فصل: تفسير الآيات (5- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (5- 7):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
وعد الله الجزاء بالثواب والعقاب {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ} فلا تخدعنكم {الدنيا} ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة. والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه. وقرئ بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ كقاعد وقعود أخبرنا الله عزّ وجلّ أن الشيطان لنا عدوّ مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، فوعظنا عزّ وجلّ بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله {فاتخذوه عَدُوّاً} في عقائدكم وأفعالكم. ولا يوجدن منكم إلاّ ما يدلّ على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته: هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك، وأن يكونوا من أصحاب السعير. ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء، ليقطع الأطماع الفارغة والأماني الكاذبة، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما.

.تفسير الآية رقم (8):

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}
لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً} يعني: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين، كمن لم يزين له، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا) فقال: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي، ويعتنق طاعة الهوى، حتى يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه، ويقعد تحت قول أبي نواس:
اْقِنِي حَتَّى تَرَانِي ** حَسَناً عِنْدِي الْقَبِيحُ

وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم: اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم. وذكر الزجاج أنّ المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه: أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لدلالة {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} عليه حسرات: مفعول له يعني: فلا تهلك نفسك للحسرات. وعليهم صلة تذهب، كما تقول: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً. أو هو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بحسرات، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته، ويجوز أن يكون حالاً كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ** حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُورَاً

يريد: رجعن كلاكلاً وصدوراً، أي: لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قوله:
فَعَلَى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي ** حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ

وقرئ: {فلا تذهب نفسك} {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}
وقرئ: {أرسل الريح}.
فإن قلت: لم جاء {فَتُثِيرُ} على المضارعة دون ما قبله، وما بعده؟ قلت؛ ليحكى الحال التي تقع فيها آثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية، بحال تستغرب، أو تهمّ المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبّط شراً:
بِأَبِي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي ** بَسَهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَان

فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّت ** صَرِيعاً للْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ

لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، وكأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول، وثباته عند كلّ شدّة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها: لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا، وأحيينا؛ معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه. والكاف في {كذلك} في محلّ الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات وروي: أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فقال: «هلْ مررتَ بِوَادِي أهْلك محلاً ثُمَّ مررتَ به يهتزّ خضراً» قال: نَعمْ. قالَ: «فكذلكَ يحيي الله الموتى وتلكَ آيتُهُ في خَلْقِهِ» وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال، تنبت منه أجساد الخلق.

.تفسير الآية رقم (10):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
كان الكافرون يتعزرون بالأصنام، كما قال عزّ وجلّ: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} [مريم: 81]، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال تعالى: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 139] فبين أن لا عزة إلاّ لله ولأوليائه. وقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمعنى فليطلبها عند الله، فوضع قوله: {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} موضعه، استغناء به عنه لدلالته عليه؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد: فليطلبها عندهم؛ إلاّ أنك أقمت ما يدل عليه مقامه. ومعنى: {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} أنّ العزّة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة. ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} والكلم الطيب: لا إله إلاّ الله. عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أنّ هذه الكلم لا تقبل. ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عزّ وجلّ: {إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} [المطففين: 18] إلاّ إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها. وقيل: الرافع الكلم، والمرفوع العمل؛ لأنه لا يقبل عمل إلاّ من موحد. وقيل: الرافع هو الله تعالى، والمرفوع العمل. وقيل: الكلم الطيب: كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه» وفي الحديث: «ولا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل، ولا يقبل قولاً ولا عملاً إلاّ بنية، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بإصابة السنة» وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وقرئ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} على البناء للمفعول. و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} على تسمية الفاعل، من أصعد والمصعد: هو الرجل أي يصعد إلى الله عزّ وجلّ الكلم الطيب، وإليه يصعد الكلام الطيب. وقرئ: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ}، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عزّ وجلّ.
فإن قلت: مكر: فعل غير متعدّ. لا يقال: مكر فلان عمله فبم نصب {السيئات}؟ قلت: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] أصله والذين مكروا والمكرات السيئات. أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم: إما إثباته، أو قتله، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]. {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} يعني: مكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور، أي: يكسد ويفسد، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] وقوله: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}
{أزواجا} أصنافاً، أو ذكرانا وإناثاً، كقوله تعالى: {أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا} [الشورى: 50] وعن قتادة رضي الله عنه: زوج بعضهم بعضاً {بِعِلْمِهِ} في موضع الحال، أي: إلاّ معلومة له.
فإن قلت: ما معنى قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ}؟ قلت: معناه وما يعمر من أحد، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه، فإن قلت: الإنسان إما معمر، أي طويل العمر: أو منقوص العمر، أي قصيره. فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال، فكيف صحّ قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}؟ قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد. وعليه كلام الناس المستفيض. يقولون: لا يثيب الله عبداً، ولا يعاقبه إلاّ بحق. وما تنعمت بلداً ولا أجتويته إلاّ قل فيه ثوائي وفيه تأويل آخر: هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلاّ في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حجّ فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حجّ وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلع الستين فقد عمر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله عنه: لو أن عمر دعا الله لأخّر في أجله، فقيل لكعب: أليس قد قال الله: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] قال: فقد قال الله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} وقد استفاض على الألسنة: أطال الله بقاءك، وفسح في مدتك وما أشبهه.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره.
وعن قتادة رضي الله عنه: المعمر من بلغ الستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب: اللوح. عن ابن عباس رضي الله عنهما: ويجوز أن يراد بكتاب الله: علم الله، أو صحيفة الإنسان. وقرئ: {ولا ينقص} على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}
ضرب البحرين: العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه {وَمِنْ كُلّ} أي: ومن كل واحد منهما {تأكلون لحماً طرياً} وهو السمك {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} وهي اللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الفلك فِيهِ} في كل {مَوَاخِرَ} شواق للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء. ويقال للسحاب: بنات مخر، لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر، لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره {مِن فَضْلِهِ} من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية، ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل، لدلالة المعنى عليه. وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنما قيل: لتبتغوا، ولتشكروا. والفرات: الذي يكسر العطش. والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته. وقرئ: {سيغ} بوزن سيد: وسيغ بالتخفيف، وملح: على فعل. والأجاج: الذي يحرق بملوحته. ويحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ: وجرى الفلك فيه والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74].