فصل: تفسير الآيات (64- 68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (61):

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
{فَمَنْ حَاجَّكَ} من النصارى {فِيهِ} في عيسى {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} أي من البينات الموجبة للعلم {تَعَالَوْاْ} هلموا. والمراد المجيء بالرأي والعزم، كما تقول تعالَ نفكر في هذه المسألة {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} أي يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بالفتح، والضم: اللعنة. وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك (أبهله) إذا أهمله. وناقة باهل: لاصرار عليها وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا.
وروي: «أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيٌّ مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غداً محتضنا الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي وعليٌّ خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا. قال: فإني أناجزكم. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أنّ نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا». وعن عائشة رضي الله عنها: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود. فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} [الأحزاب: 33]».
فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

.تفسير الآيات (62- 63):

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
{إِنَّ هَذَا} الذي قص عليك من نبأ عيسى {لَهُوَ القصص الحق} قرئ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون، لأن اللام تنزل من {هُوَ} منزلة بعضه، فخفف كما خفف عضد. وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها، وإما مبتدأ والقصص الحق خبره. والجملة خبر إن.
فإن قلت: لم جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدأ. و (من) في قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} بمنزلة البناء على الفتح في (اَ إله إِلاَّ الله) في إفادة معنى الاستغراق، والمراد الردّ على النصارى في تثليثهم {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].

.تفسير الآيات (64- 68):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
{يااأهل الكتاب} قيل هم أهل الكتابين. وقيل: وفد نجران. وقيل: يهود المدينة {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} مستوية بيننا وبينكم، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير الكلمة قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} يعني تعالوا إليها حتى لا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله، كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} [التوبة: 31] وعن عدي بن حاتم: «ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. قال: هو ذاك»، وعن الفضيل: لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وقرئ {كلمة} بسكون اللام.
وقرأ الحسن {سواء} بالنصب بمعنى استوت استواء {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن التوحيد {فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما: اعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم: إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال {هاأنتم هؤلاءآء} ها للتنبيه، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره. و{حاججتم} جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} مما نطق به التوراة والإنجيل {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم.
وعن الأخفش: ها أنتم هو آأنتم على الاستفهام. فقلبت الهمزة هاء. ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم. وقيل: {هؤلاءآء} بمعنى اللذين و{حاججتم} صلته {والله يَعْلَمُ} علم ما حاججتم فيه {وَأَنتُمْ} جاهلون به ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم وما كان إلا {حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} كما لم يكن منكم. أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب {لَلَّذِينَ اتبعوه} في زمانه وبعده {وهذا النبى} خصوصاً {والذين ءامَنُواْ} من أمته. وقرئ: {وهذا النبيَّ} بالنصب عطفاً على الهاء في اتبعوه، أي اتبعوه واتبعوا هذا النبي. وبالجر عطفاً على إبراهيم.

.تفسير الآيات (69- 71):

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}
{وَدَّت طَّائِفَةٌ} هم اليهود، دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم. أو وما يقدرون على إضلال المسلمين. وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم {بأيات الله} بالتوراة والإنجيل. وكفرهم بها: أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها. وشهادتهم: اعترافهم بأنها آيات الله. أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} نعته في الكتابين. أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون أنها حق. قرئ {تلبسون} بالتشديد وقرأ يحيى بن وثاب {تلبَسُون} بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل. كقوله: «كلابس ثوبَيْ زور» وقوله:
إذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا

.تفسير الآيات (72- 74):

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
{وَجْهَ النهار} أوّله. قال:
مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ** فَلْيَأْتِ نِسْوتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ

والمعنى: أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار {واكفروا} به في آخره لعلهم يشكون في دينهم ويقولون: ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم. وقيل: تواطأ اثنا عشر من أحبار يهود خيبر، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أوّل النهار من غير اعتقاد، واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم. وقيل: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة قال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أوّل النهار، ثم اكفروا به في آخره وصلوا إلى الصخرة، ولعلهم يقولون: هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون {وَلاَ تُؤْمِنُواْ} متعلق بقوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} وما بينهما اعتراض. أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، أنّ المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.
فإن قلت: فما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه أنّ الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم، أو يزيد ثباته على الإسلام، كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} يريد الهداية والتوفيق. أو يتمَّ الكلام عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} على معنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم: إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. وقوله: {أَن يؤتى} معناه لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه، لا لشيء آخر، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي. أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأن يؤتى أحد بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ، بمعنى: إلا أن يؤتى أحد.
فإن قلت: فما معنى قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} على هذا؟ قلت: معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم. ويجوز أن يكون {هُدَى الله} بدلاً من الهدى، و{أَن يؤتى أَحَدٌ} خبر إن، على معنى: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم. وقرئ: {إن يؤتى أحد}. على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب. أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم، ويجوز أن ينتصب {أَن يؤتى} بفعل مضمر يدل عليه قوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنه قيل: قل إن الهدى هدى الله، فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ لأن قولهم {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا.