الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله، من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب. والطلح: شجر الموز. وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة.
وعن السدي: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل.
وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ: {وطلع} (فقال)، وما شأن الطلح، وقرأ قوله: {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] فقيل له: أَوَ تُحوِّلها؟ فقال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل.
وعن ابن عباس نحوه. والمنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه؛ فليست له ساق بارزة {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30)} ممتدّ منبسط لا يتقلص، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس {مَّسْكُوبٍ} يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا لا يتعنون فيه. وقيل: دائم الجرية لا ينقطع. وقيل: مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} لا تمنع عن متناولها بوجه، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا. وقرئ: {فاكهة كثيرة}، بالرفع على: وهناك فاكهة، كقوله: {وحور عين} [الواقعة: 22] {وَفُرُشٍ} جمع فراش. وقرئ: {وفرش} بالتخفيف {مَّرْفُوعَةٍ} نضدت حتى ارتفعت. أو مرفوعة على الأسرة. وقيل: هي النساء، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك. قال الله تعالى: {هُمْ وأزواجهم فِي ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أنشأناهن إِنشآءَ (35)} وعلى التفسير الأول أضمر لهنّ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن {أنشأناهن إِنشَاء} أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة، فإما أن يراد. اللاتي ابتدئ إنشاؤهن؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى: {إِنَّا أنشأناهن} فقال: «يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهنّ الله بعد الكبر» {أَتْرَاباً} على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهنَّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا؛ فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: واوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك وجع»
وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: «إنّ الجنة لا تدخلها العجائز»، فولت وهي تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: «أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز» وقرأ الآية {عُرُباً} وقرئ: {عربا} بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل {أَتْرَاباً} مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين، وأزواجهنّ أيضاً كذلك.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» واللام في {لأصحاب اليمين (38)} من صلة أنشأنا وجعلنا.

.تفسير الآيات (41- 56):

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}
{فِى سَمُومٍ} في حر نار ينفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} وماء حار متناه في الحرارة {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود بهيم {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ (44)} نفي لصفتي الظل عنه، يريد: أنه ظل، ولكن لا كسائر الظلال: سماه ظلاً، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه. والمعنى أنه ظلّ حارّ ضارّ إلا أنّ للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات. وفيه تهكم بأصحاب المشأمة، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. وقرئ: {لا بارد ولا كريم} بالرفع، أي: لا هو كذلك و{الحنث} الذنب العظيم. ومنه قولهم: بلغ الغلام الحنث، أي: الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم. ومنه: حنث في يمينه، خلاف برّ فيها. ويقال: تحنث إذا تأثم وتحرج {أَوَ ءَابَآؤُنَا} دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف.
فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في {لَمَبْعُوثُونَ} من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة، كما حسن في قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} لفصل (لا) المؤكدة للنفي. وقرئ: {أو آباؤنا} وقرئ: {لمجمعون} {إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة بمعنى من، كخاتم فضة. والميقات: ماوقت به الشيء، أي: حدّ. ومنه مواقيت الإحرام: وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً {أَيُّهَا الضآلون} عن الهدى {المكذبون} بالبعث، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم {مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ} من الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر وتفسيره. وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله: (منها) و(عليه) ومن قرأ: {من شجرة من زقوم} فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم، لأنه تفسيرها وهي في معناه {شرب الهيم} وقرئ: بالحركات الثلاث، فالفتح والضم مصدران.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: أيام أكل وشرب، بفتح الشين. وأما المكسور فبمعنى المشروب، أي: ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه فلا تروى: جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمّة:
فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْرِدٌ ** صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا

وقيل الهيم: الرمال. ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك، جمع على فعل كسحاب وسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل؛ فإذا ملؤا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم.
فإن قلت: كيف صحّ عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ قلت: ليستا بمتفقتين، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه: من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً، فكانتا صفتين مختلفتين. النزل: الرزق الذي يعدّ للنازل تكرماً له. وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وكقول أبي الشعر الضبي.
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ** جَعَلْنَا الْقَنَا وَالمُرْهِفَاتِ لَهُ نُزْلاَ

وقرئ: {نزلهم} بالتخفيف.

.تفسير الآيات (57- 62):

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)}
{فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} تحضيض على التصديق: إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدّقين به، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذبون به. وإما بالبعث؛ لأنّ من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً {ما تمنون} ما تمنونه، أي: تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ أبو السّمّال بفتح التاء يقال: أمنى النطفة ومناها. قال الله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [النجم: 46]. {تَخْلُقُونَهُ} تقدرونه تصوّرونه {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} تقديراً وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا، فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط. وقرئ: {قدرنا} بالتخفيف. سبقته على الشيء: إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، فمعنى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أمثالكم} أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه، وأمثالكم جمع مثل: أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن (ننشأكم) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني: أنا نقدر على الأمرين جميعاً: على خلق ما يماثلكم، وما لا يماثلكم؛ فكيف نعجز عن إعادتكم. ويجوز أن يكون {أمثالكم} جمع مثل، أي: على أن نبدّل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها. قرئ: {النشأة} والنشاءة. وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهَّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

.تفسير الآيات (63- 67):

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}
(أفرأيتم ما تحرثون) ه من الطعام، أي: تبذرون حبه وتعملون في أرضه {ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتاً، يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت» قال أبو هريرة: أرأيتم إلى قوله: {أَفَرَءَيْتُم...} الآية. والحطام: من حطم، كالفتات والجذاذ من فت وجذ: وهو ما صار هشيماً وتحطم {فَظَلْتُمْ} وقرئ بالكسر (فظللتم) على الأصل {تَفَكَّهُونَ} تعجبون.
وعن الحسن رضي الله عنه: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها. وقرئ: {تفكنون} ومنه الحديث: «مثل العالم كمثل الحمة يأيتها البعدآء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون» أي: يتندمون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)} لملزمون غرامة ما أنفقنا. أومهلكون لهلاك رزقنا، من الغرام: وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} محارفون محدودون، لا حظ لنا ولا بخت لنا؛ ولو كنا مجدودين، لما جرى علينا هذا. وقرئ: {أئنا}.

.تفسير الآيات (68- 70):

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}
{المآء الذى تَشْرَبُونَ} يريد: الماء العذب الصالح للشرب. و{المزن} السحاب: الواحدة مزنة. وقيل: هو السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء {أُجَاجاً} ملحاً زعاقاً لا يقدر على شربه.
فإن قلت: لم أدخلت اللام على جواب (لو) في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حطاما} [الواقعة: 65] ونزعت منه ههنا؟ قلت: إنّ (لو) لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علماً مشهوراً مكانه، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفاً ومأنوساً به: لم يبال بإسقاطه عن اللفظ، استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه. وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره. وناهيك بقول أوس:
حَتى إذَا الْكلاَّبُ قَالَ لَهَا ** كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا

وحذفه (لم أر) فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه. ويجوز أن يقال: إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم. ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضاً ** سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبَماً زَلاَلاَ

وسقى بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة؛ ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب.

.تفسير الآيات (71- 74):

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}
{تُورُونَ} تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة؛ شبهوهما بالفحل والطروقة {شَجَرَتَهَآ} التي منها الزناد {تَذْكِرَةً} تذكيراً لنار جهنهم، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم» {ومتاعا} ومنفعة {لّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء وهي القفر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من أيام، أي لم آكل شيئاً {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ} فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، أو أراد بالاسم: الذكر، أي: بذكر ربك. و{العظيم} صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح وهو أن يقول: سبحان الله، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكراً لله على النعم التي عدّها ونبه عليها.