فصل: تفسير الآيات (8- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (4):

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}
في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحلّ لهم. وإنما لم يقل: ماذا أحلّ لنا، حكاية لما قالوه لأنّ يسألونك بلفظ الغيبة، كما تقول أقسم زيد ليفعلنّ. ولو قيل: لأفعلنّ وأُحلّ لنا، لكان صواباً. و(ماذا) مبتدأ، و(أحلّ لهم) خبره كقولك: أي شيء أحلّ لهم؟ ومعناه: ماذا أحلّ لهم من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحلّ لهم منها، فقيل: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد. {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطف على الطيبات أي أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل (ما) شرطية، وجوابها (فكلوا) والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب: مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب، لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه. أو لأن السبع يسمى كلباً. ومنه قوله عليه السلام: «اللَّهم سلط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: هو كلب بكذا، إذا كان ضارياً به. وانتصاب {مُكَلّبِينَ} على الحال من علمتم.
فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرّباً فيه، موصوفاً بالتكليب. و{تُعَلّمُونَهُنَّ} حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة، وهي أن على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذهُ إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ عن غير متقن، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير أنامله {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرَّفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. وقرئ: {مكلبين} بالتخفيف. وأفعل وفعل يشتركان كثيراً. والإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه، لقوله عليه السلام لعديِّ بن حاتم: «وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه» وعن علي رضي الله عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل. وفرق العلماء، فاشترطوا في سباع البهائم ترك الأكل لأنها تؤدّب بالضرب، ولم يشترطوه في سباع الطير. ومنهم من لم يعتبر ترك الأكل أصلاً ولم يفرق بين إمساك الكل والبعض.
وعن سلمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة رضي الله عنهم: إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وذكرت اسم الله عليه فكل.
فإن قلت: إلام رجع الضمير في قوله: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ}؟ قلت: إمَّا أن يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح. أي سموا عليه عند إرساله.

.تفسير الآية رقم (5):

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
{وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب} قيل: هو ذبائحهم. وقيل: هو جميع مطاعمهم. ويستوي في ذلك جميع النصارى.
وعن علي رضي الله عنه: أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي.
وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس. وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه. وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة. وقال صاحباه: هم صنفان: صنف يقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة. وصنف لا يقرؤن كتاباً ويعبدون النجوم؛ فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما المجوس فقد سنّ بهم سنّة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد وري عن أبي المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد أساء {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا عليكم أن تطعموهم، لأنه لو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم {والمحصنات} الحرائر أو العفائف وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم والإماء من المسلمات يصحّ نكاحهنّ بالاتفاق، وكذلك نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات، فعند أبي حنيفة: هنَّ كالمسلمات، وخالفه الشافعي، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويحتج بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من قولها: إن ربها عيسى.
وعن عطاء: قد أكثر الله المسلمات، وإنّما رخص لهم يومئذ {مُّحْصِنِينَ} أعفاء {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} صدائق، والخدن يقع على الذكر والأنثى {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} بشرائع الإسلام وما أحلّ الله وحرّم.

.تفسير الآية رقم (6):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
{إذا قمتم إلى الصلاة} كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98] وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه، في أن المراد إرادة الفعل.
فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه، فكما عبر عن القدرة عن الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: {نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فاعلين} [الأنبياء: 104] يعني إنا كنا قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأنّ الفعل مسبب عن القدرة والإرادة، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما، ولإيجاز الكلام ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم: كما تدين تدان، إن عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه. وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة قصدتموها؛ لأنّ من توجّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له لا محالة، فعبَّر عن القصد له بالقيام إليه.
فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصَّلاة محدث وغير محدّث، فما وجهه؟ قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» وعنه عليه السلام: «أنه كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه وصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد»، فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال: «عمداً فعلته يا عمر» يعني بياناً للجواز؟ فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملاً للمحدثين وغيرهم لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب.
قلت: لا، لأنَّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض. ثم نسخ (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً. فأمَّا دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] لأن الإعسار علة الإنذار. وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً. وكذلك: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} [البقرة: 187] لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على أن الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: {مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله.
وقوله: {إِلَى المرافق} و{إِلَى الكعبين} لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يدير الماء على مرفقيه» {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} المراد إلصاق المسح بالرأس. وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح، كلاهما ملصق للمسح برأسه. فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روي: أنه مسح على ناصيته. وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة {وأرجلكم} بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها. وقيل: {إِلَى الكعبين} فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.
وعن علي رضي الله عنه: أنه أشرف على فتية من قريش فرأى في وضوئهم تجوزاً، فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلاً ويدلكونها دلكاً.
وعن ابن عمر و: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: «ويل للأعقاب من النار» وفي رواية جابر: «ويل للعراقيب» وعن عمر أنه رأى رجلاً يتوضأ فترك باطن قدميه، فأمره أن يعيد الوضوء، وذلك للتغليظ عليه، وعن عائشة رضي الله عنها لأن تقطعا أحب إليّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين.
وعن عطاء: والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين. وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح.
وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين.
وعن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة.
وقرأ الحسن: وأرجلكم، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ: {فاطهروا} أي فطهروا أبدانكم، وكذلك ليطهركم. وفي قراءة عبد الله: {فأموا صعيداً} {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} في باب الطهارة، حتى لا يرخص لكم في التيمم {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيثيبكم.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}
{واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهي نعمة الإسلام {وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ} أي عاقدكم به عقداً وثيقاً هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان.

.تفسير الآيات (8- 10):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}
عدّى {يَجْرِمَنَّكُمْ} بحرف الاستعلاء مضمناً معنى فعل يتعدّى به، كأنه قيل: ولا يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله: {أَن تَعْتَدُواْ} بمعنى على أن تعتدوا، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام: «من اتبع على مليء فليتبع» أنه بمعنى أحيل. وقرئ: {شَنَآنُ} بالسكون. ونظيره في المصادر (ليان) والمعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} نهاهم أولاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: {هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} أي العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها. أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفاً فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدّم لهم وعداً فقيل: أي شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم. أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء وعد مجرى قال: لأنه ضرب من القول. أو يجعل واقعاً على الجملة التي هي لهم مغفرة، كما وقع (تركنا) على قوله: {سلام على نُوحٍ} [الصافات: 119] كأنه قيل: وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم. وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.