فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (21- 24):

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}
{واتبعوا} رؤسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة {خَسَارًا} في الآخرة، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها، تحقيقاً له وتثبيتاً، وإبطالاً لما سواه. وقرئ: {وولده} بضم الواو وكسرها {وَمَكَرُواْ} معطوف على لم يزده، وجمع الضمير وهو راجع إلى من؛ لأنه في معنى الجمع والماكرون: هم الرؤساء ومكرهم: احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصدّهم عن الميل إليه والاستماع منه. وقولهم لهم: لانذرنّ آلهتكم إلى عبادة رب نوح {مَكْراً كُبَّاراً} قرئ بالتخفيف والتثقيل. والكبار كبر من الكبير والكبار أكبر من الكبار، ونحوه: طوال وطوّال {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً} كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم {لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ} وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب، فكان ودّ لكلب، وسواع لهمذان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث، وقيل هي أسماء رجال صالحين. وقيل: من أولاد آدم ماتوا، فقال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا؛ فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم؛ فعبدوهم. وقيل: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر. وقرئ {ودّا} بضم الواو.
وقرأ الأعمش {ولا يغوثا ويعوقا} بالصرف، وهذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف: إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات ودا وسواعاً ونسراً، كما قرئ: {وضحاها} بالإمالة، لوقوعه مع الممالات للازدواج {وَقَدْ أَضَلُّواْ} الضمير للرؤساء. ومعناه: وقد أضلوا {كَثِيراً} قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأوّل من أضلوهم. أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيراً، يعني أنّ هؤلاء المضلين فيهم كثرة. ويجوز أن يكون للأصنام، كقوله تعالى: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [إبراهيم: 36].
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين}؟ قلت: على قوله: {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى} على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد {قَالَ} وبعد الواو النائبة عنه: ومعناه قال رب إنهم عصوني، وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالاً، أي: قال هذين القولين وهما في محل النصب، لأنهما مفعولا {قال} كقولك: قال زيد نودي للصلاة وصل في المسجد؛ تحكى قوليه معطوفاً أحدهما على صاحبه.
فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت: المراد بالضلال: أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسنَ الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال: الضياع والهلاك، لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} [نوح: 28].

.تفسير الآيات (25- 27):

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}
تقديم {مّمَّا خطيائاتهم} لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم، وأكد هذا المعنى بزيادة (ما) وفي قراءة ابن مسعود {من خطيئاتهم ما أغرقوا} بتأخير الصلة، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهنّ، وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعى عليهم كفرهم، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب، لئلا يتكل المسلم الخاطئ على إسلامه، ويعلم أنّ معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى. وقرئ {خطيئاتهم} بالهمزة. وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها وخطاياهم وخطيئتهم بالتوحيد على إرادة الجنس. ويجوز أن يراد الكفر {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم، لاقترابه، ولأنه كائن لا محالة، فكأنه قد كان. أو أريد عذاب القبر. ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير: أصابه ما يصيب المقبور من العذاب.
وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب. وتنكير النار إما لتعظيمها، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعاً من النار {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} تعريض بإتخاذهم آلهة من دون الله وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا} [الأنبياء: 43]. {دَيَّاراً} من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيام وقيوم؛ وهو فيعال من الدور. أو من الدار؛ أصله ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالاً لكان دوّاراً.
فإن قلت: بم علم أن أولادهم يكفرون، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه، ويقول: أحذر هذا، فإنه كذاب، وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك؛ وقد أخبره الله عزّ وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن؛ ومعنى {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه، كقوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه».

.تفسير الآية رقم (28):

{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
{ولوالدى} أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخا بنت أنوش: كانا مؤمنين.
وقيل هما آدم وحواء.
وقرأ الحسين بن علي {ولولدي} يريد: ساما وحاما {بَيْتِىَ} منزلي. وقيل: مسجدي. وقيل: سفينتي؛ خص أوّلا من يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات {تَبَاراً} هلاكاً.
فإن قلت: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ قلت: غرقوا معهم لا على وجه العقاب، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق، وكأن ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى» وعن الحسن: أنه سئل عن ذلك فقال: علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقيل: أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة، فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام».

.سورة الجن:

.تفسير الآيات (1- 5):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}
قرئ {أحى} وأصله وحي؛ يقال: أوحي إليه ووحى إليه، فقلبت الواو همزة، كما يقال: أعد وأزن {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} [المرسلات: 11]، وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضاً كإشاح وإسادة، وإعاء أخيه، وقرأ ابن أبي عبلة {وحى} على الأصل {أَنَّهُ استمع} بالفتح، لأنه فاعل أوحى. وإنا سمعنا: بالكسر؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنّ كسر: وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18]، {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} [الجن: 19]، ومن فتح كلهنّ فعطفاًعلى محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي {نَفَرٌ مِّنَ الجن} جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: كانوا من الشيصبان، وهم أكثر الجنّ عدداً وعامة جنود إبليس منهم {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا} أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله: {فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كتابا} [الأحقاف: 29 30]، {عَجَبًا} بديعاً مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب. وفيه مبالغة: وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره {يهدى إِلَى الرشد} يدعو إلى الصواب. وقيل: إلى التوحيد والإيمان. والضمير في {بِهِ} للقرآن؛ ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك: قالوا: {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} أي: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل؛ لأنّ قوله: {بِرَبِّنَا} يفسره {جَدُّ رَبِّنَا} عظمته من قولك: جدّ فلان في عيني، أي: عظم. وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا.
وروي في أعيننا. أو ملكه وسلطانه أو غناه، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت؛ لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. أو لسلطانه وملكوته أو لغناه. وقوله: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيان لذلك. وقرئ {جدّا ربنا} على التمييز و {جدّ ربنا} بالكسر، أي: صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولداً، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم: إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن. والشطط: مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره. ومنه: أشط في السوم، إذا أبعد فيه، أي: يقول قولا هو في نفسه شطط؛ لفرط ما أشطَّ فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله، وكان في ظننا أنّ أحداً من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفتري عليه ما ليس بحق، فكنا نصدّقهم فيم أضافوا إليه من ذلك، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم {كَذِبًا} قولاً كذباً، أي: مكذوباً فيه. أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول. ومن قرأ {أن لن تقوّل} وضع كذباً موضع تقوّلا، ولم يجعله صفة؛ لأنّ التقوّل لا يكون إلا كذباً.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}
الرهق: غشيان المحارم. والمعنى: أنّ الإنس بإستعاذتهم بهم زادوهم كبراً وكفراً؛ وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم؛ فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس؛ فذلك رهقهم. أو فزاد الجن الإنس رهقاً بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم {وَأَنَّهُمْ} وأنّ الإنس {ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ} وهو من كلام الجن، يقوله بعضهم لبعض.
وقيل الآيتان من جملة الوحي. والضمير في (وأنهم ظنوا) للجنّ، والخطاب في {ظَنَنتُمْ} لكفار قريش.

.تفسير الآيات (8- 9):

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}
اللمس: المس، فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرف قال:
مَسَسْنَا مِنَ الآبَاءِ شَيْئاً وَكُلُّنَا ** إلى نَسَبٍ في قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ

يقال: لمسه والتمسه، وتلمسه (كطلبه وأطلبه وتطلبه) ونحوه: الجس. وقولهم؛ جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس: اسم مفرد في معنى الحرّاس، كالخدم في معنى الخدّام؛ ولذلك وصف بشديد، ولو ذهب إلى معناه لقيل: شداداً؛ ونحوه.
أَخْشَى رُجَيْلاً أَوْ رُكُيْباً غَادِيَا

لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل الحرس: اسم جمع للراصد، على معنى: ذوى شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب. بمعنى الراصد أو كقوله:
...... وَمعى جِيَاعاً

يعني يجد شهاباً راصداً له ولأجله.
فإن قلت: كأن الرجم لم يكن في الجاهلية، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} [الملك: 5]، فذكر فائدتين في خلق الكواكب: التزيين، ورجم الشياطين؟ قلت: قال بعضهم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته، والصحيح أنه كان قبل المبعث؛ وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية. قال بشر بن أبي خازم:
وَالْعِيرُ يُرْهِقُهَا الْغُبَارُ وَجَحْشُهَا ** يَنْقَضُّ خَلْفَهُمَا انْقِضَاضَ الْكَوْكَبِ

وقال أوس بن حجر:
وَانْقَضَّ كَالدُّرِّيِّ يَتْبَعُه ** نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالهُ طُنُبَا

وقال عوف بن الخرع:
يَرُدُّ عَلَيْنَا الْعِيرَ مِنْ دُونِ إلْفِهِ ** أَوِ الثَّوْرَ كَالدُّرِّىِّ يَتْبَعُهُ الدَّمُ

ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة؛ حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟» فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم. وفي قوله: {مُلِئَتْ} دليل على أن الحادث هو المل والكثرة، وكذلك قوله: {نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد} أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.