فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (16):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
{أَمْ} منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم {وَلَمَّا} معناها التوقع، وقد دلّت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} معطوف على جاهدوا، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم المخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة: فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كقول القائل. ما علم الله مني ما قيل فيّ، يريد: ما وجد ذلك مني.

.تفسير الآية رقم (17):

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صحّ لهم ما استقام {أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله} يعني المسجد الحرام، لقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها؛ فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد.
والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. و{شاهدين} حال من الواو في {يَعْمُرُواْ} والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجراً. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت {حَبِطَتْ أعمالهم} التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله: {شاهدين} حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.

.تفسير الآية رقم (18):

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} وقرئ بالتوحيد: أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» وقال عليه الصلاة و السلام: «قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زوّاري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره» وعنه عليه الصلاة و السلام: «من ألف المسجد ألفه الله» وقال عليه الصلاة و السلام: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» وعن أنس رضي الله عنه: (من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه).
فإن قلت: هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه الصلاة و السلام. وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فإن قلت: كيف قيل: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} والمؤمن يخشى المحاذير، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران: أحدهما حقّ الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم {فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
السقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية. ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره {أَجَعَلْتُمْ} أهل {سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله} تصدقه قراءة (ابن الزبير وأبي وجزة السعدي) وكان من القراء: {سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام}، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوي بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر.
وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل. وقيل: إن علياً رضي الله عنه قال للعباس: يا عمّ ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألست في أفضل من الهجرة: أسقي حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلاّ تارك سقايتنا. فقال عليه السلام: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً».

.تفسير الآيات (20- 22):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
هم {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} من أهل السقاية والعمارة عندكم {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم وقرئ: {يبشرهم} بالتخفيف والتثقيل، وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: هي في المهاجرين خاصة.

.تفسير الآيات (23- 24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلاّ بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا: يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة فنهى الله تعالى عن موالاتهم.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله: حتى يحبّ في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» وقرئ: {عشيرتكم} و {عشيراتكم}.
وقرأ الحسن: وعشائركم {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} وعبيد عن ابن عباس هو فتح مكة وعن الحسن هي عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها بمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟.

.تفسير الآيات (25- 27):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
مواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها قال:
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طُحْتَ كَمَا هَوَى ** بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي

وامتناعه من الصرف لأنه جمع، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة: وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة.
فإن قلت: كيف عطف الزمان والمكان وهو {يَوْمٍ حُنَيْنٍ} على المواطن؟ قلت: معناه وموطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين. ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذالظاهر. وموجب ذلك أنّ قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ} بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فبقي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به، إلاّ إذا نصبت (إذ) بإضمار (اذكر) وحنين: وادٍ بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة، منضماً إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكانوا الجمّ الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: أبو بكر رضي الله عنه وذلك قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} فاقتتلوا قتالاً شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلاّ عمه العباس رضي الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم، وما هي إلاّ من آيات النبوة وقال: يا ربي ائتني بما وعدتني. وقال صلى الله عليه وسلم للعباس- وكان صيتاً: صيح بالناس، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى: يا أصحاب الشجرة، با أصحاب البقرة، فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمي الوطيس، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم به ثم قال: انهزموا ورب الكعبة فانهزموا، قال العباس: لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض. خلفهم على بغلته {بِمَا رَحُبَتْ} ما مصدرية، والباء بمعنى مع، أي مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها، على أن الجارّ والمجرور في موضع الحال، كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أي ملتبساً بها لم أحلها، تعني مع ثياب السفر.
والمعنى: لا تجدون موضعاً تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} ثم انهزمتم {سَكِينَتَهُ} رحمته التي سكنوا بها وآمنوا {وَعَلَى المؤمنين} الذين انهزموا. وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب {وَأَنزَلَ جُنُوداً} يعني الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل: خمسة آلاف، وقيل: ستة عشر ألفاً {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر، وسبي النساء والذراري {ثُمَّ يَتُوبُ الله} أي يسلم بعد ذلك ناس منهم.
وروي: أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل: سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الأبل والغنم ما لا يحصى، فقال: إنّ عندي ما تروون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا: إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً، فمن كان بيده شيء طابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا».