فصل: تفسير الآيات (86- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (84- 85):

{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان، فلذلك وحد الضمير في {قُلْ} وجمع في {ءَامَنَّا} ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه.
فإن قلت: لم عدّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت: لوجود المعنيين جميعاً، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر. ومن قال: إنما قيل {عَلَيْنَا} لقوله: {قُلْ}؛ و{إِلَيْنَا} لقوله: {قولوا} [البقرة: 136] تفرقة بين الرسل والمؤمنين، لأن الرسول يأتيه الوحي على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسف. ألا ترى إلى قوله: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 68]، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} [النساء: 105] وإلى قوله: {ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ}. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتها؛ ثم قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى: {دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} من الذين وقعوا في الخسران مطلقاً من غير تقييد للشياع. وقرئ: {ومن يبتغ غير الإسلام} بالإدغام.

.تفسير الآيات (86- 89):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}
{كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا} كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق، وبعدما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوّة وهم اليهود كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به؛ وذلك حين عاينوا ما يوجب قوّة إيمانهم من البينات. وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم طعمة بن أبيرق، وَوَحْوَحُ بن الأسلت، والحرث بن سويد بن الصامت.
فإن قلت: علام عطف قوله {وَشَهِدُواْ}؟ قلت: فيه وجهان: أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، كقوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقين: 10] وقول الشاعر:
... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ** وَلاَ نَاعِبٍ............

ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار (قد) بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق {والله لاَ يَهْدِى} لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم. {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} الكفر العظيم والارتداد {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا أو ودخلوا في الصلاح. وقيل: نزلت في الحرث بن سويد بعد أن ندم على ردّته وأرسل إلى قومه أن سلوا: هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية. فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته.

.تفسير الآيات (90- 91):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
{ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطنعهم في كل وقت، وعداوتهم له. ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وازديادهم الكفر أن قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة.
فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.
فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين {لَّن تُقْبَلَ} بغير فاء، وفي الآخرى {فَلَن يُقْبَلَ}؟ قلت: قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء. وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سبباً في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم.
فإن قلت: فحين كان المعنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر.
فإن قلت: فأي فائدة في هذه الكناية، أعني أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع، قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها، ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة {ذَهَبًا} نصب على التمييز.
وقرأ الأعمش: {ذهب}، بالرفع رداً على ملء، كما يقال: عندي عشرون نفساً رجال.
فإن قلت: كيف موقع قوله: {وَلَوِ افتدى بِهِ}؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى. كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} [الزمر: 47] والمثل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله (ولا هيثم الليلة للمطيّ) وقضية ولا أبا حسن لها، تريد: ولا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت. وذلك أنّ المثلين يسدّ أحدهما مسدّ الآخر فكانا في حكم شيء واحد، وأن يراد: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً كان قد تصدق به، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه. وقرئ: {فلن يَقْبَلَ من أحدهم ملء الأرض ذهباً} على البناء للفاعل وهو الله عزّ وعلا، ونصب ملء. ومل لرض بتخفيف الهمزتين.

.تفسير الآية رقم (92):

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
{لَن تَنَالُواْ البر} لن تبلغوا حقيقة البرّ، ولن تكونوا أبراراً. وقيل: لن تنالوا بر الله وهو ثوابه {حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها. وتؤثرونها كقوله: {أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله.
وروي: أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله. إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال رابح أو مال رائح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: افعلِ يا رسول الله فقسمها في أقاربه.
وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله أسامة بن زيد، فكأنّ زيداً وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الله تعالى قد قبلها منك». وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال: إن الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة. فقال: خنتني، قال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.
وقرأ عبد الله: {حتى تنفقوا بعض ما تحبون}. وهذا دليل على أنّ (من) في {مِمَّا تُحِبُّونَ} للتبعيض. ونحوه: أخذت من المال. ومن في {مِن شَيْء} لتبيين ما تنفقوا، أي من أي شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه {فَإِنَّ الله} عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه.

.تفسير الآيات (93- 94):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
{كُلُّ الطعام} كل المطعومات أو كل أنواع الطعام. والحل مصدر. يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلاً، وعزّ الرجل عزاً، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيبه لحله وحرمه» ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال الله تعالى: {لاهنَّ حلٌّ لهم} [الممتحنة: 10] والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه لحوم الإبل وألبانها وقيل العروق. كان به عرق النسا، فنذر إن شفي أن يحرّم على نفسه أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحبه إليه فحرّمه. وقيل: أشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من الله، فهو كتحريم الله ابتداء والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16] إلى قوله تعالى: {عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] وفي قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] إلى قوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} بزعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.

.تفسير الآية رقم (95):

{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}
{قُلْ صَدَقَ الله} تعريض بكذبهم كقوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لصادقون} [الأنعام: 146] أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه.

.تفسير الآيات (96- 97):

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
{وُضِعَ لِلنَّاسِ} صفة لبيت، والواضع هو الله عز وجلّ، تدل عليه قراءة من قرأ {وضع للناس} بتسمية الفاعل وهو الله. ومعنى وضع الله بيتا للناس، أنه جعله متعبداً لهم، فكأنه قال: إن أوّل متعبد للناس الكعبة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال: «المسجد الحرام. ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» وعن عليّ رضي الله عنه أن رجلاً قال له: أهو أوّل بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.
وعن ابن عباس: هو أوّل بيت حُجَّ بعد الطوفان. وقيل: هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أوّل بيت بناه آدم في الأرض. وقيل: لما هبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له: الضراح، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} البيت الذي ببكة، وهي عَلَمٌ للبلد الحرام، ومكة وبكة لغتان فيه، نحو قولهم: النبيط والنميط، في اسم موضع بالدهناء: ونحوه من الاعتقاب: أمر راتب وراتم. وحمى مغمطة ومغبطة وقيل: مكة، البلد، وبكة: موضع المسجد.
وقيل اشتقاقها من (بكه) إذا زحمه لازدحام الناس فيها.
وعن قتادة: يَبُكُّ الناس بعضهم بعضاً الرجال والنساء، يصلي بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة. قال:
إذَا الشَّرِيبُ أخذَتْهُ الأَكَّهْ ** فَخَلِّهِ حَتى يَبُكَّ بَكَّهْ

وقيل: تبك أعناق الجبابرة أي تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى. {مُبَارَكاً} كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار {وَهُدًى للعالمين} لأنه قبلتهم ومتعبدهم {مَّقَامِ إبراهيم} عطف بيان لقوله: {ءايات بينات فاسأل}.
فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] والثاني: اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية.
ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما. ونحوه في طيِّ الذكر قول جرير:
كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمو ** مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا

ومنه قوله عليه السلام: «حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة» وقرأ ابن عباس وأبيّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة: {آية بينة}، على التوحيد. وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان.
فإن قلت: كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى، لأن قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} دلّ على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات: مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، من دخله كان آمناً صحّ، لأنه في معنى قولك: فيه آية بينة، أمن من دخله.
فإن قلت: كيف كان سبب هذا الأثر؟ قلت: فيه قولان: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى يغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقي أثر قدميه عليه. ومعنى {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} معنى قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام {رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا} [البقرة: 126] وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب.
وعن عمر رضي الله عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» وعند أبي حنيفة: من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا».
وعنه عليه الصلاة والسلام: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة» وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود: وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة، فقال «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام» {مَنِ استطاع} بدل من الناس.
وروي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء.
وعن ابن الزبير: هو على قدر القوّة. ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه. وعنه: ذلك على قدر الطاقة، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة، وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع.
وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج. والضمير في {إِلَيْهِ} للبيت أو للحج. وكلُّ مأتيّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد؛ ومنها قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها قوله: {وَمَن كَفَرَ} مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً» ونحوه من التغليط: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله: {عَنِ العالمين} وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.
وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود، فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب وروى: أنه لما نزل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه، فنزل {وَمَن كَفَرَ} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لا تحجوا، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت.
وعن عمر رضي الله عنه: لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا وقرئ {حج البيت} بالكسر.