فصل: تفسير الآيات (68- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (60):

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}
{وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل} الخطاب للكفرة، أي أنتم منسدحون الليل كله كالجيف {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} ما كسبتم من الآثام فيه {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الأثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} وهو المرجع إلى موقف الحساب {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في ليلكم ونهاركم.

.تفسير الآيات (61- 62):

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}
{حَفَظَةً} ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون.
وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة، تكتب لغط اللفظة: فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب.
فإن قلت: الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه.
وعن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله. وما من أهل بيت إلاّ ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين. وقرئ: {توفاه}، ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعاً بمعنى تتوفاه. و{يُفَرّطُونَ} بالتشديد والتخفيف، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط مجاوزة الحدّ أي لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله} أي إلى حكمه وجزائه {مولاهم} مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم {الحق} العدل الذي لا يحكم إلاّ بالحق {أَلاَ لَهُ الحكم} يومئذ لا حكم فيه لغيره {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} لا يشغله حساب عن حساب. وقرئ: {الحقَّ} بالنصب على المدح كقولك: الحمد لله الحقَّ.

.تفسير الآيات (63- 64):

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}
{ظلمات البر والبحر} مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أي اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل؛ ويجوز أن يراد. ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} على إرادة القول {مِنْ هذه} من هذه الظلمة الشديدة. وقرئ: {يُنَجّيكُمْ} بالتشديد والتخيف، وأنجانا، وخفية، بالضم والكسر.

.تفسير الآيات (65- 67):

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}
{هُوَ القادر} هو الذي عرفتموه قادراً وهو الكامل القدرة {عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل من فوقكم: من قبل أكابركم وسلاطينكم. ومن تحت أرجلكم: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَة ** حَتَّى إذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرني جبريل أنّ فناء أمتي بالسيف»، وعن جابر بن عبد الله: لما نزل {مّن فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» فلما نزل: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قال: «هاتان أهون» ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. والضمير في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ} راجع إلى العذاب {وَهُوَ الحق} أي لابد أن ينزل بهم {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ وكُل إليَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجباراً، إنما أنا منذر {لِّكُلِّ نَبَإٍ} لكل شيء ينبأ به، يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به {مُّسْتَقِرٌّ} وقت استقرار وحصول لابد منه. وقيل: الضمير في {نَبَإٍ} للقرآن.

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}
{يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا} في الاستهزاء بها والطعن فيها؛ وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فلا تجالسهم وقم عنهم {حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فلا بأس أن تجالسهم حينئذ {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم {فَلاَ تَقْعُدْ} معهم {بَعْدَ الذكرى} بعد أن تذكر النهي. وقرئ: {ينسينك} بالتشديد. ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء} وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم {ولكن} عليهم أن يذكروهم {ذكرى} إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون، أي يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها.
وروي: أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم.
فإن قلت: ما محل {ذكرى}؟ قلت: يجوز أن يكون نصباً على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أي تذكيراً. ورفعاً على: ولكن عليهم ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل {مِن شَيْء}، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأنّ قوله: {مِنْ حِسَابِهِم} يأبى ذلك.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
{اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. أواتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم. أواتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزؤا. وقيل: جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، وغير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله. ومعنى {ذرهم} أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم، {وَذَكّرْ بِهِ} أي: بالقرآن {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ} مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها. وأصل الإبسال المنع، لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال:
وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْم ** بَعَوْنَاهُ وَلاَ بِدَمٍ مُرَاقِ

ومنه: هذا عليك بسل، أي حرام محظور. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور. يقال: بسر الرجل إذا اشتد عبوسه. فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس: منقبض الوجه {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} وإن تفد كل فداء، والعدل: الفدية. لأن الفادي يعدل المفدي بمثله. وكلّ عدل: نصب على المصدر. وفاعل {يُؤْخَذْ} قوله: {مِنْهَآ} لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] فبمعنى المفديّ به، فصحّ إسناده إليه {أولئك} إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان.

.تفسير الآية رقم (71):

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}
{قُلْ أَنَدْعُواْ} أنعبد {مِن دُونِ الله} الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا {وَنُرَدُّ على أعقابنا} راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام {كالذى استهوته الشياطين} كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان {فِى الأرض} المهمه {حَيْرَانَ} تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع {لَهُ} أي لهذا المستهوى {أصحاب} رفقة {يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} إلى أن يهدوه الطريق المستوي. أو سمي الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له {ائتنا} وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجنّ تستهوي الإنسان. والغيلان تستولي عليه، كقوله: {كالذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} [البقرة: 275] فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} وهو الإسلام {هُوَ الهدى} وحده وما وراءه ضلال وغيّ {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} [آل عمران: 85]. {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32].
فإن قلت: فما محل الكاف في قوله: {كالذى استهوته}؟ قلت النصب على الحال من الضمير في {نُرَدُّ على أعقابنا} أي: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت: ما معنى {استهوته}؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه.
فإن قلت: ما محل: {أَمْرُنَا} قلت: النصب عطفاً على محل قوله: {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم.
فإن قلت: ما معنى اللام في {لِنُسْلِمَ}؟ قلت: هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم.
فإن قلت: فإذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعو؟ قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، خصوصاً بينه وبين الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

.تفسير الآيات (72- 73):

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ}؟ قلت: على موضع {لِنُسْلِمَ} كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا: أي للإسلام ولإقامة الصلاة {قَوْلُهُ الحق} مبتدأ. ويوم يقول: خبره مقدّماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقراء، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين. والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء {كُن} فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. و{يَوْمَ يُنفَخُ} ظرف لقوله: {وَلَهُ الملك} كقوله: {لّمَنِ الملك اليوم}؟ [غافر: 16] ويجوز أن يكون {قَوْلُهُ الحق} فاعل يكون، على معنى: وحين يقول لقوله الحق، أي لقضائه الحق {كُن} فيكون قوله الحق. وانتصاب اليوم لمحذوف دلّ عليه قوله {بالحق} كأنه قيل: وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق {عالم الغيب} هو عالم الغيب، وارتفاعه على المدح.

.تفسير الآيات (74- 79):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
{ءَازَرَ} اسم أبي إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح. والأقرب أن يكون وزن {ءَازَرَ} فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيان لأبيه. وقرئ: {آزر} بالضم على النداء. وقيل: {آزر} اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ، فقيل: ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين:
أُدْعَى بَأَسْمَاءَ نَبْزاً في قَبَائِلِهَا ** كَأَنَّ أَسْمَاءَ أَضْحَتْ بَعْدُ أَسْمَائِي

أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ: {ءأزر} تتخذ أصناماً آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاي ساكنة وراء منصوبة منونة، وهو اسم صنم. ومعناه: أتعبد آزراً على الإنكار؟ ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} عطف على قال إبراهيم لأبيه: وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: مثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره. ملكوت السموات والأرض: يعني الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال. وليكون من الموقنين: فعلنا ذلك. ونروي: حكاية حال ماضية، وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها، وصانعاً صنعها، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها {هذا رَبّى} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة {لا أُحِبُّ الأفلين} لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام {بَازِغاً} مبتدئاً في الطلوع {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه {هذا أَكْبَرُ} من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه {إِنّى بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ} من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض} أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله. والأوّل أظهر لقوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} وقوله: {قَالَ ياقوم إِنّى بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ}.
فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب.
فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله: {هذا رَبّى} والإشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، و{لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله {علام} ولم يقولوا {علامة} وإن كان العلامة أبلغ، احترازاً من علامة التأنيث. وقرئ: {تري إبراهيمَ ملكوتُ السموات والأرض} بالتاء ورفع الملكوت. ومعناه: تبصره دلائل الربوبية.