فصل: تفسير الآيات (90- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (80- 84):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
{وَلُوطًا} وأرسلنا لوطاً. و{إِذْ} ظرف لأرسلنا. واذكر لوطاً، وإذ بدل منه، بمعنى: واذكر وقت: {قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} أتفعلون السيئة المتمادية في القبح {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} ما عملها قبلكم، والباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه الصلاة و السلام: «سبقك بها عكاشة» {مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين} (من) الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض.
فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة مستأنفة، أنكر عليهم أوّلاً بقوله: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أوّل من عملها. أو على أنه جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: لما لانأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} بيان لقوله: أتأتون الفاحشة. والهمزة مثلها في {أَتَأْتُونَ} للإنكار والتعظيم. وقرئ: {إنكم} على الإخبار المستأنف لتأتون الرجال، من أتى المرأة إذا غشيها {شَهْوَةً} مفعول له، أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلاّ مجرّد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذمّ أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، و أنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماجة {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتباع الشهوات وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في بعض قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166]. {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ} يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام، من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشرّ كله، لكنهم جاؤا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم. وقولهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخاراً بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذالمتزهد {وَأَهْلَهُ} ومن يختصّ به من ذويه أو من المؤمنين {مِنَ الغابرين} من الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فهلكوا. والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وكانت كافرة موالية لأهل سدوم.
وروي: أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. وقيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم.
وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم.
وروي: أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه.
فإن قلت: أي فرق بين مطر وأمطر؟ قلت: يقال مطرتهم السماء وواد ممطور. وفي نوابغ الكلم: حرى غير ممطور. وحرى أن يكون غير ممطور ومعنى مطرتهم: أصابتهم المطر، كقولهم: غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال: أمطرت عليهم كذا، بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32]، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} [هود: 82]. ومعنى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً يعني الحجارة. ألا ترى إلى قوله: {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} [الأعراف: 84].

.تفسير الآيات (85- 87):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}
كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} معجزة شاهدة بصحة نبوّتي أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا.
فإن قلت: ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة، لقوله: {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} ولأنّه لابد لمدعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلاّ لم تصحّ دعواه، وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه. ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روي من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه. وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات؛ لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزات لشعيب.
فإن قلت: كيف قيل: {الكيل والميزان} وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هود عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل وهو المكيال، أو سمي ما يكال به الكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به. أو أريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر، ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه، قيل للمكس: البخس، وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخس. وقيل: {أَشْيَاءهُمْ} لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلاّ مكسوه كما يفعل أمراء الحرمين. وروى: أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعاً، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفاً {بَعْدَ إصلاحها} بعد الإصلاح فيها، أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم. وإضافته كإضافة قوله: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] بمعنى بل مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف {ذلكم} إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض، أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى: {خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط} ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين.
والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} ومحل {تُوعَدُونَ} وما عطف عليه: النصب على الحال أي: ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً.
فإن قلت: صراط الحق واحد، {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فكيف قيل: بكل صراط؟ قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها أوعدوه وصدّوه. فإن قلت؛ إلام يرجع الضمير في {ءَامَنَ بِهِ}؟ قلت: إلى كل صراط. تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه. وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد فيقولون لمن مر بهم إنَّ شعيباً كذاب فلا يفتنكم عن دينكم كما كان يفعل قريش بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق. وقيل: كانوا عَشَّارين {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} وتطلبون لسبيل الله عوجاً، أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها: أو يكون تهكماً بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأن طريق الحق لا يعوج {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً} إذ مفعول به غير ظرف. أي: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} الله ووفر عددكم. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا. ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم: فجعلكم مكثرين موسرين. أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد {عاقبة المفسدين} آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة {فاصبروا} فتربصوا وانتظروا {حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} أي بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} [التوبة: 52] أو هو عظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين، أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.

.تفسير الآيات (88- 89):

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}
أي ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم؛ وإمّا عودكم في الكفر.
فإن قلت: كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وكيف أجابهم بقوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلاّ ما ليس فيه تنفير، فضلاً عن الكبائر، فضلاً عن الكفر؟ قلت: لما قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ} فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا: {لَتَعُودُنَّ} فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراءً للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} وهو يريد عود قومه، إلاّ أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب.
فإن قلت: فما معنى قوله {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله} والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر؟ قلت: معناه إلاّ أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، وقلوبهم كيف تتقلب؛ وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} حسماً لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة {أَوَلوْ كُنَّا كارهين} الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. وما يكون لنا، وما ينبغي لنا. وما يصحّ لنا {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا} احكم بيننا. والفتاحة؛ الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا {وَبَيْنَ قَوْمِنَا} وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} كقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يونس: 159].
فإن قلت: كيف أسلوب قوله: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}؟ قلت: هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام. لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب. حيث يزعم أن لله نداً ولا ندّ له. والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل.
والثاني: أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام، بمعنى: والله لقد افترينا على الله كذباً.

.تفسير الآيات (90- 92):

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}
{وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} أي أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَت تجارتهم} [البقرة: 16] وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية، فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا} وجواب الشرط؟ قلت: قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} سادّ مسدّ الجوابين {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} مبتدأ خبره {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} وكذلك {كَانُواْ هُمُ الخاسرين} وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم؛ لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير: مبالغة في ردّ مقالة الملإ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.