فصل: تفسير الآيات (77- 78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (75- 76):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
عن ابن عباس {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} هو عبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريشٍ ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأدّاه إليه. و{مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه. وقيل: المأمونون على الكثير النصارى، لغلبة الأمانة عليهم. والخائنون في القليل اليهود، لغلبة الخيانة عليهم {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} إلا مدّة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه متوكلاً عليه بالمطالبة والتعنيف، أو بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه. وقرئ: {يؤده} بكسر الهاء والوصل، وبكسرها بغير وصل، وبسكونها.
وقرأ يحيى بن وثاب: {تئمنه}، بكسر التاء. ودمت بكسر الدال من دام يدام {ذلك} إشارة إلى ترك الأداء الذي دلّ عليه لم يؤدّه، أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاميين سَبِيلٌ} أي لا يتطرّق علينا عتاب وذم في شأن الأمييين، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم، لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون: لم يجعل لهم في كتابنا حرمة. وقيل: بايع اليهود رجالاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا: ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها: «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَّ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر» وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أكل أموالهم إلا بطيبة أنفسهم. {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب} بادعائهم أن ذلك في كتابهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون {بلى} إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم. وقوله: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} جملة مستأنفة مقرّرة للجملة التي سدّت بلى مسدّها، والضمير في بعهده راجع إلى من أوفى، على أنّ كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإنّ الله يحبه. فإن قلت، فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله.
قلت: أجل، لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإنّ الله يحبه، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء.
فإن قلت: فأين الضمير الراجع من الجزاء إلى من؟ قلت: عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
وعن ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام وبحيرا الراهب ونظرائهما من مسلمة أهل الكتاب.

.تفسير الآيات (77- 78):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
{يَشْتَرُونَ} يستبدلون {بِعَهْدِ الله} بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدّق لما معهم {وأيمانهم} وبما حلفوا به من قولهم. والله لنؤمنن به ولننصرنه {ثَمَناً قَلِيلاً} متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك. وقيل: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الرشوة على ذلك. وقيل: جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين، فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: لقد هممت أن أَمِيرَكم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً. فقالوا: لعله شبه علينا فرويداً حتى نلقاه. فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته، ثم رجعوا إليه وقالوا: قد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا، ففرح ومارَهُمْ.
وعن الأشعث بن قيس: نزلت فيّ، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «شاهداك أو يمينه» فقلت إذن يحلف ولا يبالي فقال «من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه. والوجه أن نزولها في أهل الكتاب. وقوله: {بِعَهْدِ الله} يقوّي رجوع الضمير في بعهده إلى الله {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} ولا يثني عليهم.
فإن قلت: أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر {لَفَرِيقًا} هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحييّ بن أخطب وغيرهم {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب} يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف وقرأ أهل المدينة: {يلوون}، بالتشديد، كقوله: {لووا رؤوسهم} [المنافقون: 5].
وعن مجاهد وابن كثير: يلون ووجهه أنهما قلبا الواو المضمومة همزة، ثم خففوها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في {لِتَحْسَبُوهُ}؟ قلت: إلى ما دلّ عليه يلوون ألسنتهم بالكتاب وهو المحرف. ويجوز أن يراد: يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب وقرئ: {ليحسبوه} بالياء، بمعنى: يفعلون ذلك ليحسبه المسلمون من الكتاب {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} تأكيد لقوله: هو من الكتاب، وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودلالة على أنهم لا يعرّضون ولا يورُّون وإنما يصرحون بإنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله تعالى على موسى كذلك لفرط جراءتهم على الله وقساوة قلوبهم ويأسهم من الأخرة.
وعن ابن عباس: هم اليهودالذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتاباً بدّلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم.

.تفسير الآيات (79- 80):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى. وقيل: «إنّ أبا رافع القرظي والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله فما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني فنزلت» وقيل: «قال رجل: يا رسول الله، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله» {والحكم} والحكمة وهي السنة {ولكن كُونُواْ ربانيين} ولكن يقول كونوا. والربانيّ: منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون؛ كما يقال: رقباني ولحياني، وهو الشديد التمسك بدين الله وطاعته.
وعن محمد ابن الحنفية: أنه قال حين مات ابن عباس: اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة.
وعن الحسن: ربانيين علماء فقهاء. وقيل: علماء معلمين. وكانوا يقولون: الشارع الرباني: العالم العامل المعلم {بِمَا كُنتُمْ} بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم أوجب أن تكون الربانية التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها: وقرئ {تعلمون}، من التعليم. {وتعلمون} من التعلم {تَدْرُسُونَ} تقرؤن. وقرئ {تدرسون}، من التدريس. وتدرسون على أن أدرس بمعنى درّس كأكرم وكرّم وأنزل ونزَّل. {وتدرّسون}، من التدرّس. ويجوز أن يكون معناه ومعنى تدرسون بالتخفيف: تدرسونه على الناس كقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس} [الإسراء: 106] فيكون معناهما معنى تدرسون من التدريس. وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع، حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. وقرئ {ولا يأمرَكم} بالنصب عطفاً على {ثُمَّ يَقُولَ} وفيه وجهان أحدهما أن تجعل (لا) مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم {أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي. والثاني أن تجعل (لا) غير مزيدة. والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح. فلما قالوا له: أنتخذك رباً؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء. والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وتنصرها قراءة عبد الله {ولن يأمركم}. والضمير في {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} و{أَيَأْمُرُكُم} لبشر.
وقيل الله، والهمزة في أيأمركم للإنكار {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين أستأذنوه أن يسجدوا له.

.تفسير الآيات (81- 83):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
{ميثاق النبيين} فيه غير وجه: أحدها أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك. والثاني أن يضيف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا إلى الموثق عليه، كما تقول ميثاق الله وعهد الله، كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، والثالث: أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف. والرابع: أن يراد أهل الكتاب وأن يرد على زعمهم تهكماً بهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. وتدل عليه قراءة أبيّ وابن مسعود: {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} واللام في {لَمَا ءاتَيْتُكُم} لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف وفي لتؤمنن لام جواب القسم، و (ما) يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن سادّ مسدّجواب القسم والشرط جميعاً وأن تكون موصولة بمعنى: للذي آتيتكموه لتؤمنن به. وقريء: {لما آتيناكم} وقرأ حمزة: {لما آتيتكم}. بكسر اللام ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة؛ ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به. على أن (ما) مصدرية، والفعلان معها أعني {آتيتكم} و {جاءكم} في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه، لأجل أني آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. ويجوز أن تكون (ما) موصولة.
فإن قلت: كيف يجوز ذلك والعطف على آتيتكم وهو قوله: {ثُمَّ جَاءكُمْ} لا يجوز أن يدخل تحت حكم الصفة، لأنك لا تقول: للذي جاءكم رسول مصدق لما معكم؟ قلت: بلى لأنّ ما معكم في معنى ما آتيتكم، فكأنه قيل: للذي آتيكموه وجاءكم رسول مصدق له.
وقرأ سعيد بن جبير {لما} بالتشديد، بمعنى حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة. ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته. وقيل: أصله لمن ما، قاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها فصارت لما. ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى {إِصْرِى} عهدي. وقرئ: {أصرى} بالضم. وسمي إصراً، لأنه مما يؤصر، أي يشدّ ويعقد. ومنه الإصار، الذي يعقد به. ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر، كعبر وعبر، وأن يكون جمع إصار {فاشهدوا} فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار {وَأَنَاْ على ذلكم} من إقراركم وتشاهدكم {مّنَ الشاهدين} وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرُّجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. وقيل: الخطاب للملائكة {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك} الميثاق والتوكيد {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} أي المتمردون من الكفار دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة. والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما. ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره {أ} يتولون {فَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث أنّ الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل.
وروي: أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام؛ وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال صلى الله عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. فنزلت: وقرئ: {يبغون}، بالياء: {وترجعون} بالتاء وهي قراءة أبي عمرو، لأنّ الباغين هم المتولون، والراجعون جميع الناس. وقرئا بالياء معاً، وبالتاء معاً {طَوْعاً} بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه {وَكَرْهًا} بالسَّيف، أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ} [غافر: 84] وانتصب طوعاً وكرها على الحال، بمعنى طائعين ومكرهين.