فصل: تفسير الآية رقم (144):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (142- 143):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}
{يخادعون الله} يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع: اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. وقيل: يعطون على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين، فينادون: انظرونا نقتبس من نوركم {كسالى} قرئ بضم الكاف وفتحها، جمع كسلان، كسكارى في سكران، أي يقومون متثاقلين متقاعسين، كما ترى من يفعل شيئاً على كره لا عن طيبة نفس ورغبة {يُرَآءُونَ الناس} يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل أيضاً لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلاً في الندرة، وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ويجوز أن يراد بالقلة العدم.
فإن قلت: ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟ قلت: فيها وجهان، أحدهما: أن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسانه.
والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل، فيقال: راءى الناس. يعني رآهم، كقولك: نعمه وناعمه، وفنقه وفانقه وعيش مفانق. روى أبو زيد: رأت المرأة المرأة الرجل، إذا أمسكتها لترى وجهه، ويدل عليه قراءة ابن أبي إسحاق: يرأونهم بهمزة مشدّدة: مثل. يرعونهم، أي يبصرونهم أعمالهم ويراؤونهم كذلك {مُّذَبْذَبِينَ} إمّا حال نحو قوله: (ولا يذكرون) عن واو يراؤن، أي يراؤنهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم. ومعنى (مذبذبين) ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، فهم متردّدون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمى به الرحوان إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه.
وقرأ ابن عباس {مذبذبين} بكسر الذال، بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. أو بمعنى يتذبذبون. كما جاء: صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد الله. متذبذبين.
وعن أبي جعفر: {مدبدبين}، بالدال غير المعجمة وكأن المعنى: أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة: الطريقة ومنها: دبة قريش. و{ذلك} إشارة إلى الكفر والإيمان {لآ إلى هؤلاءآء} لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين {وَلاَ إلى هؤلاءآء} ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون مشركين.

.تفسير الآية رقم (144):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}
{لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء} لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء {سلطانا} حجة بينة، يعني أن موالاة الكافرين بينة على النفاق.
وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر؛ فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.

.تفسير الآيات (145- 146):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}
{الدرك الأسفل} الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وقرئ بسكون الراء، والوجه التحريك، لقولهم: أدراك جهنم.
فإن قلت: لِمَ كان المنافق أشدّ عذاباً من الكافر؟ قلت: لأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق {واعتصموا بالله} ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه {فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين} فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} فيشاركونهم فيه ويساهمونهم.
فإن قلت: مَن المنافق؟ قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به: بالمنافق فللتغليظ، كقوله: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»، وقيل لحذيفة رضي الله عنه: مَن المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعدّه من النفاق.
وعن الحسن: أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفاً، يعني الحجاج.

.تفسير الآية رقم (147):

{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
{مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثار، أم يستجلب به نفعاً، أم يستدفع به ضرراً كما يفعل الملوك بعذابهم، وهو الغنيّ الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب {وَكَانَ الله شاكرا} مثيباً موفياً أجوركم {عَلِيماً} بحق شكركم وإيمانكم.
فإن قلت: لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكراً مبهماً، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدماً على الإيمان، وكأنه أصل التكليف ومداره.

.تفسير الآيات (148- 149):

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}
{إَلاَّ مَن ظُلِمَ} إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] وقيل: ضاف رجل قوماً فلم يطعموه، فأصبح شاكياً، فعوتب على الشكاية فنزلت، وقرئ {إلا من ظلم} على البناء للفاعل للانقطاع. أي ولكن الظالم راكب ما لا يحبه الله فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (من ظلم) مرفوعاً، كأنه قيل: لا يحب الله الجهر بالسوء، إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] ثم حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوباً، حثاً على الأحب إليه، والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تنبيهاً للعفو، ثم عطفه عليهما اعتداداً به وتنبيهاً على منزلته، وأن له مكاناً في باب الخير وسيطاً والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله: {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} أي يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله.

.تفسير الآيات (150- 151):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}
جعل الذين آمنوا بالله وكفروا برسله أو آمنوا بالله وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين بالله ورسله جميعاً لما ذكرنا من العلة، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلاً: أن يتخذوا ديناً وسطاً بين الإيمان والكفر كقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] أي طريقاً وسطاً في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد أخطؤوا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان ولذلك قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} أي هم الكاملون في الكفر. و(حقاً) تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقاً، أي حق ذلك حقاً، وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفراً حقاً ثابتاً يقيناً لا شك فيه.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
فإن قلت: كيف جاز دخول {بَيْنَ} على {أَحَدٍ} وهو يقتضي شيئين فصاعداً؟ قلت: إن أحداً عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت أحداً، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بني فلان، وإلا بنات فلان؛ فالمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة ومنه قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} [الأحزاب: 32]، {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} معناه: أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخراً.

.تفسير الآيات (153- 159):

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
روي: أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً صادقاً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى. فنزلت. وقيل: كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان أنك رسول الله، وقيل: كتاباً نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت، قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم، وفيما آتاهم كفاية {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى} جواب لشرط مقدر. معناه: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى. {أَكْبَرَ مِن ذلك} وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت {جَهْرَةً} عياناً بمعنى أرناه نره جهرة {بِظُلْمِهِمْ} بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالماً ولا رماه بالصاعقة، فتباً للمشبهة ورمياً بالصواعق {وَءَاتَيْنا مُوسَى اسلطانا مُّبِيناً} تسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيالك من سلطان مبين {بميثاقهم} بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه {وَقُلْنَا لَهُمُ} والطور مطل عليهم {ادخلوا الباب سُجَّداً} ولا تعدوا في السبت، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ: {لا تعتدوا}. {ولا تعدّوا}، بادغام التاء في الدال {فَبِمَا نَقْضِهِم} فبنقضهم. و(ما) مزيدة للتوكيد.
فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ قلت: إما أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإما أن يتعلق بقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} على أنّ قوله: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} [النساء: 160] بدل من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك.
فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم، بل طبع الله عليها بكفرهم.
قلت: لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ردّ وإنكار لقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فكان متعلقاً به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم: (قلوبنا غلف) أن الله خلق قلوبنا غلفاً، أي في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى الله عن المشركين وقالوا: {لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم} [الزخرف: 20] وكمذهب المجبرة أخزاهم الله، فقيل لهم: بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ}؟ قلت: الوجه أن يعطف على (فبما نقضهم) ويجعل قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلاماً تبع قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على وجه الاستطراد، يجوز عطفه على ما يليه من قوله: (بكفرهم).
فإن قلت: ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً على ما فيه ذكره، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: {وَكُفْرِهِم بئايات الله} وقوله: {بِكُفْرِهِمْ}؟ قلت: قد تكرّر منهم الكفر، لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات الله عليهم، فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: فبجمعهم بين نقض الميثاق، والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء وقولهم: قلوبنا غلف، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم، وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم: هو التزنية.
فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا: (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله)؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيماً لما أرادوا بمثله كقوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [الزخرف: 9] روي أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم «اللَّهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني، اللَّهم العن من سبني وسب والدتي»، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا. فألقي- عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجلاً ينافق عيسى، فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقي شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا.
فإن قلت: {شُبّهَ} مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت: هو مسند إلى الجار والمجرور وهو {لهم} كقولك خيل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه.
ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول: لأنّ قوله: إنا قتلنا يدل عليه، كأنه قيل: ولكن شبه لهم من قتلوه {إِلاَّ اتباع الظن} استثناء منقطع لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم، يعني: ولكنهم يتبعون الظن.
فإن قلت: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين، ثم وصفوا بالظن والظن أن يرتجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا، فذاك {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} وما قتلوه قتلاً يقيناً. أو ما قتلوه متيقنين، كما ادّعوا ذلك في قولهم: (إنا قتلنا المسيح) أو يجعل (يقيناً) تأكيداً لقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ} كقولك: ما قتلوه حقاً أي حق انتفاء قتله حقاً. وقيل: هو من قولهم: قتلت الشيء علماً ونحرته علماً إذا تبالغ فيه علمك. وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق. ثم قيل: وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكماً بهم {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ به. ونحوه: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمننّ قبل موته بعيسى، وبأنه عبد الله ورسوله، يعني: إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف.
وعن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: آية ما قرأتها إلا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية، وقال: إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا: يا عدوّ الله، أتاك موسى نبياً فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبيّ. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله أو ابن الله، فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إليّ وقال: ممن؟ قلت: حدثني محمد بن عليّ ابن الحنفية، فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية، أو من معدنها. قال الكلبي: فقلت له: ما أردت إلى أن تقول حدثني محمد بن عليّ ابن الحنفية. قال: أردت أن أغيظه، يعني بزيادة اسم عليّ، لأنه مشهور بابن الحنفية.
وعن ابن عباس أنه فسره كذلك، فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال: لا تخرج نفسه حتى يحرّك بها شفتيه. قال: وإن خرّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. وتدل عليه قراءة أبيّ: {إلا ليؤمننّ به قبل موتهم} بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم، لأنّ أحداً يصلح للجمع.
فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لابد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاماً للحجة لهم، وكذلك قولهُ: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله. وقيل: الضميران لعيسى، بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي: «أنه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه» ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم. وقيل: الضمير في (به) يرجع إلى الله تعالى. وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وسلم.