فصل: تفسير الآية رقم (142):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (133- 137):

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
في مصاحف أهل المدينة والشام (سارعوا) بغير واو.
وقرأ الباقون بالواو. وتنصره قراءة أبيّ وعبد الله: وسابقوا ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحقان به {عَرْضُهَا السماوات والأرض} [الحديد: 1] أي عرضها عرض السموات والأرض، كقوله: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والارض} والمراد وصفها بالسعة والبسطة، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه. وخص العرض، لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، كقوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54].
وعن ابن عباس رضي الله عنه: كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض {فِى السَّرَّاء والضراء} في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل، كما حكي عن بعض السلف: أنه ربما تصدّق ببصلة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدّقت بحبة عنب أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة، لا تمنعهم حال فرح وسرور، ولا حال محنة وبلاء، من المعروف، وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس، فإنه لا يدع الإحسان. وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
كظم القربة: إذا ملأها وشد فاها. وكظم البعير: إذا لم يجتر. ومنه كظم الغيظ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً»، وعن عائشة رضي الله عنها: أن خادماً لها غاظها فقالت: لله درّ التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء. {والعافين عَنِ الناس} إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» وعن ابن عيينة: أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت» {والله يُحِبُّ المحسنين} يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون. وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء {والذين} عطف على المتقين. أي أعدت للمتقين وللتائبين. وقوله: {أولئك} إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك {فاحشة} فعلة متزايدة القبح {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} أو أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة والزنا. وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل: الفاحشة الكبيرة. وظلم النفس الصغيرة {ذَكَرُواْ الله} تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإنّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه {وَلَمْ يُصِرُّواْ} ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» وروي: «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فعل الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معاً. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها وبالوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون وتائبون ومصروُّن. وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم، دون المصرّين. ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال {أَجْرُ العاملين} بعد قوله: {جَزَآؤُهُمْ} [آل عمران: 87] لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون.
وروي أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي.
وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة.
وعن الحسن رضي الله عنه: يقول الله تعالى يوم القيامة «جوزوا والصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضي الله عنها أنها كانت تنشد:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ** إنّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ

والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك. يعني المغفرة والجنات {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يريد ما سنه الله في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: {وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْل} [الأحزاب: 61] {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [الفتح: 22]، {سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} [الفتح: 23].

.تفسير الآيات (138- 139):

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}
{هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، يعني: حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} يعني أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين ويجوز أن يكون قوله: {قَدْ خَلَتْ} جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين، ويكون قوله: {هذا بَيَانٌ} إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرّين {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية من قلوبهم، يعني ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم، أي لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا، ولا تبالوا به، ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد. أو وأنتم الأعلون شأناً، لأنّ قتالكم لله ولإعلاء كلمته، وقتالهم للشيطان لإعلاء كلمة الكفر، ولأنّ قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار. أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة، أي وأنتم الأعلون في العاقبة {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173]. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلق بالنهي بمعنى: ولا تهنوا إن صح إيمانكم على أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه. أو بالأعلون، أي إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.

.تفسير الآيات (140- 141):

{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
قرئ {قرح} بفتح القاف وضمها، وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: هو بالفتح الجراح، وبالضم ألمها.
وقرأ أبو السَّمَّال {قرح} بفتحتين.
وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد. والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال. فأنتم أولى أن لا تضعفوا. ونحوه {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104] وقيل: كان ذلك يوم أحد، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: كيف قيل {قَرْحٌ مّثْلُهُ} وماكان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلت: بلى كان مثله، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار. ألا ترى إلى قوله تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وتنازعتم فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تحبون} [آل عمران: 75]. {وَتِلْكَ الايام} تلك مبتدأ، والأيام صفته. و{نُدَاوِلُهَا} خبره، ويجوز أن يكون {تِلْكَ الايام} مبتدأ وخبراً، كما تقول: هي الأيام تبلي كل جديد. والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة، نداولها: نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كقوله وهو من أبيات الكتاب:
فَيَوْما عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا ** وَيَوْما نُسَاءُ وَيَوما نُسَرّ

ومن أمثال العرب: الحرب سجال.
وعن أبي سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة، أين ابن أبي قحافة، أين ابن الخطاب. فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر. فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال. فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا، والمداولة مثل المعاورة. وقال:
يَرِدُ المِيَاهَ فَلاَ يَزَالُ مُدَاوِلا ** فِي النَّاسِ بَيْنَ تَمَثلٍ وَسَمَاعِ

يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} فيه وجهان: أحدهما أن يكون المعلل محذوفاً معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل، بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها. وقيل: معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات، والثاني أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجري عليه من المصائب، ولا يشعر أنّ لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} وليكرم ناساً منكم بالشهادة، يريد المستشهدين يوم أحد.
أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد، من قوله تعالى: {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143]. {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيل الله، الممحصين من الذنوب. والتمحيص: التطهير والتصفية {وَيَمْحَقَ الكافرين} ويهلكهم. يعني: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين، فلمحقهم ومحو آثارهم.

.تفسير الآية رقم (142):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
{أَمْ} منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} بمعنى ولما تجاهدوا، لأنّ العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيراً، يريد: ما فيه خير حتى يعلمه. ولما بمعنى لم، إلا أن فيها ضرباً من التوقع فدلّ على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله. وقرئ: {ولما يعلمَ اللَّهُ} بفتح الميم. وقيل: أراد النون الخفيفة ولما يعلمَن فحذفها {وَيَعْلَمَ الصابرين} نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع، كقولك: لا تأكل السمك وتشربَ اللبن.
وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو {ويعلم} بالرفع على أنّ الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.

.تفسير الآية رقم (143):

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر. وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعني: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده.
فإن قلت: كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم؟ قلت: قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته. ولقد قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله:
لكِنَّني أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ** وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا

أو طَعْنَةً بِيَدي حَرَّانَ مُجْهِزَةً ** بِحَرْبَةَ تَنفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا

حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثي ** أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدا